أحدث الأخبارالثقافة

اغتيال العقل

مجلة تحليلات العصر الدولية - د. حسين علي

زوجان حديثا الزواج، لاحظ الزوج أنه في كل مرة يشتري سمكًا .. فإن زوجته تنزع رأس السمكة وتلقي بها بعيدًا. ضاق الزوج ذرعًا بمسلك زوجته المتكرر، تسامح مرة ومرات علَّها تكف عما تفعل. وحين أدرك أنها لن تتوقف من تلقاء ذاتها؛ قرر مواجهتها:
الزوج: قبل زواجي منكِ يا حبيبتي كنت أستمتع برؤية السمك على مائدة الطعام كاملاً غير منقوص الرأس .. لذلك أود أن أسألكِ: «لماذا تنتزعين رأس السمكة؟ .. إنني أفضّل أن تكون السمكة كاملة غير منزوعة الرأس».
الزوجة: هذه هى طريقتي في «قلي السمك» التي أخذتها عن والدتي .. كنت أرى أمي تفعل ذلك!!
الزوج: لماذا كانت حماتي تفعل ذلك؟
الزوجة: لست أدري ..!!
الزوج: هل حاولتِ سؤالها عن السبب؟
الزوجة: لا … لم يحدث!!
في إحدى الزيارات سأل الزوج حماته:
الزوج: حماتي العزيزة .. لماذا تنتزعين رأس السمكة عند قليها؟
الحماة: هذا ما وجدت عليه والدتي .. أمي كانت تفعل ذلك.
ولحسن الحظ كانت الجدة الكبرى والدة الحماة مازالت على قيد الحياة. توجهوا إليها جميعًا؛ وبسؤالها أجابت:
– «كنا فقراء .. لا نملك سوى إناءً واحدًا لقلي السمك، وكان ذلك الإناء صغيرًا جدًا؛ لا يسمح بقلي السمكة كاملةً. فكنت أُضطر للتخلي عن الرأس».
انتهت القصة .. لكن المشكلة لم تنته، إذ مازلنا نضحي بالرأس .. ليت الأمر يقتصر على التضحية برأس السمكة .. بل إننا نضحي برؤوسنا نحن .. بعقولنا. اعتدنا استبعاد عقولنا وتنحيتها جانبًا .. لماذا؟ .. لأن هذا ما وجدنا علَيه آبَاءَنَا، إننا رأينا غيرنا ممن نحترمهم ونوقرهم، وفي أغلب الأحيان نقدسهم، لا يسمحون باستخدام العقل؛ ويتوجسون خيفةً ممَنْ يستخدمه. إن كل من حاول استخدام عقله في منطقتنا العربية تغتاله السلطة الحاكمة، وإذا تهاونت السلطة في اغتياله .. اغتاله الشارع، وإذا تقاعست السلطة والشارع عن القيام بهذه المهمة .. تكفلت إسرائيل بها واغتالت النابهين من العرب والمسلمين.
إذا أردت أيها القارئ الكريم أن تعيش في منطقتنا العربية هادئ البال مطمئن الخاطر عليك أن تنتزع من عقلك أية فكرة تتعارض مع ما وجدنا عليه أباءنا وأجدادنا .. انتزع كل غريب ومتعارض مع ما هو سائد وراسخ في مجتمعك العربي، ثم ألق به على الأرض وادهسه بحذائك .. وإلا سوف تُدهس أنت شخصيًّا بالحذاء!!
نحن نعيش داخل أوطان قد تتسامح في الاتجار بالمخدرات؛ لكنها أبدًا لا تتسامح مع حرية الفكر. يقول الفيلسوف الفرنسي ديكارت: «إن الفلسفة هى وحدها التي تميزنا عن الأقوام المتوحشين والهمجيين، وإنما تقاس حضارة الأمة وثقافتها بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها، ولذلك فإن أجل نعمة ينعم الله بها على بلد من البلاد هى أن يمنحه فلاسفة حقيقيين». إذا كان ديكارت يقول ذلك بوصفه فرنسيًّا، فإنه لو عاد للحياة – مرة أخرى – لقال إنني أعني بالأقوام «المتوحشة والهمجية» أقطار المنطقة العربية.
إننا نقدس تراثنا دون فحص أو تمحيص، غافلين عن الظروف التاريخية والاجتماعية التي أملت هذه الفكرة أو تلك .. إننا توارثنا أفكارًا كانت سائدة في بيئة بدوية صحراوية بسيطة، لها ظروفها الخاصة التاريخية والاقتصادية والاجتماعية؛ ومطالبون اليوم – بعد مرور حوالي خمسة عشر قرنًا – بتطبيق تلك الأفكار بحذافيرها بوصفها أفكارًا مقدسة، ومطالبون أيضًا بالتغافل عن كل المستجدات والإبداعات البشرية التي طرأت طوال تلك الفترة الزمنية الكبيرة .. إنه يُراد لنا من قِبَل ساسة فسدة ورجال دين كسبة أن نعتنق أفكارًا أكل عليها الدهر وشرب .. يراد لنا الإيمان بتلك الأفكار بوصفها الحق المبين الذي إذا أخذنا به لن نضل أبدًا .. وهل هناك ضلال أفدح من توهم أن السير إلى الوراء هو بعينه التقدم إلى الأمام!! علينا فحص مسلماتنا ليس بهدف هدمها والتخلي عنها، ولكن بغية الوثوق بأننا نسلك طريق الحق. يقول الإمام أبو حامد الغزالي (1059 – 1111م) في كتابه «المنقذ من الضلال»:
»من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر يبقى فى العمى والضلال«.
لن ترقى مجتمعاتنا إلا إذا أدرك أهلها أن الحضارة والتقدم لا ينحصرا فقط في مجرد الحرص على ارتداء البدلة والتمكن من عقد رابطة العنق وقيادة السيارة وركوب الطائرة واستعمال كافة أدوات التكنولوجيا المعاصر، هذا وحده لا يصنع تقدمًا مادام الفكر السائد تكفيريًا متخلفًا .. الرقي والتقدم يبدأ بالفكر .. تحرير الفكر من تلك القيود التي كبلته وما زالت تكبله منذ عشرات القرون وحتى اليوم .. نعيش بأجسادنا في ظل القرن الحادي والعشرين؛ لكن الروح جاهلية والعقلية تكفيرية.
منقول

 

*د. حسين علي
أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى