ايرانمحور المقاومة

الانتقام المزدوج لسليماني وفخري زادة.. لماذا تراجع ترامب وجوقة المطبعين عن التصعيد؟

مجلة تحليلات العصر الدولية - د. حامد أبو العز

تشهد الجمهورية الإسلامية إجماع في الأوساط السياسية والأمنية والثقافية على ضرورة الرد المباشر على عملية اغتيال العالم “فخري زادة”. وينبع هذا الاجماع الداخلي (والإقليمي من قبل الحلفاء) مما تمثله عملية الاغتيال هذه من تحدٍ لهيبة الجمهورية الإسلامية الإيرانية على المستوى الإقليمي والعالمي.ويبدو بأنّ الجميع يتفق على أن هذه العملية التي قام بتنفيذها فريق الاغتيالات التابع للموساد الإسرائيلي، جاءت في سياق تحقيق هدفين واضحين للغاية. الأول تقويض البرنامج النووي والصاروخي الإيراني، والثاني وضع عراقيل أمام عودة الرئيس المنتخب بايدن إلى الاتفاق النووي (كما وعد خلال حملته الانتخابية).لا نشك ولو للحظة بضلوع إدارة ترامب في هذه العملية. فترامب ومنذ انسحابه الأحادي من خطة العمل المشتركة (الاتفاق النووي الإيراني)، مارس جميع أنواع الضغوط على إيران في محاولة منه لاركاعها أو الحصول على صورة تذكارية مع القيادات الإيرانية تساعده في الترويج لسياسته الخارجية (كما فعل مع كيم جونغ أون). فمارس سياسة الضغط بالحد الأقصى (اللاأخلاقية)، وفرض أقصى العقوبات ضد إيران وحاصرها ومنع عنها الدواء والغذاء، في ظل أزمة جائحة كورونا التي فتكت بالشعب الإيراني في ظل نقص في الدواء والمعدات الطبية بسبب العقوبات الأمريكية الظالمة تجاه الشعب الإيراني. ونتيجة لهذا الفشل الذريع بإركاع أمة طرّدت شاهاً دكتاتوراً في ثورة إسلامية يُضرب بها المثل، وحاربت ثمان سنوات دفاعاً عن أرضها، اتجهت هذه الإدارة نحو إعطاء ضوء أخضر لتنفيذ عمليات اغتيال في الداخل الإيراني.من ناحية أخرى، ومن إداركه بأنّ الرد الإيراني إن جاء، سيأتي مدويّا، يبدو بأنّ إدارة ترامب، تتجه نحو خفض التصعيد مع إيران، أو يمكن الادعاء بأنّ القيادة الأمريكية قد اتخذت خطوات للحد من خطر الرّد الإيراني على قواتها ودبلوماسييها في المنطقة.وإشارات خفض التصعيد هذه، تتمثل في سحب الولايات المتحدة لأكثر من نصف دبلوماسييها من العراق. وهي خطوة احترازية قام بها ترامب للهروب من شبح اغتيال السفير الأمريكي في بنغازي عام 2012، هذه الهجمات التي كانت سبباً محورياً في خسارة “هيلاري كلينتون” للانتخابات الرئاسية أمام ترامب. والمؤشر الثاني هو ما سربه موقع “ذا ديلي بيست”، من أن ترامب طلب من بومبيو ممارسة ضغوط وحشية مع إيران دون الدخول معها بحرب شاملة.وتأتي هذه التحركات ضمن استراتيجية روّج لها الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” وهي انهاء الحروب الأبدية للولايات المتحدة. ونحن نرى بأنّ هذه التحركات إنما تعتبر مرحلة مبكرة من حملة انتخابية لعام 2024. إذ ليس من الممكن على الرئيس ترامب الدخول في حرب مع إيران، في الوقت الذي ينادي بسحب القوات الأمريكية من المنطقة وانهاء الحروب التي لا فائدة منها. ولكن هذا كله لا يمنع الولايات المتحدة من التنسيق الأمني على أعلى المستويات مع إسرائيل، لتجنب رد إيراني مدويّ أو التخفيف من آثاره المحتملة على إسرائيل.على الناحية الأخرى فإن إسرائيل تدرك جيداً بأنها “لعبت بذيل الأسد”، وبأن الرّد قادم لا محالة. وهي الأن تتحضر لهذا الرّد على أعلى المستويات. ونحن نرى بأنّ هذا الاستنفار الإسرائيلي إنما ينم عن سذاجة وعدم فهم لما يسمونه “العدو الإيراني”. فنحن لم نعتد على أن تكون إيران متسرّعة في اتخاذ قرارتها بالانتقام أو فتح مواجهات دون تحركات محسوبة ومنسقة على أعلى المستويات. ومن يحاجج بأنّ الرّد الإيراني على عملية اغتيال الشهيد قاسم سليماني جاءت فورية، سنقول له إن ذاك الرّد كان مجرّد ألعاب نارية. فالخمسين صاروخ التي انهالت على قاعدة عين الأسد لم تكن إلا رسالة بسيطة على أن إيران لديها القدرة على الوقوف في وجه الأعداء ولديها صواريخها الدقيقة، والتي طوّرتها على مدى سنوات من الجهد والخبرات الداخلية. لم يكن تدمير قاعدة عين الأسد انتقاما للشهيد قاسم سليماني، فالرّد على اغتيال الشهيد سيتناسب مع حجم الحشود والملايين التي خرجت في تشييع جثمانه. ولكن هذا الرد، والرد على عملية اغتيال الشهيد “فخري زادة، سيحدد كيفيته ومكانه وزمانه الإيرانيون أنفسهم.المطبعون وخفض الخطاب التصعيديلطالما دعت إيران دول الجوار في الخليج إلى حوار شامل وإقليمي دون تدخل من الخارج. يناقش هذا الحوار جميع المسائل العالقة ودون شروط مسبقة. ولكن هذه الخطوات الإيرانية لم تُقابل بخطوات إيجابية من الطرف الآخر. وعلى إثر ذلك استمرّت دول الجوار ببناء وهم “البعبع الإيراني” وترويجه على أنه الخطر الذي يداهم المنطقة. واستمرّ إعلام هذه الدول بالترويج لهذه النظرية وطرح بأن “العدو الإسرائيلي” هو أقل خطراً من إيران. واستمرّت إيران بعملية ضبط النفس ضد الإمارات وجنبتها (بحسب رأينا) هجمات صاروخية من قبل أنصار الله “الحوثيون”.ولكنّ الإمارات، وفي عملية التطبيع المجاني التي قدّمتها على طبق من ذهب إلى إسرائيل، تجاهلت البعد الجيوسياسي وتجاهلت حجمها، ففتحت الباب واسعاً أمام تواجد الإسرائيليين على الحدود القريبة لإيران. وهذا ما لن تتسامح معه إيران.مارست إيران بدورها سياسة ضبط النفس وعبرّت مراراً وتكراراً عن رغبتها ببناء علاقات مع دول الجوار قائمة على احترام الأخر، ولكن العرب (السعوديون والإماراتيون والبحرينيون) لم يبادروا نحو إيران ولو بخطوة واحدة.وبعد أن تبيّن للإيرانيين بأنه هناك احتمالية لضلوع الإمارات بعملية اغتيال محسن زادة. عادت إيران وبقوة لتضع النقاط على الحروف. فبحسب موقع “ميدل ايست أي” فإن الإيرانيون اتصلوا (وبدون وساطة) بولي العهد الإماراتي وأخبروه بأنّ أي هجمات أمريكية ضد إيران، ستُقابل بهجوم واسع ضد الإمارات نفسها.هكذا جاء التهديد صريحاً وواضحاً لمن فتح مجاله الجوي والبحري والاقتصادي للعدو الصهيوني. لقد فهم الإماراتيون الرسالة بسرعة وعلى إثر هذا صرحوا بأنهم يدينون عملية الاغتيال ويدعون الأطراف لضبط النفس.أخيراً، لا بدّ من التذكير بأنّ إيران انخرطت مع المجتمع الدولي بمفاوضات ماراثونية قدمت فيها تنازلات مهمة، في سبيل الوصول إلى اتفاق شامل مع القوى العالمية. وكانت الولايات المتحدة هي من انحسبت من هذا الاتفاق وفرضت أقسى العقوبات على الشعب الإيراني. وفي أعقاب هذا الفشل امتنعت الدول الأوربية عن تنفيذ التزاماتها وتحركت إسرائيل واغتالت أحد أهم علماء الجمهورية الإسلامية في إيران. وعليه فإنّه لا يعلوا صوت على صوت الانتقام، وإيران هي من ستختار المكان والزمان للرد المباشر على عملية اغتيال الشهيد سليماني والشهيد فخري زادة، وعلى نفسها جنت براقش.

باحث السياسة العامة والفلسفة السياسية
كاتب فلسطيني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى