أحدث الأخبارشؤون امريكية

أسبوع مأساوي أنهى حلم ترمب في السيطرة على الحزب الجمهوري شكل المثل الأعلى لـ”شعبوية حكم الأثرياء” الهادفة إلى إقناع الناخبين بالتركيز على الهوية وتجاهل مصالحهم الاقتصادية

مجلة تحليلات العصر الدولية - باتريك كوبيرن / The Independent

يُقدم الجرذان الجمهوريون الهاربون من سفينة ترمب فُرجة ممتعة وهم يتظاهرون نفاقاً بأن غزوة الكونغرس من قبل حشد متعصب قد كشفت لهم أخيراً إخفاقات دونالد ترمب.

في المقابل، انتشى معارضو ترمب القدامى بقدرتهم الآن على توجيه إدانة صادقة للرئيس، بسبب تحريضه على “تمرد مميت” و “محاولة انقلاب،” بقدرتهم على تشبيه اقتحام الكونغرس بحرق واشنطن من قبل البريطانيين عام 1814 وحتى بالهجوم على مرفأ “بيرل هاربر” في 1941 [هجوم شنته طائرات الأسطول الياباني أثناء الحرب العالمية الثانية قبل إعلان طوكيو الحرب على الولايات المتحدة الأميركية]. في المقابل، ينطوي ذلك على مبالغة، لأن ما حدث لم يكن محاولة منظمة للاستيلاء على السلطة. ومع ذلك، لا يحق لترمب باعتباره أكبر مُزيف للحقائق، الشكاية من تزييف الآخرين للحقائق خدمة لمصالحهم.

ويتمثل الأمر الأغرب في السهولة التي جرى بها احتلال مبنى الكابيتول [مقر الكونغرس] لفترة وجيزة. إذ أبدت شرطة الكابيتول البالغ عددها 2000 شرطي وتعمل بميزانية سنوية تبلغ 460 مليون دولار أميركي (حوالي 339 مليون جنيه إسترليني)، مقاومة ضعيفة، بل أظهرت مقاطع فيديو بعض عناصر الشرطة أثناء تسهيلهم الهجوم. لذا، ليس من المستغرب أن يُدان تسامحهم مع المتظاهرين اليمينيين المؤيدين لترمب على نطاق واسع ومقارنته برد فعلهم الوحشي على مظاهرات حركة “حياة السود مهمة” في العام الماضي. ومع أنه نادراً ما يكون التحّيز العنصري من قِبَل الشرطة في أميركا مادة إخبارية، إلا أنه نادراً ما جاء صارخاً أو حظي بتغطية إعلامية واسعة وفق ما كانه هذه المرة.

ومما يبعث على السرور، رؤية المُشرعين الجمهوريين يتدافعون للخروج من مبنى الكابيتول خوفاً من النشطاء المؤيدين لترمب الذين استغلوا كراهيتهم بسعادة لفترة طويلة.

في المقابل، إنّ الأهم هو محاولة فهم ما سيفعله الحزب الجمهوري بمجرد انتهاء الضجة، على الرغم من أن الديمقراطيين سيبذلون قصارى جهدهم بهدف ضمان عدم انتهائها ووصف “التمرد” كحدث يشبه 11 سبتمبر. لذا، بعدما ظهر ترمب قبل أسبوع كأنه سيظل أكبر قوة داخل الحزب الجمهوري لسنوات مقبلة، لم يعد كذلك الآن.

وعلى الرغم من أنّ الحوادث المأساوية التي توصف في البداية كنقاط تحوّل تاريخية غالباً ما يتبين لاحقاً أنها ليست كذلك، إلا أنني أعتقد أن اقتحام مبنى الكابيتول سيرقى إلى مستوى التوقعات، حتى لو لم يُعادل بالضبط اقتحام سجن الباستيل [في بداية الثورة الفرنسية 1789]. ولعلّ ما يوفر أفضل مقارنة تتمثّل في الغارة التي شنها جون براون المناهض للعبودية في 1859 على مدينة “هاربرز فيري” أعلى نهر “بوتوماك” من واشنطن. ومع أن الظروف قد تكون مختلفة تماماً، إلاّ أنّ كِلا الحدثين حفزا وزادا زخم القوى السياسية الفعّالة التي نشطت قبلهما.

لقد شكّل ذلك [اقتحام الكونغرس] يوماً كارثياً بالنسبة لترمب والترمبيين الذين تلقوا الضربات من سلسلة كوارث متزامنة. ففي فترة زمنية وجيزة، انقلب زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل ونائب الرئيس مايك بنس علانيةً ضد ترمب باعترافهما رسمياً بجو بايدن رئيساً قادماً للبلاد. وفي غضون ذلك، فاز الديمقراطيون بمقعدين في مجلس الشيوخ من ولاية جورجيا، ما منحهم الأغلبية فيه، وتلك هزيمة ألقى عديد من الجمهوريين باللوم فيها على ترمب.

في المقابل، توج ذلك كله بغزو الكابيتول من قبل حشد ترمبي. وقد صُوّرَتْ تفاصيله كلها وبثت عبر أنحاء العالم. وأخيراً، أغلق “تويتر” حساب ترمب (مؤقتاً) وحذف بعض تغريداته التحريضية، ما حجب عنه فترة وجيزة، أهم وسيلة في التواصل مع مؤيديه، إذ ذكر ذات مرة إنه لم يكن ليصبح رئيساً من دون “تويتر”، ويمكن أن يحدث ذلك مرة أخرى.

حتى تلك اللحظة، ربما استنتج ترمب أنه خسر البيت الأبيض، لكنه سيظل الشخصية المسيطرة في الحزب الجمهوري. واستطراداً، يمكنه تأسيس نسخته الخاصة من قناة “فوكس نيوز”. وسيتسابق المرشحون الجمهوريون الذين لا يستطيعون الفوز من دونه، كي يكسبوا دعمه. ويُحتمل أن يكون مرشحهم الرئاسي في 2024 ولديه فرصة جيدة للفوز.

في سحابة يوم، تلاشت تلك الاحتمالات. وبدا ترمب رجلاً مهزوماً يستنكر ويطالب بمعاقبة المتظاهرين المؤيدين له أنفسهم الذين حرّضهم وأشاد بهم كثيراً قبل ذلك بساعات. ولقد ظهر منهكاً ومهزوماً إذ استشعر تلاشي سلطته السياسية.

في صورة عامة، عاشت أميركا والعالم حالة الهوس برجل واحد على مدى أربع سنوات. وجاءت هيمنة ترمب على الأجندة الإخبارية شاملة، واستمرت فترة طويلة إلى درجة أنها أصبحت طبيعية. وحتى أثناء سقوطه، وأعتقد أن هذا سيكون دائماً، إذ سيستمر “هوس ترمب” بين الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء.

مع ذلك، يمثّل ترمب أعراض المرض وأسبابه، ويأتي من قوى سياسية واجتماعية قوية، بعضها عالمية وبعضها خاص بأميركا. ويُعتبر التجسيد المثالي لما يسمى “شعبوية حكم الأثرياء”، وتلك حركة تجمع بين الأثرياء الذين يُمثلون واحداً في المائة من الشعب، والأغنياء جداً الذين يسعون إلى الحصول على خصومات ضريبية وإزالة القيود (عن أنشطتهم الاقتصادية)، مع شريحة واسعة من الشعب التي تركز اهتمامها على هوياتها العرقية والدينية والثقافية. ومن مصلحة الفئة الأولى تشجيع الأخيرة على إعطاء الأولوية لمثل تلك الاهتمامات التي تتنافى مع مصالحها [الشريحة الواسعة]، بدلاً من التركيز على تدهور أو ركود مستوى معيشتها.

عديد من القادة الشعبويون الأثرياء الآخرين في العالم، لكن لا أحد منهم يُضاهي مهارة ترمب ونجاعته. لقد قدم وعوداً غامضة بشأن إعادة الوظائف ذات الأجور الجيدة إلى أميركا وإعادة بناء البنية التحتية المتهالكة للبلاد، لم يفِ بها، لكنه نفّذ البرنامج الجمهوري التقليدي لخفض الضرائب وإزالة القيود. وحتى خلال الأسابيع الفوضوية القليلة الماضية، عملت إدارته على بيع حقوق التنقيب عن النفط في محمية القطب الشمالي الوطنية لحماية الحياة البرية في آلاسكا.

تكتسي شعبوية الحكام الأثرياء طابعاً خاصاً في أميركا بالنظر إلى تاريخ البلاد، ونجاح صيغة سامة من القومية الأميركية المهيمنة حالياً في الحزب الجمهوري. إذ تشكّل قومية متجذرة في ثقافة تشكّلت خلال العبودية والحرب الأهلية بين الشمال والجنوب وقرن من التمييز ضد السود بموجب قوانين “جيم كرو،” وتشريعات الحقوق المدنية في الستينيات من القرن العشرين وردود الفعل ضدها. [تشّكل تلك المعطيات] التاريخ الذي أفرز الناخبين البيض الذكور المسيحيين ممن يقطنون خارج المدن الكبرى، الذين رأوا في ترمب منقذاً لهم.

استطراداً، يحدث الانقسام نفسه في كل انتخابات أميركية. وآخرها في سباقين لمجلس الشيوخ بولاية جورجيا حيث فاز الديمقراطيون بفارق ضئيل على الرغم من قمع الناخبين على نطاق واسع (إذ حُرم من التصويت 275 ألف مجرم مدان، العديد منهم من السود، فيها والتي لديها أعلى معدل احتجاز في الولايات المُتحدة.)

لقد برع ترمب في اللعب بنجاح على تلك الموضوعات العنصرية، مستغلاً الوتر المفزوع والتائق إلى الخلاص في الثقافة الأميركية. ولم يخسر الانتخابات الرئاسية لأن هذه الصيغة لم تعد تعمل، بل بسبب عدم كفاءته الشنيعة في التعامل مع جائحة “كوفيد- 19”.

إذن، بعد هذا الأسبوع، الكارثي من وجهة نظره، هل لا يزال لدى ترمب مستقبل سياسي؟ لا، على الأغلب. لقد أظهرت انتخابات مجلس الشيوخ في جورجيا للجمهوريين أنه يخسرها مثلما يفوز بها. وبشكل حاسم، ربما تكون العصابات المؤيدة له أقل ثورية مما يجري تصويرها، لكن الجمهوريين يريدون إدارة البلاد وليس تفجيرها.

قبل ظهور ترمب بوقت طويل، قيل إن الحزب الجمهوري لم يكن يوماً يحب ناخبيه كثيراً، بل يحتقرهم. ولقد بات هذا صحيحاً بشكل مضاعف اليوم بعدما اضطر قادة الحزب إلى الفرار من المتعصبين الذين أخذوا على محمل الجد رؤية ترمب المُختلة لأميركا، وتصرفوا بموجبها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى