أحدث الأخبارالإسلامية

العقل الإسلامي وإعادة التشكيل / مقاربة أولية لمفردات المشروع القرآني

أ. حمدي محمد صغير "رئيـس التحــرير"

نشر في مجلة يمن ثبات العدد الأول (شهر 7 – 2020)

قد تكون المقاربة النقدية الواعية لملابسات الواقع العام للعقل الجمعي العربي في حقبة ما قبل الإسلام من الأهمية بمكان؛ للتعرف على التكوينية البنيوية المُشَكِّلة لأبعاد الهوية العربية في تلك الحقبة الزمنية، وملاحظة التطور البنيوي لمنظومة التفكير الواعي للعرب في مرحلة ما بعد ظهور الإسلام.

من المعلوم أن البنية الاجتماعية العربية في تلك المرحلة الغابرة كانت تدور في فلك الوحدة القبلية والمجاميع البشرية الصغيرة التي شكلتها البطون والأفخاذ المتفرعة من بنية القبيلة الأم لكل مكون اجتماعي على حِدَة، وبما أن العربي الأول كان يرتبط علائقياً بمختلف المكونات البشرية لقبيلته برابطة الأرض والدم؛ فإن المنظومة العُرْفِيَّة وتعاليم الأسلاف قد أسهمت بشكل كبير في تحديد المسار العام لعلاقة الفرد بالفرد في إطار القبيلة الواحدة من جهة، وتنظيم المسار العام لعلاقته بالقبائل الأخرى من جهة أخرى، الأمر الذي رسم الإطار العام لمنظومة العلاقات الداخلية والخارجية فيما بين قبائل العرب بشكل صارم لا يمكن تجاوزه إلاَّ في حدود ضيقة ووفق ترتيبات معينة تفرضها مصلحة هذه القبيلة أو تلك.
وهذا لا يعني أن القبائل العربية كانت تعيش حالة من الفصام العلائقي أو القطيعة فيما بينها، بقدر ما يوضح طبيعة الخصوصية التي تتمتع بها كل قبيلة على حِدَة، لتتميز عن القبائل الأخرى، ولهذا كانت الساحة العربية تشهد بين الحين والآخر ظهور العديد من التحالفات القبلية القائمة على المصالح المتبادلة وتحديداً فيما يتعلق بالمجالات السياسية والحروب والخصومات التي لا تكاد تنتهي إلاَّ لتبدأ من جديد، وهي تحالفات لحظية لا تدوم طويلاً، لارتهانها بحجم المصلحة المنشودة وطبيعة التهديدات الخارجية التي تهدد وجود التكوينات القبلية الصغيرة أو الضعيفة.
وعلى ضوء ما سبق لم تتأسس في محيط جزيرة العرب وحدة سياسية كبرى تمهد لقيام دولة حقيقية بكل ما تعنيه كلمة دولة، ولعل الصراعات البينية بين مختلف القبائل العربية واختلاف المحددات العامة للمنظومة الفكرية المؤسسة لعقلية الفرد والمجتمع العربي قد حالت دون تحقق ذلك، الأمر الذي جعل الوجود التكويني العربي في تلك المرحلة السابقة لظهور الإسلام ضعيفاً وغير فاعل ومؤثر في طبيعة الأحداث التي ترسمها الدول والإمبراطوريات الكبرى في ذلك الزمان، وإن لم تكن تلك الحالة الوجودية للمجتمع العربي في جزيرة العرب، حيث شهدت المناطق الجنوبية منها -وتحديداً في بلاد اليمن- نهضة حضارية كبرى منذ آلاف السنين انعكست بشك إيجابي على واقع الحياة العامة وصبغتها بشكل مدني غير معهود لعرب وسط الجزيرة، وفي شمال الجزيرة ظهرت العديد من الملامح المدنية ذات الطابع الحضاري بفعل مجاورتها لحضارات بلاد فارس والروم، بينما ظلت العقلية القبلية بطابعها الذاتي المنكفئ على واقعها العام وخصوصيتها غير المنفتحة على الآخر إلا في مجال تبادل المنافع وتوفير متطلبات الحياة فيما كان يُعْرَف برحلتي الشتاء والصيف، أو ما كان يتصل بطبيعة التحالفات القبلية القائمة على المصالح الخاصة وتأسيس التكتلات العسكرية ضد الخصوم والتهديدات الدائرة في محيط المجتمع العربي.
وعلى ضوء مفردات ذلك الواقع الذي كانت مجتمعات العرب تعيشه ظهرت الصراعات البينية لأتفه الأسباب واستمرت لسنوات طويلة كما هو الحال في ملابسات أحداث ووقائع حروب البسوس وداحس والغبراء -حرب الفجار- التي ذهب ضحيتها الآلاف من رجال القبائل المتناحرة ومن تحالف معها، وما ترتب عليها من هيمنة ظاهرة الثارات وتداعياتها الخطيرة على واقع العرب الاجتماعي، الأمر الذي يفسر لنا البعد التكويني للعقل العربي في تلك المرحلة الزمنية، والعوامل التي أسهمت في تشكيله على ذلك النحو المفارق لمتطلبات المرحلة والبعيد كل البعد عن هاجس البناء المؤسسي لمفهوم دولة عربية تجمع شتات العرب في قالب مجتمعي واحد تحكمه حزمة من القوانين القادرة على ضبط جماح النزوة العربية الطامحة إلى التسلط والنفوذ في إطار وحدات إقليمية صغيرة غير متناغمة مع الوحدات القبلية المجاورة لها إلاَّ في حدود المصالح المتبادلة ودفع المضار والتهديدات المتوقعة.
وعندما ظهرت رسالة الإسلام وبدأ النبي محمد بن عبد الله صلوات الله عليه وعلى آله بالمجاهرة بدعوته الربانية الجامعة توهمت العقلية العربية أن تلك الرسالة السماوية الوافدة عليها تشكل تهديداً وجودياً لمكانة تلك الزعامات القبلية المتمسكة بتراث الأسلاف ومقاليد حكم البلاد والعباد، فبدأت بمحاربة الدعوة الجديدة والتصدي لها والحيلولة دون انتشارها في محيطها القبلي بمختلف الوسائل والأساليب، دون أن تدرك بأن تلك الرسالة والرسول ستشكل لها في قادم الأيام وجوداً حقيقياً يمنحها السيادة والنفوذ والمكانة العالية بين أمم تلك الحقبة وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وتدور الأيام وينتشر الإسلام ليشكل قوة إقليمية قادرة على تشكيل التغيير الجذري في واقع العرب وفق مقومات البناء المؤسسي لمفهوم الأمة بطابعها القرآني الخالد وبما يتناغم مع طبيعة الإنسان وفطرته السوية.
وعلى امتداد التاريخ والعقلية العربية تتعاقب على المخيلة الجمعية لتعيد إليها العديد من صور ومظاهر حياة الأسلاف وأحلامهم لتبدأ المؤامرات الداخلية لتحقيق الانحراف في طبيعة المسار العام للأمة بمنهجيتها القرآنية وتمزيق الوجود الإسلامي من الداخل، لتبدأ مرحلة الانحراف السياسي والتحريف الفكري بالتجلي في مظاهر الحكم وثقافة المجتمع الإسلامي، الأمر الذي فتح الباب أمام الحاقدين على الحكم الإسلامي لتنفيذ مخططاتهم العدوانية ضد الأمة ابتداء من هجمات التتار والمغول وهيمنة المماليك على مقاليد الحكم، لتدخل الأمة في مرحلة من السبات الحضاري والانهزامية النفسية التي فرضتها الأنظمة السياسية المتعاقبة على حكم مختلف الأقطار بعد أن تجزأت الأمة الإسلامية إلى وحدات إدارية صغيرة ومستقلة وغير قادرة على مواجهة التحديات والتهديدات الوجودية المهددة للأمة بشكل عام.
ومع بواكير العصر الحديث ظهرت على السطح العديد من المشاريع النهضوية والأطروحات الفكرية التي تسعى لتحقيق نهضة حقيقية للأمة تحقق حضورها الفاعل بين عوالم وحضارات تلك المرحلة، إلاَّ أن تلك المشاريع والأطروحات لم تتمكن من تحقيق الحضور الفاعل في أوساط الأمة لتباين الأُطر المرجعية التي انبثقت منها، وهيمنة الأطروحات الاستشراقية على منظوماتها المعرفية وارتباطها بالتراث والفكر الإسلامي، الأمر الذي جعل منها مجرد ظاهرة وقتية غير قادرة على المواكبة والعطاء وتقديم الحلول الجذرية لجميع الإشكالات التي تعاني منها الأمة داخلياً في مختلف المجالات الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر العام 2002 الميلادي توجهت الولايات الأمريكية المتحدة لانتهاج سياسة استكبارية ضد شعوب العالم الإسلامي واتخذت من أحداث الحادي عشر من سبتمبر ذريعة لها لشن عدوانها في أغلب بلدان العالمين العربي والإسلامي؛ ولتعزز هيمنتها على مقدرات المناطق الأخرى كما كان الحال عليه في اليمن، حيث تحولت سفارتها إلى مقر للحاكم الفعلي لليمن، وانتشرت بذلك الفوضى لتدخل اليمن في دوامة من الصراعات الأيديولوجية الممنهجة والاغتيالات المنظمة لأبرز قيادات اليمن الدينية والأكاديمية والعسكرية، الأمر الذي دفع الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي (رضوان الله عليه) لإعلان موقفه الرافض للهيمنة والوصاية والتبعية لقوى الاستكبار العالمي وعلى رأسها أمريكا وإسرائيل، وقد تجسد هذا الموقف في إعلان الصرخة ورفع شعار (الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود) المنبثق من منهجيته ومشروعه القرآني النهضوي التحرري الجهادي؛ ليكون ذلك الشعار بداية الانطلاقة العملية الحقيقية للمشروع القرآني في واجهته الحقيقية لمؤامرات قوى الاستكبار ومخططاتها الخبيثة في المنطقة.
استطاع الشهيد القائد أن يقدم رؤية منهجية كفيلة بتحرير الأمة من قيود الارتهان والتبعية لقوى الاستكبار وقادرة على تحقيق الحضور الفاعل للأمة في عالم اليوم من خلال تأسيس وبناء شخصية الفرد والمجتمع بما يتوافق مع محددات المنهجية القرآنية بعيداً عن الأطروحات والتنظيرات الفكرية العقيمة التي لم تحقق أي إنجاز يذكر في واقع الأمة بقدر ما جذَّرت الفرقة والشتات والتيه والضياع والانهزامية بشكل لم تعهده الأمة من قبل.
ويعتبر المشروع القرآني للشهيد القائد الامتداد الحقيقي لمنهجية الرسول الأعظم وأعلام الهدى من أئمة أهل البيت -سلام الله عليهم- في بناء وتأسيس الأمة الكفيلة بتحقيق فاعلية الاستخلاف الإلهي في واقع الفرد والمجتمع وفق محددات الخطاب القرآني ذاته بعيداً عن إملاءات المنهجيات الوضعية التي رسخت قيم الانهزامية في الوجدان الجمعي للأمة.
كل ما سبق مجرد تمهيد للولوج في عمق هذه الدراسة التي تدور حول موضوع (العقل الإسلامي وإعادة التشكيل مقاربة أولية لمفردات المشروع القرآني للشهيد القائد) وهو ما سنتناوله ضمن مواضيع الأعداد القادمة من المجلة -بإذن الله تعالى- على حلقات متتابعة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى