أحدث الأخبارفلسطينمحور المقاومة

” الشيخ جراح “.. من صلاح الدين إلى غزة

مجلة تحليلات العصر الدولية - توفيق شومان

في حرب ” الأيام العشرة زائد واحدا ” التي دارت رحاها في الشهر الجاري ، بين المقاومة الفلسطينية والجيش الإسرائيلي ، تقدم حي الشيخ جراح المقدسي ، إلى صدارة العناوين المتداولة إقليميا ودوليا ، بحيث أصبح عنوانا للحرب المذكورة ، ومن شأنه أن يتحول إلى عناوين متكررة لحروب مقبلة بين الفلسطييين وسلطات الإحتلال ، لا يفصل حرب عن أخرى إلا فواصل زمنية محددة .
حي الشيخ جراح على ما يقول الإسرائيليون ، إما يجري ضمه فيكون رمزا لقدس موحدة “عاصمة ” لإسرائيل ، أو رمزا لتقسيم مدينة القدس ، وهو أمر مرفوض لدى تجمع الليكود وحلفائه في اليمين الإسرائيلي .
لكن .. ما قصة حي الشيخ جراح ؟
ماذا عن تاريخه ؟ وماذا في سيرته وأيام زمانه ؟
في الجزء الثاني من كتاب ” الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل ” لمجير الدين الحنبلي ( 1455ـ 1523) المعروف بقاضي القضاة والعائد بنسبه إلى الخليفة عمر بن الخطاب ، أن ” الجراحية زاوية بظاهر القدس من جهة الشمال ، ولها وقف ووظائف مرتبة ، ونسبتها لواقفها الأمير حسام الدين الحسين بن شرف الدين عيسى الجراحي ، أحد أمراء الملك صلاح الدين ، ودُفن بزاويته المذكورة ، وبظاهر الزاوية من جهة القبلة قبور جماعة من المجاهدين يقال إنهم من جماعة الجراحي ، والله أعلم “.
وعلى هذه الحال ، تعود تسمية حي الشيخ جراح إلى أحد الأمراء المقربين من صلاح الدين الأيوبي على ما يرى مجير الدين الحلبي ، ولكن عبد الغني النابلسي (1641ـ1730) المشهور ب “علامة الشام ” ، يعتبره شيخا وأميرا وله مزار ، ففي كتابه ” الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية ” يقول ” وصلنا إلى مزار الشيخ جراح ، فوقفنا هناك وقرأنا الفاتحة ، وهذا المزار في المدرسة الجراحية ، نسبتها لواقفها الأمير حسام الدين الحسين بن شرف الدين عيسى الجراحي، أحد أمراء الملك صلاح الدين يوسف بن أيوب “.
ويبدو أن علو شأن ومقام الأمير حسام الدين الجراحي ودوره الكبير في التصدي للهجمات الصليية واستعادة مدينة القدس في عهد صلاح الدين الأيوبي ، جعلت منه وليا من الأولياء الصالحين في المخيلة الشعبية والتاريخية ، وهذا ما يلاحظه أحد أعلام النخبة الفلسطينية الحديثة ، المؤرخ والسياسي عارف العارف ( 1892 ـ 1973) في كتابه ” المفصل في تاريخ القدس”، إذ يقول ” المدرسة الجراحية في الحي المعروف بحي الشيخ جراح ، على بعد كيلومترين من سور المدينة إلى الشمال ، وعلى الطريق المؤدية إلى نابلس ، سميت كذلك نسبة لواقفها الأمير حسام الدين الحسين بن شرف الدين عيسى الجراحي ، أحد أمراء الملك صلاح الدين يوسف بن أيوب ، وقد توفي سنة 1201 ميلادية ، ولا صحة عندي للقول الشائع بين سكان بيت المقدس عن نبوة الشيخ الجراح ، لا ولا عن صحبته للنبي ، إنه لم يُذكر في عداد الصحابة الذين دخلوا القدس في الفتح العمري ، والحقيقة التي لا مراء فيها ، أنه من رجال صلاح الدين ، وقيل إنه كان طبيبه الخاص ، وقد أبلى في معركة القدس بلاء حسنا “.
تلك صفحات من جعبة التاريخ
ماذا في جعبة الحاضر؟
بهجت أبوغربية (1916ـ1912) واحد من القادة الفلسطينيين الذين عايشوا تطورات القضية الفلسطينية وشاركوا في مفاصلها ومساراتها النضالية حتى لحظة الرحيل ، فالرجل خاض وقاد معارك عسكرية كبرى قبل النكبة وبعدها ، من مثل ثورة 1936 وحربي 1947ـ 1949 ، يصف في الجزء الأول من مذكراته ” في خضم النضال العربي والفلسطيني ” أهمية حي الشيخ جراح ، حيث كان قائدا ميدانيا ، فيقول :
” كنا نعير حي الشيخ جراح اهتماما كبيرا ، واليهود يعيرونه الإهتمام نفسه ، لأنه الحاجز الرئيسي بين المواقع اليهودية الرئيسية في الأحياء الغربية وبين حصونهم على جبل الطور في مجمع الجامعة العبرية ومستشفى هداسا التي تقع خلف خطوطنا ، لذلك كان احتلال الحي هدفا رئيسيا لليهود ، لأن احتلالهم إياه ، يعزل القدس عن رام الله ونابلس في الشمال ، ويطوق جميع المنطقة العربية شمالي سور القدس بشكل نصف دائرة ” .
لم تتغير الجغرافيا ، وحي الشيخ جراح ما زال قائما في مكانه ، ومن زاوية المكان نفسها يمكن فهم الإجراءات الإسرائيلية التي تطل برأسها ، بين حين وآخر ، لإخلاء حي الشيخ جراح من سكانه العرب الفلسطينيين .
في كتابه السابق الذكر ، يتحدث بهجت أبو غربية ، عن محاولات إسرائيلية عدة لإحتلال حي الشيخ جراح ، ومثله يفعل عارف العارف في كتابه التفصيلي ” نكبة فلسطين و الفردوس المفقود ” ، ومنها على سبيل المثال ، واقعة 13 و15 كانون الثاني / يناير 1948 / ثم 26 نيسان / ابريل في السنة عينها ، ثم واقعة أيار / مايو حين استطاع الإسرائيليون اقتحام الحي ، ولكن المقاتلين العرب والفلسطينيين استردوه في التاسع عشر من الشهر ذاته ، وفي الخامس عشر من حزيران / يونيو 1948، استولى الإسرائيليون مجددا على حي الشيخ جراح ، بيد أنهم خرجوا منه بعد خمسة أيام فقط ، جراء هجوم مضاد عربي ـ فلسطيني كبير وعالي التنسيق و التخطيط .
حول معركة حي الشيخ جراح في أيار / مايو 1948 ، كتب مناحيم بيغن قائد منظمة ” ارغون ” ورئيس الوزراء الإسرائيلي بعد عام 1977، فقال : ” في يوم الأربعاء 20 أيار، بدأ الجيش العربي زحفه على الشيخ جراح ، فأخذ رجال الهاغانا يفرون من دون انتظام ، وهكذا تحطمت المقاومة اليهودية في الشيخ جراح وانسحبنا إلى مياشيرم “، وأما ديفيد بن غوريون ، أحد الآباء المؤسسين لدولة الإحتلال وأول رئيس وزراء إسرائيلي ، فيأتي على ذكر حي الشيخ جراح 13 مرة في ” يوميات الحرب 1947 ـ 1949″ ، واصفا بدقة وتفصيل أهميته ونوعية وشراسة المعارك التي دارت على أرضه ، وهو الأمر نفسه ، إنما بغزارة أوسع وأكثر إسهابا ، يمكن العثور عليها في كتابات عارف العارف وبهجت أبو غربية .
فشل الإسرائيليون في الإستيلاء على حي الشيخ جراح بعد ” قيام الدولة ” ، فانتظروا إلى ما بعد حرب الخامس من حزيران / يونيو 1967، وكان لهم أن احتلوا القدس الشرقية وما تبقى من البحر والنهر ، ومذاك شرعوا إلى استخدام قوتين : قوة الإحتلال وقانون القوة .
ماذا يعني قانون القوة ؟
لا بأس لو كان ” الشاهد ” صحيفة إسرائيلية
تحت عنوان ” اتركوا سكان الشيخ جراح في بيوتهم ” كتبت تاليا ساسون في صحيفة ” هآرتس ” بتاريخ 22 ـ 5 ـ2021، فقالت ” في عام 1950 تم سن قانون أملاك الغائبين، الذي يحدد طريقة نقل الأراضي التي كانت بملكية الفلسطينيين، ونقلها لسلطة التطوير، بهذه الطريقة تم نقل املاك الفلسطينيين الغائبين لليهود ، حسب المحكمة العليا ، وخلف الكلمات الجميلة شكلت سلطة التطوير قناة لنقل ملكية آلاف الدونمات التي تعود للفلسطينيين الى اليهود، وفي عام 1970 قامت إسرائيل بسن قانون ترتيبات القضاء والإدارة في القدس الشرقية ، وقررت أن سكان شرقي القدس العرب لا يعتبرون غائبين ، وهكذا أوجدت إسرائيل مسارا قانونيا من خلاله يمكن إخراج السكان الفلسطينيين من بيوتهم “.
تلك هي القصة ، فماذا بعدها ؟
قد لا يأتي القول بجديد ، حين يشار إلى أن جولة القتال الأخيرة بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل ، والتي سمتها الأخيرة ” حارس الأسوار ” ، إنما انطلقت على خلفية المساعي الإسرائيلية لإخراج عائلات فلسطينية من منازلها في حي الشيخ جراح ، وإذ انتهت الجولة بتكريس معادلة غزة مقابل القدس وتل أبيب ، فإنها انتهت أيضا إلى تجميد إخلاء العرب الفلسطينيين من منازلهم ، وهذا التجميد بقدر ما أعاد إلى الواجهة معارك حي الشيخ جراح في الأربعينيات ، فإنه أعاد أيضا السؤال الكبير إلى واجهة المصير : لمن السيادة في القدس الشرقية ومن ضمنها حي الشيخ جراح : لإسرائيل أم للفلسطينيين ؟.
السؤال السابق ، بات محور النقاش الدائر بين السياسيين وقادة الرأي في إسرائيل ، وفي ذلك كتب يائير غولان ( جنرال سابق ) وتشاك فرايليخ (النائب السابق لرئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي ) في صحيفة “هآرتس ” (26 ـ 5 ـ2021) فقالا ” مع توقف المعارك لا مفر من الإستنتاج أن ميزان الإنجازات يميل لصالح حركة حماس ، في عملية حارس الأسوار سقطت أسوار كثيرة وحققت حماس أهدافها الأساسية منذ بداية المعركة ، وعلى الصعيد الإستراتيجي نالت الأسبقية في النضال على مستقبل الحكم الفلسطيني ، وربطت نضالها بالنضال من أجل القدس ، ونصبت نفسها مدافعا عن الأقصى” ، ومن المنظور نفسه كتب يوسي يهوشع في ” يديعوت أحرونوت ” بتاريخ 22 ـ 5 ـ2021 ، فقال ” شئنا أم أبينا، حماس خرجت أكثر قوة ، وأعادت قضيتها إلى الوعي الدولي، ووقفت درعا حاميا للقدس”.
ذاك بالنسبة للقدس عموما ، وحول حي الشيخ جراح ، يقول البروفوسور إفرايم كرش في تقدير موقف نشره ” مركز بيغن ـ السادات ” في الثالث والعشرين من هذا الشهر ” حماس رفعت الرهان وهددت بشن هجوم صاروخي على القدس ، وطالبت الحركة بانسحاب القوات الإسرائيلية ووقف قرارات محكمة الشيخ جراح ، لا يمكن لدولة ذات سيادة أن تقبل بإملاءات منظمة إرهابية ” ، وفي اليوم نفسه كتب غيورا آيلند ” من الملح التشديد على معضلة الشيخ جراح ، و يجدر التذكير بأن التوتر بدأ عندما هدد محمد ضيف بأن اخلاء العرب من هذا الحي ليس مقبولا ، إن كل تنازل اسرائيلي في هذا الموضوع سيُعد خنوعا معيبا ” ، وفي عدد صحيفة ” إسرائيل اليوم ” الصادر في الثاني والعشرين من أيار / مايو الحالي ، كتب نداف شرغاي ” في موضوع الشيخ جراح من المحظور المساومة، فالإستجابة لمطالب حماس ستكون سابقة خطيرة ، غدا سيطالب الفلسطينيون بتجميد وإخلاء اليهود من نقاط استيطانية مختلطة أخرى في القدس مثل حي داود والبلدة القديمة، بل سيطرحون مطالب مشابهة بالنسبة للد أو عكا “.
ماذا يعني ذلك ؟
يعني أن ” الـقـدس قـابـلـة لـلإنـفـجـار فـي أيّ لـحـظـة ” كما كتب نير حسون في ” هآرتس ” في الخامس والعشرين من هذا الشهر ، وهذا ما يراه عاموس هرئيل في الصحيفة نفسها ( 26 ـ 5 ـ2021) حيث كتب بعنوان ” صواعق التفجير بين غزة وإسرائيل لا تزال على حالها “.
ثمة امتحان قريب أمام بنيامين نتنياهو ، ذلك أن المحكمة الإسرائيلية العليا ، أجلت قرار إخلاء السكان الفلسطينيين من منازلهم في حي الشيخ جراح المقدسي إلى الثامن من حزيران / يونيو المقبل
ذاك التاريخ لناظره قريب .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى