أحدث الأخبارايرانشؤون آسيويةمحور المقاومة

إسرائيل بعد عامين على الاغتيال – الرهان: طيف سليماني يحاصرنا

مجلة تحليلات العصر الدولية - علي حيدر / مرصد طه الإخباري

قبل عامَين من اليوم، وضعت كلّ من الولايات المتحدة وإسرائيل رهانات كبرى على تراجُع محور المقاومة وتفكّكه، بتصفية الشخصية الجامعة التي كان لها دورٌ رئيس في إيصاله إلى ما وصل إليه.طه لكن ما حدث واقعاً هو أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية استطاعت امتصاص الضربة الكبرى التي وُجّهت إليها باغتيال الشهيد قاسم سليماني، من دون أن تتزحزح عن استراتيجيّتها النووية والصاروخية والإقليمية، الأمر الذي أفضى، في نهاية المطاف، إلى مضاعفة التهديدات المحيقة بالكيان العبري بدلاً من محاصرتها

لم تكن ثمّة حاجة إلى تلميحات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ولا إلى اعترافات رئيس الاستخبارات الإسرائيلية، اللّواء تامير هايمن، للتأكُّد من أن لإسرائيل دوراً في اغتيال قائد «قوّة القدس» في الحرس الثوري الإيراني، الشهيد قاسم سليماني.طه فعلى رغم أن تحييد سليماني كان مطلباً أميركياً بامتياز، إلّا أنه أيضاً ترجمة لمصلحة إسرائيلية ملحّة، تكفَّل الجانب الأميركي بتلبيتها لأكثر من سبب، من ضمنها أن جانباً أساسياً من أهداف عملية الاغتيال لا يمكن أن يتحقّق إلّا من خلال الدور الأميركي المباشر قراراً وتنفيذاً (عسكرياً لا أمنياً)، وذلك من أجل احتواء أيّ نتائج وتداعيات، لم تكن إسرائيل لتُطيق احتمالها. ومن هنا، فإن أيّ قراءة لأبعاد العملية، لا تتجاوز اللحظة التي اتُّخِذ فيها القرار، تظلّ قراءة مبتورة وقاصرة، على رغم أن توجُّهات ساكن البيت الأبيض ومزاياه الشخصية تلعب دوراً في تفضيل خيار على آخر.

تتعدّد أبعاد الاغتيال، الذي كان يراهَن على إمكانية تشكيله نقطة تحوّل في المعادلة الإقليمية قد تطال بتداعياتها الداخل الإيراني، بتَعدُّد أبعاد الشخصية المستهدَفة به وأدوارها وساحات عملها. بالنسبة إلى إسرائيل، فإن أقلّ ما يمكن أن يوصف به سليماني هو أنه كان له دوره الرئيس والمباشر في كلّ انتصارات المقاومة في لبنان وفلسطين، وتعزيز قدراتها وتطويرها كمّاً ونوعاً، وأيضاً في بلورة بيئة إقليمية قوية ومعادية للكيان العبري، بحسب تعبير رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينت، الذي تحدّث عن «طوق صاروخي» يهدّد العمق الاستراتيجي لدولة الاحتلال. أطلق الشهيد سليماني دينامية إقليمية عبَّر عن بعض معالمها رئيس أركان جيش العدو، أفيف كوخافي، في كلمة له في «مؤتمر هرتسيليا» قبل 9 أيام من الاغتيال، بقوله إن البيئة الإقليمية لإسرائيل باتت تتّسم بـ«التغيير وتفاقم التهديدات»، وإن الكيان أصبح مُحاطاً بـ«جبهات أكثر وأعداء أكثر». وتناول كوخافي أيضاً التحدّي العملياتي الأكثر إلحاحاً، والمتمثّل في تطوّر القدرات العسكرية والصاروخية الدقيقة لـ«محور المقاومة»،طه وصولاً إلى اعتراف كوخافي بأن «الصناعة العسكرية الإيرانية أكبر من كلّ الصناعات العسكرية لدولة إسرائيل. لكن مشكلة إسرائيل أن هذا التطوّر كان ولا يزال ينتقل إلى محيطها المباشر»، وتحديداً إلى «حزب الله»، الذي وصفه كوخافي بأنه «لم يَعُد يركض في الأودية حاملاً الكلاشينكوف، أو حتى صواريخ ضدّ الدروع، بل لديه منظومات ضدّ الطائرات ومنظومات كشف الطيف، لديه صواريخ متطوّرة وغيرها، وقوة القدس تمتلك مثلها في سوريا». ومن هنا، اعتبر رئيس الأركان الإسرائيلي أن «احتمال أن نصل إلى مواجهة محدودة أو أكثر من ذلك ضدّ إيران، ليس احتمالاً غير معقول… إيران لم تكن عدواً مباشراً، أمّا اليوم فهي عدو مباشر، كانت تلك الدولة الموجودة خلف الجبال ولديها برنامج نووي، لكنها لم تَعُد كذلك، فهي بلغتنا المهنية عدوّ نراه وعدو نواجهه».

بعد سنتَين من الاغتيال، يتكشّف أن الولايات المتحدة وإسرائيل لم تُحقّقا أيّاً من رهاناتهما الاستراتيجية

وإذا كان التقدير المتقدّم كافياً للدفْع في اتّجاه خيار مضادّ أريدَ منه فرملة هذا المسار وإحباطه، فقد جاءت عملية اغتيال سليماني ورفيقه أبو مهدي المهندس ترجمة للآمال الإسرائيلية في تَحوُّل العملية إلى محطّة مفصلية على طريق إضعاف «محور المقاومة». صحيح أن أحداً لا يستطيع تجاهُل حجم الضربة التي تلقّاها «المحور»، ولا آثار غياب الرجلين كلٌّ في موقعه ودوره، إلّا أن ذلك ليس مفاجئاً بالقياس إلى حجم المعركة. فبعد كلّ ما حَقّقته قوى المقاومة،طه كان الأميركي، ومعه الإسرائيلي، يحتاجان إلى حركة كفيلة بردْع إيران وإرباك خياراتها الاستراتيجية وهزّ ترابُط محورها، وهو ما لم يكن ليتحقّق، من وُجهة نظر واشنطن وتل أبيب، سوى من خلال استهداف شخصية جامعة لكلّ هذه الساحات والأبعاد، كقائد «قوة القدس».

لكن اليوم، وبعد سنتَين من الاغتيال، يتكشّف، من خلال الأداء الإسرائيلي والتطوّرات التي تشهدها البيئة الإقليمية، أنه باستثناء فقدان الشهيد سليماني، لم تُحقّق الولايات المتحدة وإسرائيل أيّاً من رهاناتهما الاستراتيجية؛ فلا إيران ارتدعت، ولا هي أظهرت مرونة في خياراتها ومواقفها، ولا مشروع بناء قدرات «محور المقاومة» وتطويرها تراجَع أو تفرمل، بل تُظهر مناورات جيش العدو تعاظُم المخاطر المحدقة بالأمن القومي الإسرائيلي، وتعزُّز القناعة في الكيان العبري بضرورة الاستعداد لمواجهة سيناريو حرب متعدّدة الجبهات، في تعبير صريح عن مدى حضور ترابط الساحات لدى جهات التقدير والقرار في تل أبيب.

مع ذلك، شكّلت عملية الاغتيال مرحلة الذروة في السعي لوضع إيران أمام خيارَين: إمّا الارتداع والخضوع تجنّباً لمواجهة عسكرية مباشرة مع الجيش الأميركي، وإمّا الردّ بطريقة تستدرج ردّاً أميركياً مضادّاً متدحرجاً يهدّد بقاء النظام أو يُقوِّض قدراته على الأقلّ. لكن الخيبة الإسرائيلية كانت مدوّية من عدم تَحقّق أيٍّ من السيناريوَين المذكورَين؛ فالخيارات الإيرانية النووية والعسكرية والإقليمية لا تزال على حالها، والولايات المتحدة لا تزال منذ قصف «قاعدة عين الأسد» التابعة لها في العراق بالصواريخ الباليستية الإيرانية، ترفض الانجرار إلى المواجهة المنشودة في تل أبيب، والتي تحتلّ رأس رهانات الأخيرة، باعتبارها الخيار الوحيد الذي يمكن – من منظور إسرائيلي – أن يكبح التطوّر الإيراني. ولعلّ ما نقله الصحافي الإسرائيلي، باراك رافيد، في كتابه «سلام ترامب»، عن مسؤول أميركي من أن «ترامب غضِب جدّاً على نتنياهو، وقال في ذلك اليوم إن الاسرائيليين مستعدّون لقتال إيران حتى آخر جندي أميركي»، يجلّي تلك الخيبة بوضوح.

أمّا من الجانب الإيراني، وعلى رغم أن الردّ على إغتيال الشهيد سليماني لم يكتمل حتى الآن، إلّا أن قصف «عين الأسد» شكّل بذاته محطّة تأسيسية عزَّزت حالة الردع لدى الجمهورية الإسلامية. ويكفي للدلالة على الأبعاد والرسائل الاستراتيجية التي انطوت عليها الضربة الصاروخية، تَخيُّل النتائج التي كانت ستتوالى لو أن إيران امتنعت عن الردّ العسكري المباشر تحت شعار تَجنُّب الوقوع في الفخّ الإسرائيلي – الأميركي، حيث ستَظهر، والحال هذه، في صورة المرتدِع، وبمنسوب خطير جدّاً في مواجهة الجيش الأميركي، مُعزّزةً القناعة في واشنطن وتل أبيب بجدوى الخيار الأخطر، المتمثّل في استهداف إيران عسكرياً، من دون التورّط في مواجهة مفتوحة من شأنها إشعال المنطقة وتهديد إسرائيل. إلّا أن الأداء السياسي والعسكري الإيراني أفلح في قطْع الطريق على كلّ تلك السيناريوات، لتنْجح طهران في احتواء هذا المفصل الرئيس في تاريخها وتاريخ المنطقة، ومواصلة زخمها النووي والصاروخي والإقليمي، وصولاً – بعد سنتين على الاغتيال – إلى التموضع في موقع أقوى تفاوضياً وسياسياً وعسكرياً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى