أحدث الأخبارايرانلبنانمحور المقاومة

أضواء على شخصية الامام موسى الصدر في ذكراه الثالثة والاربعين

مجلة تحليلات العصر الدولية - د. أحمد الزين

كنت شابا يافعا عندما اصطحبني والدي معه لحضور لقاء عشائري من أجل إتمام مصالحة بين عائلتي ال المقداد وآل ناصر في الاوزاعي بضاحية بيروت في اواسط السبعينيات.. وفجأة كسر روتين اللقاء والانتظار شخصا طويلا بقامته البهيّة وعباءته البنية وعمامته السوداء، ذو وجه جميل بابتسامته العريضة، وعلت أصوات الحاضرين، وأحدهم يقول: “وصل السيد موسى الصدر”، الذي كان راعي المصالحات لوأد الخلافات العائلية آنذاك، وكان لي شرف رؤيته لاول مرة. وقد رماني القدر ثانية في إحضانه سنة 1978 قبل أختطافه بشهور، عندما حزت منحة للدراسة في الجامعة الاردنية بعمّان، يعود الفضل إليه بمبادرته الرائدة وتجولاته المتعددة على بعض قادة العرب استحصل خلالها على العديد من المنح الدراسية أُعطيت له تعاطفا ومساعدة للطلبة من الطبقة المحرومة في لبنان.
ومن واجب الإحساس بعرفان الجميل والوفاء له، أحببت ان اغوص اكثر في إعماق تلك الشخصية الفذة والقامة العظيمة. وبعد البحث والتدقيق أطلعت من خلالها على حقائق مدهشة على سيرة الامام الصدر وفكره ومشروعه، التي تبيّن جليا حضوره المتميز وطنيا وعربيا وعالميا، حيث برز كانسان استثنائي يمتلك سمات رفيعة وصفات بديعة، ذو عقل متفوق على جيل عصره، أستحوذ على الدراسة والدراية بالعلم والدين وتاريخ الامم، واستخلص العِبر والدروس العملية، واستفاد من التجارب البراغماتية، واستوعب الحاضر بواقعية، واستشرف المستقبل بذهنية تخطيطية، نوّرت العقول وطوّرت المعقول والمنقول..
كان الإمام الصدر بحق عالما دينيا ربانيا، ومجتهدا فقهيا، وسياسيا رساليا، وفيلسوفا عبقريا، ومفكرا داعيا، ومصلحا مجددا، استحق بجدارة ان يكون رجل الاصلاح والنهضة، رجل الوحدة والحوار، رجل المقاومة والعروبة، رجل الإخلاص والتفاني.. كان ناصرا للمظلومين، يعبر عن الآم المحرومين والمعذبين، همه الخدمة لا النعمة، وهو العامل بهمة عالية على إنقاذهم من غياهب الجهل والامية والفقر والاستضعاف والحرمان.. مما جعله مرشدا وطنيا، وملهما إنسانيا، ومثلا اخلاقيا، وقدوة وأنموذجا فريدا، استحوذ على عقول محبيه ومريديه من الطبقة المحرومة وشغل قلوبهم حبا وشغفا وتعلقا به، حيث لبّت نداءه الجماهير الغفيرة من البقاع الى الجنوب مرورا ببيروت، وألتحقوا بحركته وجهاده لانهم وجدوا فيه الامل والمخلص والمنقذ لمعاناتهم الطويلة بسبب حرمان الدولة لحقوقهم، وغياب العدالة الاجتماعية، وتجاهل معاناتهم من اعتداءات العدو الصهيوني وعدوانه المتواصل وإحتلاله لاراضيهم وقاطع أرزاقهم.
وقد ذاع صيته في أرجاء المعمورة لانه كان صاحب فكر عقائدي ثوري استراتيجي، ومقاوما مقداما من الدرجة الاولى، وناشطا سياسيا بارزا في دعم القضية الفلسطينية الحقّة ضد “إسرائيل” العدو الأساسي للأمّة والوطن، وهو الذي كان يدعو دائما الى مقاومته ومواجهته ودحره لدرء أخطار التقسيم والتوطين والتطبيع، حيث اطلق شعاره الشهير: “إنّ إسرائيل شرّ مطلق”. كما كان داعما قويا للثورة الإيرانية ضد نظام الشاه الظالم آنذاك. وقد نشر الامام الصدر، قبل يوم من تغييبه، مقالته الداعمة للثورة الإيرانية في صحيفة لوموند الفرنسية تحت عنوان “نداء الأنبياء”.
لقد تعامل الامام الصدر مع الدين على انه رسالة سماوية ايمانية جاءت لخدمة الانسان، وتعامل مع السياسة بعقلية اخلاقية لا بوظيفة إرتزاقية، بعيدا عن تجار السياسة المستأثرين والمحتكرين، فاطلق شعار رفع الحرمان قائلاً: (نحن لا نعمل سياسة لأجل السياسة، نحن لنا هدف، هدفنا إزالة الحرمان). فاستخدم السياسة وسيلة لردم الهوة بين المواطن والدولة، وكان يعتقد بان الله تعالى يُعبد من خلال خدمة الانسان، وان الوَطَن كيان نهائي لجميع ابنائه، وأيقن ان كل إنسان يمثل قيمة فريدة وطاقة تساهم مجتمعة في قيام الدَّولة العادلة، وكل مشاريع السياسة والتنمية والانماء والخدمات تسخّر لراحته وعيشه الرغيد بعيدا عن حسابات الزعامة والطَّائِفَة والمذهب والمنطقة، لذلك لم يتعامل مع السياسة كغاية لكسب المواقع المتقدمة والمناصب والانتفاعات الشخصية والعائلية، فانه رغم كلّ الممتلكات والمؤسسات التي أسّسها، وكل الاموال التي جمعها، عاش فقيرًا ورحل فقيرا، ولم يورّث مالاً ولا سلطة لعائلته تأسيا بسيرة أجداده الانبياء والائمة الاطهار (ع)، ولم يسجِّل أي جمعية أو مؤسّسة او شركة أو أرض باسمهم بعكس واقع الحال المستجد حيث استحوذ القادة الوارثون وعائلاتهم على كل شيء من مناصب سياسية واموال طائلة وأراضي شاسعة وشركات عديدة وقصور شامخة..
لذلك تنبّه لمقامه الرفيع و قوة تأثيره الساسة المنتفعون لانه كان سيدا بلا جاه وملكا بلا تاج، مما شكل نقلة نوعية عصرية في تطلعه وتحركه الذي كان عابرا للطوائف والمذاهب، ومحاضرا في المسجد والكنيسة والجامعات، حيث استحدث الخطاب السياسي الوطني الواعي، وأضاء على أيقونة لبنان كرسالة للتنوع والتعايش السلمي والتسامح بعيدا عن الطائفية والطغيان الطائفي، وكضرورة حضارية للتلاقي والحوار بين الاديان والتقريب بين المذاهب، لا تستقيم ديموته إلا بجناحيه المسلم والمسيحي، ولا يتكامل كيانه إلا بشقيه المقيم والمعترب.. لذلك عرفوه أعداؤنا في الداخل وخارج الحدود، فتآمروا عليه وحاولوا إغتياله مرات عديدة، وعندما فشلوا خططوا مكرا وخبثا وخديعة فاخفوه في ليبيا على أيدي الطاغية القذافي، الذي لاقى مصيره المحتوم، وبقي لغز الإمام والسرّ المكتوم، وطال الحزن والعزاء المغموم.. ولكن يواسينا ان حلمه بتحرير الارض والانسان الاسير قد تحقق حيث أينعت بذور المقاومة التي زرعها في نفوس الاجيال الصاعدة من المقاومين المؤمنين الشرفاء إيمانا وفكرا وجهادا، وكان الحصاد والقطاف تحريرا ونصرا وقوة وعزة وكرامة..
فشكرا لك يا إمام الوطن والمقاومة – من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق – لولا رؤيتك الثاقبة لما كنت من المتخرجين الجامعيين، ولما نلت شرف العلم والمعرفة، ولما كنت الان أخط كلماتي المتواضعة في حقك إمتنانا ووفاء وتقديرا لك، ولهذا العطاء والمجهود، وتعظيما لشأنك المحمود، وتبجيلا لمقامك الودود..
فالسلام عليك يا إمامي وسيدي يوم ولدت، ويوم عشت، ويوم أسست، ويوم أستشهدت، ويوم تبعث حيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى