أحدث الأخباراليمنمحور المقاومة

الصـماد وتأسيس دولة اليمـن الحديثـة

مجلة تحليلات العصر الدولية / هيئة التحرير - مجلة يمن ثبات ( العدد العاشر )

لا تقاس حداثة البناء المؤسسي للدول بمقدار النهضة العمرانية وزخرفة الهندسة الفنية لتصميم الشوارع والمدن، ولا بوفرة الصادرات، وتدفق السيولة النقدية لخزينة الدولة؛ فكل ذلك مجرد انعكاسات طبيعية لحقيقة التحديث الحقيقي لمستوى الخطاب السياسي واستراتيجية بناء الدولة، ابتداء من تأسيس الفرد ذاته، وامتداداً إلى تحديث العمل المؤسسي بكل مكوناته النظرية والتطبيقية العملية، فلا قيمة لمظاهر حداثية لا تتخللها قيمة حقيقية لجوهر الإنسان وسلامة الفكر وحصافة الخطاب، وهذا ما تحقق بشكل واضح وجلي من خلال تلك المعطيات الجوهرية للمرحلة التي تولى فيها الشهيد الرئيس صالح الصماد -رحمة الله عليه- قيادة المجلس السياسي الأعلى في ظل ظرف استثنائي، واستطاع أن يحقق فيه ما عجز الآخرون عن تحقيقه خلال عقود زمنية متعاقبة.

لم يكن (الصماد) مجرد عابر سبيل على كرسي الحكم، شأنه شأن غيره من أباطرة الحكم الذين تعاقبوا على حكم اليمن برتابة دون أن يتحقق من خلالهم لليمن وأهله شيء يمكن للتاريخ أن يستحضره، وهو يسرد سِيَرَ العظماء الذين حفروا على صفحات التاريخ منجزاتهم، وأرغموا الأجيال المتعاقبة على دراستها وتحليلها والتغني بمآثرهم ليل نهار، ولم يكن (الصماد) ذلك النرجسي الذي يحب التلاعب بوسائل الإعلام؛ لتشيد بمنجزاته الوهمية وأحلامه الوردية عن وهم النهضة والتطور والبناء، ولم يكن ذلك الانتهازي الذي يتسلق على أكتاف الآخرين؛ ليبني مجداً على هياكل الضعفاء والمستضعفين، ولم يكن ذلك الحالم بالخلود في زمن ينخر الفناء فيه عروش أباطرة المشرق والمغرب.

لم يكن الشهيد (الصماد) واحداً من تلك الأصناف التي ذكرت، فهو بكل بساطة رجل المرحلة المتشبع بقيم الدين الحنيف؛ بحكم نشأته العلمية في هِجَر صعدة، ومخالطته لعلمائها دارساً ومعلماً ومحاوراً، آمن بالمعرفة طريقاً للوصول إلى الحق والحقيقة، فشق طريقه في رحابها لتكون المسيرة القرآنية هي المنفذ الذي عبر من خلاله إلى درب العظماء مجاهداً تحت راية المشروع القرآني وأعلام الهدى الذين نشأ وترعرع على هديهم، وسار على نهجهم.

إنه رجل المرحلة الذي جعل من نفسه مشروع شهادة، وهو يضع اللبنة الأولى لبناء وتأسيس اليمن الحديث، ودولة النظام والقانون والعمل المؤسسي، كان يدرك أن طريقه شائك ووعر، ولكنه كان صلباً في مواجهة جميع التحديات، ابتداء من إصلاح جهاز الدولة وتحقيق التوافق الوطني بين مختلف مكونات الواقع السياسي اليمني، ومروراً بإعادة ترتيب البيت السياسي اليمني ومؤسساته العسكرية؛ لتكون بحجم الوطن بعد أن عاشت كمجاميع مبعثرة هنا وهناك تدين بالولاء لأشخاص دون أن تدرك بأن الوطن أولى بذلك.

كل كلمة نطق بها الشهيد الصماد في جميع المحافل التي شهدها كانت موضع دراسة وتحليل من قِبَل أجهزة الاستخبارات العالمية، وعلى رأسها أجهزة تحالف البغي والعدوان السعودي الأمريكي على اليمن؛ لأنها كانت تمثل الشرارة الأولى لمولد الوعي السياسي الهادف إلى البناء والتحرر والاستقلال، وهذا ما لا ترغب في تحقيقه مملكة آل سعود؛ لأنها من صنعت الإطار السياسي لليمن على امتداد العقود الماضية، ورسمت مساراته التي تضمن تبعية اليمن لها؛ لتنهب خيراته وثرواته، وتتحكم في سيادته واستقلاله، فكان لكلمات الصماد الشهيد ومواقفه الخالدة وقعها في نفوسهم، فهي تنقضّ كالإعصار الذي يزعزع عروشهم المتهالكة القائمة على الأسودين الحقد والنفط.

لم يكن الشهيد الصماد مجرد شخص عادي، ولكنه كان مدرسة متعددة الحقول والمجالات؛ فهو رائد في مجال الفكر الديني، وسياسي حنّكته التجارب والمحن، وقائد حر تربع على عرش العزة والكرامة في زمن الانبطاح والتبعية، واسع القلب حيث استوعب الجميع على الرغم من تباينات الفكر والتوجه، وتعامل مع المجتمع كواحد منهم لا يرى لنفسه ميزة تدفعه للترفع أو التكبّر عليهم، وفارس أعاد إلى الأذهان بطولات عمار بن ياسر والأشتر؛ فله في كل ميدان صولة وجولة، وبصماته على صخور اليمن في سهولها وجبالها خير شاهد على ذلك.

ولكم أن تتساءلوا بعد كل هذه العبارات: (بأي ذنب قُتِل؟!).

وعلى امتداد العقود الزمنية التي تلت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962م، وأباطرة العرش السعودي يسعون لابتلاع اليمن بكل مكوناته البشرية والطبيعية، والحيلولة دون تحقق قيام دولة يمنية مستقلة وقوية، قادرة على استثمار مواردها الطبيعية، والاستفادة من موقعها الاستراتيجي المتحكم في مسار التجارة العالمية البحرية.

وخلال الفترات السابقة تحقق للسعودية ما أرادت من خلال شراء الولاءات الاجتماعية والسياسية، وتأسيس المذاهب التكفيرية؛ لزرع الشتات والقطيعة بين أبناء الشعب اليمني الواحد، وبقيام ثورة الحادي والعشرين من سبتمبر ونجاح ثورة الشعب أدركت السعودية أن المارد اليمني بدأ يكسر قيود التبعية قيداً بعد آخر، وأن بداية النهاية لهيمنتها على القرار السيادي اليمني قد أشرق فجرها، فعمدت إلى إشعال حرب كونية على اليمن؛ لتدمير أحلامه، ووأد ثورته التحررية في مهدها دون أن تأخذ بعين الاعتبار طبيعة اليمن أرضاً وإنساناً كجغرافية ترفض العيش في ظلال الغزاة والطامعين.

سنوات من الحرب والصمود عاشتها اليمن في ظل قيادتها الثورية والسياسية، ورجالها يسطرون ملاحم البطولة في البحر والبر، وينقشون تاريخ اليمن الجديد بدمائهم على صفحات الصخر دونما تراجع أو انكسار.

تسلم الشهيد الصماد دفة الحكم والقيادة خلال تلك المرحلة الحرجة من تاريخ اليمن؛ ليبدأ رحلته مع برنامج تصحيح المسار، مسار العمل السياسي والعسكري من جهة، ومسار العمل التنموي النهضوي من جهة أخرى؛ لتكون مقولته الخالدة: (يد تبني ويد تحمي) شعار التأسيس الحقيقي ليمن الصمود والانتصار.

بدأت المؤسسة العسكرية في ظل الشهيد الصماد تسترد عافيتها بعد مؤامرة الهيكلة والتفكيك التي أنهكتها في ظل الأنظمة العميلة، وبعد جريمة تدمير المنظومة الصاروخية اليمنية وقوات الدفاع الجوي ظهر الصماد بجيل جديد من الأسلحة الحديثة الممهورة بختم التحدي والصمود (صنع في اليمن)، وبمديات متعددة وطويلة، وبأجيال متعددة، والأعظم من ذلك أن الثقافة القرآنية التي سار الشهيد الصماد على دربها قد انعكست بآثارها الطيبة على العقيدة العسكرية التي حرص الشهيد الصماد على أن تكون ذخيرة المؤسسة العسكرية، وزاد أفرادها من خلال محاضراته الإيمانية القرآنية وتوجيهاته الرائدة؛ ليظهر كأرقى رئيس عربي قد شهدته المنطقة على امتداد تاريخها الحديث.

وفي كل ميدان على خلاف المعهود كان الشهيد الصماد يتجاوز خطوط النار الأولى خلال زياراته الميدانية لمختلف الجبهات البرية والبحرية، وبشكل أذهل العالم، وأثار إعجاب الأعداء والأصدقاء في الوقت نفسه، إنه رئيس انتزع احترام الجميع له ولشعبه انتزاعاً على الرغم من كيد قوى الاستكبار وصلفها.

دمر الأعداء أسلحة اليمن، فأسس الشهيد الصماد ترسانة مرغت كبرياء تحالف البغي والعدوان السعودي الأمريكي بالتراب، وهيكلوا الجيش اليمني، وقتلوا أبرز عناصره وقياداته، فتحول الشعب اليمني بأكمله إلى جيش جرار لا يعرف مفردات الهزيمة والفشل ضمن مفردات قاموس صموده الأزلي، فلعبوا المعركة وفق استراتيجياتهم، وحولوا استراتيجيات الأعداء إلى هزائم وانكسارات يخجل التاريخ من توثيقها.

عاش الصماد قائداً فريداً، ومجاهداً شجاعاً لا يهاب الموت؛ فأحبه أهل اليمن، وتشرف التاريخ بتوثيق سيرته، وتمجيد بطولاته، وتخليد حضوره التاريخي في زمن التيه والتبعية والانبطاح.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى