أحدث الأخبارشؤون آسيوية

السنة والشيعة.. التعايش بدل التقريب أو الصراع

مجلة تحليلات العصر - د. وليد القططي

عندما زار زعيم منظمة (فدائيو الإسلام) المعارضة لنظام الحكم الملكي الإيراني (نواب صفوي) سوريا التقى بالمراقب العام للإخوان المسلمين (مصطفى السباعي) في سوريا، اشتكى إليه السباعي من انضمام شباب الشيعة للحركات العلمانية والقومية، فصعد صفوي إلى أحد المنابر، وقال أمام حشد من الشيعة والسنة “من أراد أن يكون جعفرياً حقيقياً فلينضم إلى صفوف الإخوان المسلمين”، وعندما زار نواب صفوي مصر ذكر مؤسس (الجماعة الإسلامية) في لبنان (فتحي يكن) في (الموسوعة الحركية) الحماس الشديد الذي قابله به الإخوان المسلمين، وتعاطف المسلمين معه عندما أُعدم على يد الشاه، وعندما تأسست (دار التقريب بين المذاهب الإسلامية) في القاهرة عام 1947م انضم إليها مؤسس جماعة الإخوان المسلمين الإمام الشهيد حسن البنا، إيماناً منه بسمو أهدافها وإخلاص رجالها من العلماء والأدباء والمفكرين العظام. ما سبق ذكره جاء في دراسة (السُنَّة والشيعة.. ضجة مُفتعلة ومؤسفة) عام 1982م، المنشورة في مجلة (الطليعة الإسلامية) للدكتور الشهيد فتحي الشقاقي مؤسس حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، الذي دفع ثمن إيمانه بفكرتي التقريب والثورة جزءاً من عمره في سجن القلعة بمصر.
دار التقريب بين المذاهب الإسلامية، تأسست في القاهرة عام 1947م، بفضل جهود علماء دين سُنة وشيعة، انضم إليها أربعة علماء تعاقبوا على مشيخة الأزهر بالتوالي هم: محمد مصطفى المراغي، ومصطفى عبدالرازق، وعبدالمجيد سليم، ومحمود شلتوت، كما انضم إليها الإمام حسن البنا، مؤسس الإخوان المسلمين، والحاج أمين الحسيني مُفتي فلسطين، وانضم إليها من علماء الشيعة: محمد تقي القُمي، ومحمد حسين كاشف الغطاء، ومحمد جواد مغنية، وحسين البروجردي، وأصدرت مجلة (رسالة الإسلام) لتكون ناطقة باسمها، اتخذت الآية القرآنية إِنَّ “هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ” شعاراً لها، ولتكون مُعبّرة عن أهدافها في جمع كلمة المسلمين باختلاف طوائفهم ومذاهبهم، ونشر رسالة الإسلام الواحدة إلى البشرية، وكتب فيها كثير من رموز الفكر والأدب والدين منهم: محمد أبو زهرة، ومحمد المدني، وأحمد أمين، وعباس العقاد، ومحمد فريد وجدي وغيرهم، صدر من المجلة ستين عدداً قبل أن تتوقف المجلة عن الصدور، ليتبعها توّقف دار التقريب نفسها عام 1979م بقرار سياسي من نظام حكم أنور السادات على أثر انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وتدهور العلاقات بين البلدين حد القطيعة، واُسدل الستار على أهم إطار إسلامي يدعو للتقريب بين المذاهب الإسلامية.
بعد إسدال الستار على دار التقريب، سارت الأحداث نحو الصراع، مدفوعة بعوامل سياسية، وخلفيات نفسية، وخلافات فقهية، وتباينات عقائدية، وساهمت حرب الثماني سنوات بين العراق وإيران في تعميق حالة الصراع المذهبي، وشاركت الأنظمة الخليجية المرعوبة من جريان مياه الثورة الإيرانية تحت عروشها في تأجيج نار الصراع المذهبي، وكان لسقوط حكم صدام حسين مطلع القرن الجديد، ثم اندلاع ثورات (الربيع العربي)، والصراع الاقليمي بين السعودية وإيران، دورٌ في إيجاد بيئة مشجعة لانطلاق مارد الفتنة المذهبية من قمقمه، فضُخَ في أتون نار الفتنة إقليمياً ودولياً ألوفٌ مؤلفة من الرجال، ومليارات متتابعة من المال، وأطنان متراكمة من السلاح، فأنتج التحريض المذهبي مزيداً من ثماره المُرّة المرَّوية بالكراهية والدم، واكتشف المتطرفون دينياً من الجانبين أنَّ الشيعة (روافض كفار)، وأن السُنّة (نواصب أشرار)، واستعاد المتطرفون قومياً من الفرس والعرب (الشعوبية الفارسية) و(العصبية العربية)، فكانت محصلة كل ذلك الشر الكامن في الصراع هو تراجع محاولات التقريب والوحدة، وتقدم محاولات الصراع والفُرقة بين السُنَّة والشيعة.
هذا النمط من الصراع لا ينتهي إلاّ بإفناء آخر شيعي أو آخر سُني، أو بتحول كل الشيعة إلى سُنَّة أو كل السُنَّة إلى شيعة، أو بناء سد كسد يأجوج ومأجوج بين الطرفين. وكل الاحتمالات الثلاثة بالطبع مُستحيلة، كما أنَّ مفهوم التقريب بمعنى تقريب الآراء بين الطرفين، والتوفيق بينها، وجعلها متقاربة، بتنازل كل طرف عن بعض معتقداته ليقترب من الطرف الآخر، هذا أيضاً مستحيل لأسباب علمية واعتقادية ونفسية وسياسية عميقة، متجذرة في النفس والعقل، وراسخة في التاريخ والعقيدة، وثابتة في السياسة والمصالح. وإذا كان انتهاء الصراع أو إنجاز التقريب لا أُفق لهما، فلا مجال للخلاص إلاّ بإيجاد نهج وسط بين التقريب والصراع في هذه المرحلة الاستثنائية، يمنع الذوبان الكلي في الآخر، وينهي الصراع الأبدي مع الآخر، هو نهج (التعايش)، والتعايش كما عرّفه المفكر محمد عمارة “الانطلاق من تمايز المذاهب، والحفاظ عليه، مع العدول عن نفي أحد المذاهب للمذاهب الأخرى، فهو إذن تعايش بين المذاهب”، وكما عرّفه الشيخ يوسف القرضاوي “ليس المُراد أن يُصبح السني شيعياً، أو أن يُصبح الشيعي سُنياً… إنما نريد أن نتفق على أشياء معينة تقرب بعضنا من بعص وتُصلح ذات البين”، وكما لخصّهُ الشيخ محمد الغزالي في (دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين) في اشارته للسنة والشيعة “دعم الأصول المشتركة لمواجهة المستقبل”، وكما حدد هدفه المرجع الشيعي محمد حسين فضل الله “الوصول إلى قاعدة الوحدة”.
التعايش كنهج وسطي بين التقريب البعيد والصراع الدائم، ضرورة حياتية، وفريضة شرعية، وطريقة واقعية، وتجربة فعلية، تضمن أن يعيش المسلمون على اختلافاتهم المذهبية السياسية والاعتقادية والفقهية ، كأفراد وجماعات ومجتمعات وشعوب ودول، مع بعضهم البعض وجنباً إلى جنب، بأمن وطمأنينة وسلام، بجو من التفاهم والتوافق والتعاون، بعيداً عن التصادم والتصارع والتقاتل، وبناءً على الأصول الإسلامية المشتركة، ومفهوم الأمة الإسلامية الواحدة، وعلى أساس مفهوم التعارف القرآني، وعلى قاعدة الاتفاق على كلمة سواء كقاسم موّحد، دون التنازل عن القناعات، والذوبان في المعتقدات، والمس بالرموز الدينية، وانتهاك الأصول الإسلامية، والجمع بين الاعتزاز بالذات (المذهبية) واحترام الآخر في الدائرة الإسلامية، والحذر من تضخيم الرابطة المذهبية المُفرِقة على حساب الرابطة الإسلامية الموّحِدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى