أحدث الأخبارلبنانمحور المقاومة

الاتجاه شرقاً.. هل سيكون الملاذ الحقيقي لتنمية مستدامة في الوطن العربي؟

مجلة تحليلات العصر الدولية - فؤاد الجنيد

لم تكن دعوة السيد حسن نصر الله في الـ 16 يونيو الماضي للتوجه شرقا دعوة للاستهلاك الإعلامي، بل هي استراتيجية عميقة وحصيفة، باعتبار أنّ التحوّل شرقاً في هذه اللحظة التاريخية بالذات، هو خيار استراتيجي يتضمّن ما هو أبعد كثيراً من السياسة والاقتصاد والأزمات الحياتية الراهنة، كما نعرفها في البلاد العربية، يحمل خلفه إدراكا عميقا للتاريخ الحقيقي للعالم الحديث وللنظام العالمي بعد تحريره من أثقال المركزية الأوروبية.

 

ومنه نستنتج أنّ العالم على أبواب انقلاب تاريخي سينتج عنه عالم جديد له رؤيته المختلفة التي تتضمن دعوة للتفكير بما بعد الكيان الصهيوني، كجزء من استراتيجية شاملة تتضمّن التسلّح بمقدّرات هزيمة وإزالة هذا الكيان، وفي مقدمتها رؤية عميقة حول مسارات النظام العالمي المحتملة، وموقع الوطن العربي فيها.

لقد رسخت الأنظمة العربية الاعتقاد الافتراضي بأن العلاقة بالدول الصناعية الغربية هي ممرنا الإجباري إلى الحداثة والتطور والتنمية المستدامة، وبأن لدى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كل ما تحتاجه دولنا العربية، في حين بسطت تلك القوى أيديها على موارد الثروة والأسواق، وسعت لتهميش قطاعاتنا الإنتاجية بقصد تحويلنا إلى أسواق استهلاكية مشروعة أمام هيمنتها الكلية التي دشنتها بتدمير منهجي لأي صناعات وطنية مستقلة، وهي بتلك الهيمنة تعمم الحروب والتدخلات، وتذكي الصراعات؛ لتكرس سيطرتها الاقتصادية والسياسية والثقافية بالقوة، وتوفر دعما شاملا ومطلقا للقوة العسكرية الصهيونية؛ بهدف إخضاع أي قوة تحررية عربية تنشد الاستقلال، وتحاول شق طريقها الخاص في التنمية الوطنية والدفاع عن استقلالها وسيادتها.

الشرق الصاعد باقتصادياته الحديثة وثروته الفائضة وإمكاناته الهائلة وبتطوره التقني المتسارع يقدم لنا خيارات جديدة، ويطرحها أمام شعوب العالم الثالث بكل يسر وإيجابية، وعلى أساس الندية والتكافؤ، وميزة هذا الشرق أنه كناية عن نماذج حضارية وثقافات قريبة إلينا من حيث قيمها الإنسانية والأخلاقية، خصوصاً أن المنطقة العربيّة تمر بجملة تحوّلات، من محاربة الإرهاب إلى التغيير الشّامل بموازين القوى الإقليميّة والأدوار التي تلعبها بعض الدول، إضافةً للتغيير الجديد في مقاربة الاستراتيجية الأمريكية لمفهوم الهيمنة المباشرة، وتنامي أدوار كثير من الدول، وعلى رأسها روسيا والصين، وينعكس ذلك بدوره على بنية النظام الدولي لصالح شكل متعدّد الأقطاب.

لقد كان لاضطرابات الشحن عبر مضيق هرمز في صيف 2019م مكاشفة جديدة للسلوك الأمني الأمريكي في المنطقة العربية، إذ قال ترامب وقتها: “تحصل الصين على 91٪ من نفطها عبر مضيق هرمز، واليابان 62٪، والعديد من الدول الأخرى بالمثل، فلماذا نحمي المسارات البحرية من أجل الدول الأخرى لسنوات عدة بدون مقابل؟، يتعين على جميع هذه الدول أن تحمي سفنها بنفسها على طول هذه الرحلة التي لطالما كانت خطيرة”. ثم ما لبث أن ألغى ترامب الضربة المخطط لها انتقاماً من إيران بعد أن أسقطت طهران طائرة استطلاع أمريكية، كان له وقع كبير على نفوس القادة العرب، ما عزز الاعتقاد لديهم بأن التزام واشنطن بتحقيق الاستقرار في المنطقة بشكل عام والخليج على وجه الخصوص بدأ يتضاءل، وفي هذا السياق قد يكون لتحركات الصين نحو دور أكبر في الأمن والتجارة في الخليج آثار كبيرة.

وكان من أبرز هذه التحولات: بروز القوة الصينية على الصعد الاقتصادية والسياسية، وطرح الصّين لمشاريع عدة أهمّها: “طريق الحرير الجديد”،و “مبادرة حزام واحد.. طريق واحد”، و»بنك الاستثمار والبنية التحتّية الآسيوي»، وتشكِّل المنطقة العربيّة جزءًا مهمًّا من المشاريع والخطط الصينيّة، وأكبر دليلٍ على الاهتمام الصيني المتنامي بالمنطقة العربيّة وموقعها الحيوي بالنسبة للمصالح الصينيّة هو إطلاقها في مطلع العام 2016م لاستراتيجيّتها العربيّة، وتعيين مبعوث خاص إلى سوريا، وبداية حضورها العسكري في منطقة باب المندب من خلال قاعدة بحرية ضخمة في جيبوتي، ونافست الصين في مشاريع ضخمة باستثمارات مباشرة وغير مباشرة، وبقروض كبيرة ميسرة، ومن أهم هذه الشراكات:

الإمارات 2018م :

اتفاقية تعاون بين البلدين في مجالات الطاقة والتجارة الإلكترونية والزراعة والثروة الحيوانية والسمكية، إضافة للتعاون الاقتصادي في إطار مبادرة “الحزام والطريق”، ووقّعت “موانئ دبي العالمية” ومجموعة صينية اتفاقًا لإقامة أضخم سوق للتجارة الحرّة على مساحة ثلاثة كيلومترات مربعة في المنطقة الحرّة لجبل علي في دبي، وهي أكبر منطقة تجارة حرّة في الشرق الأوسط. وكانت الصين قد استحوذت على أكبر مشروع في العالم للطاقة الشمسية المركزة بالإمارات بالشراكة مع السعودية، إذ وقّعت على عقدٍ مع هيئة كهرباء ومياه دبي لإنجاز “مجمع محمد بن راشد آل مكتوم للطاقة الشمسية”، أكبر مشروع للطاقة الشمسية في العالم. ونفذت الشركات الصينية العاملة بالإمارات مشروعات بنى تحتية بقيمة 3 مليارات درهم إماراتي سنة 2018م، بلغ فيها عدد العمالة الصينية 10 آلاف عامل صيني، وتضمّنت أبرز المشاريع التي نفذتها شركات صينية مشروع جسر البديع في الشارقة، ومستشفى الأمل للأمراض النفسية بدبي، وإنشاء وإنجاز الإدارة العامة لشرطة الشارقة، ومشروع امتداد الطريق العابر من طريق فلج المعلا شارع الإمارات في أم القيوين. ورفعت هذه المشاريع حجم التبادل بين البلدين في عام 2017م إلى نحو 53.3 مليار دولار، علمًا بأن الصادرات الصينية تشكل نسبة %90 منها، وفقًا لإحصاءات أبو ظبي.

السعودية:

وقعّت عملاق صناعة التكرير في الصين والأكبر في القارة الآسيوية في عام 2012م على شراكة مع “أرامكو” السعودية لإنشاء مصفاة تحويل متكاملة تعالج الزيت العربي الثقيل “ياسرف”، إذ تبلغ حصة ملكية «أرامكو» السعودية في هذه المصفاة العملاقة نحو 62.5%، و37.5% لشركة “سينوبك” الصينية، وتم تدشينها في يناير 2016م، وتعد مصفاة “ياسرف” واحدة من أكبر المصافي إنتاجًا في العالم، إذ تتجاوز طاقتها الإنتاجية 13.5 مليون جالون يوميًا من أنواع وقود النقل فائق النظافة، كما تبلغ الطاقة التكريرية لهذه المصفاة 400 ألف برميل يوميًا من الزيت الثقيل، وفي يوليو 2019م وقعت مجموعة «قهتشوبا» الصينية اتفاقية تعاون مع مجموعةASK السعودية في مشروع للتفجير المدني في السعودية بقيمة إجمالية تصل إلى 780 مليون دولار أمريكي، ومنحت الهيئة السعودية العامة للاستثمار في عام 2017م تراخيص استثمار لأربع شركات صينية؛ لتتصدر الصين المرتبة الأولى من بين الدول المرخص لها بالاستثمار في السعودية. وفي العام 2018م أطلق البلدان مشاريع بقيمة 225 مليار ريال سعودي تشمل البنى التحتية وقطاع المعلومات، وتهدف أن تكون السعودية محطّة رئيسة في مبادرة الحزام والطريق الصينية، وفق رؤية السعودية 2030م.

مصر:

كانت مصر ميدانًا مهمًّا لزحف الاستثمارات الصينية، حيث وقعَّت في 2017م اتفاقاً بين الشركة الصينية القومية لنقل الكهرباء؛ لتنفيذ المرحلة الثانية من مشروع الشبكة القومية للكهرباء في مصر، وشهدت المرحلة الأولى إنشاء خطوط شبكات كهرباء جديدة بقوة 500 كيلو فولت، وتكلفة 1.8 مليار دولار، وتعدّ المنطقة الصناعية الصينية “تيدا” بمنطقة خليج السويس أحد أهمّ المشاريع الصينية في مصر التي تهدف إلى استثمار 8 مليارات دولار، إضافة إلى توفير 20 ألف فرصة عمل، ومساحة تبلغ 700 كيلومتر مربع، ويشمل المشروع إنجاز أعلى برجٍ في أفريقيا، و12 مبنى تجاريًّا، وخمس وحدات سكنية، وفندقين كبيرين بعقد بلغت قيمته 3 مليارات دولار، وكانت الجمارك الصينية قد أعلنت في مايو 2018م أن حجم التبادل التجاري بين الصين ومصر ارتفع بنسبة نحو %26 خلال الربع الأول من العام، ليصل إلى ما يقارب 3 مليارات دولار مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.

الجزائر:

تستحوذ الصين على أضخم المشاريع التي تنجزها الجزائر، بدايةً بالمسجد الأعظم -ثالث أكبر مسجد في العالم- مع شركة “هندسة البناء الصينية” التي استحوذت على المشروع بقيمة 1.5 مليار دولار. كما تشرع حاليًّا الصين في إنجاز الطريق السيّار “شمال-جنوب”، والذي يربط “الشفة” شمال الجزائر بالحدود النيجيرية جنوبها على مسافة 550 كلم، بعد تسليمها مشروع الطريق السيار “شرق-غرب” الذي يربط بين الحدود الغربية والحدود الشرقية مروراً بالمدن الجزائرية الكبرى مثل: تلمسان ووهران والشلف والجزائر العاصمة وسطيف وقسنطينة وسكيكدة وعنابة والطارف، والذي يمتد لمسافة 1200 كيلومتر بمتوسط تكلفة فاقت 19 مليار دولار، ومنحت الشركات الصينية إنجاز مشروع ميناء شرشال الأكبر في البلاد بقيمة 3 مليارات دولار، الذي سيُموَّل في إطار قرض صيني على المدى الطويل، على أن يتم إنجازه في غضون سبع سنوات، ويرتقب أن يدخل الخدمة تدريجيًّا في غضون أربع سنوات، مع دخول شركة “موانئ شنغهاي” التي ستضمن استغلال الميناء حسب تصريحات مسؤولي وزارة القطاع.

المغرب:

يعدّ مشروع إنجاز المدينة الصناعية الصينية بمدينة طنجة المغربية أكبر مدينة صناعية في أفريقيا، والموقَّع بين مجموعة “هيتي” الصينية والحكومة المغربية، إذ ستحتضن نحو 200 شركة صينية، وتوفر 100 ألف وظيفة جديدة، وتبلغ أهمية هذه المدينة بالنسبة للصين لقربها من أوروبا، وتعمل المجموعة الصينية الرائدة في صناعة الصلب على إنجاز مشروع طنجة لتصنيع هياكل وخطوط الأنابيب من الصلب بالمنطقة الحرة في طنجة بقيمة 1.7 مليار درهم مغربي؛ لإنتاج ما يفوق 250 ألف طن من أنابيب الصلب.

الكويت:

في زيارة تاريخية قام بها أمير الكويت «صباح الأحمد الصباح» إلى الصين في يوليو 2018م، أعرب الأمير عن رغبته في أن “يكون الجانب الصيني شريكًا استراتيجيًّا، ومستثمرًا أساسيًّا في تطوير البنية التحتية لمدينة الحرير، وإنشاء مناطق صناعية وتكنولوجية متقدمة في شمال الكويت، وتعدّ “مدينة الحرير” أحد أضخم المشاريع الكبرى في منطقة الخليج، ويدخل المشروع تحت رؤية الكويت لسنة 2035م، وتصل قيمة إنجازه إلى حدود 100 مليار دولار، على أن تتسع المدينة لـ 700 ألف مقيم، متضمنة إنشاء برج بطول ألف متر، إضافة إلى مرافق أخرى، كما يضم المشروع الذي يعدّ أضخم واجهة بحرية في العالم إنجاز رابع أطول جسر بالعالم، و هو الذي سيربط مدينة الحرير بالعاصمة الكويت. وهناك نحو 40 شركة ومؤسسة صينية موجودة حاليا في الكويت، وتشرف على ما يقرب من 80 مشروعًا في مجالات النفط والبنية التحتية والاتصالات والمال وغيرها. ويبلغ إجمالي عقود المقاولات المتراكمة التي حصلت عليها الشركات الصينية في الكويت 20 مليار دولار حتى العام 2018م”.

مسك الختام:

ما نأمله هو أن تمارس الدول العربية أقصى درجة الانفتاح الثقافي والاجتماعي على حضارات الشرق في الصين وروسيا والهند وإيران، ولا يجب أن تبقى تلك البنى والتجارب الحضارية العريقة بقيمها ومنتجاتها وتعبيراتها مجهولة عند الرأي العام العربي، كما ينبغي تشجيع كل المبادرات الهادفة للتواصل مع هذه الدول والمجتمعات بكل حرارة وصدق، وتحريك مبادرات مشتركة لتفاعل التجمعات الثقافية والأكاديمية والاقتصادية، وتعاونها في أنماط من العمل المشترك والمثمر، وتخطي حدود التعارف إلى التعاون في سبيل المصالح المشتركة الكثيرة والكبيرة من حيث حجمها و مردودها؛ سعيا لتنمية عربية مستدامة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى