أحدث الأخبارشؤون آسيوية

“القدوة المرجوّة”

مجلة تحليلات العصر الدولية

أحمد المدلل⁦✍️⁩

القدوة هو النموذج والمثال الذى يتم الاقتداء به فى سلوكه وتصرفاته وأفعاله … وللقدوة فى العملية التربوية تأثير واضح وكبير فى تحديدالاتجاهات والقيم الفردية والمجتمعية … فإن وُجدت القدوة الحسنة يعنى أن المرجو منها الارتقاء والتطور والنهضة وإن وُجدت القدوة السيئة يعنى مصير الفرد والمجتمع هو الانهيار والفشل والتفكك … قد لا يمتثل الفرد للتوجيه والخطاب والأوامر والنواهى (وترى ذلك فى الجماعات البشرية ) لكنه يقتنع ويتأسى بالأفعال حين يراها ممن يعتبرهم قدوة له حتى بدون توجيه له … ولعل هذا الأمر من خصائص السلوك البشري الذي لا يتقبل أي عادة أو فكرة غالبا إلا بعد أن يُدرك كونها حقيقة تتمثل أمام عينيه وواقعاً يعايشه … الفكرة تبقى مجردة لا فائدة منها إن لم تنعكس فى تصرفات الفرد وسلوكه… وحتى يقتنع الآخرون بالفكرة يجب أن يقتنعوا بالإنسان الذى يحملها ويطرحها … وقد كان من أهم عوامل انتصار الدعوة الإسلاميةالأولى شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ( كما ذكر الكثير من المؤرخين والمفكرين والدعاة) فى سيرته وسلوكه، وقيادته، وإدارته، وأسلوبه في نشر الدعوة، وإصراره وتحمله لكل المشاق والالام والأذى، ورفضه لكل المساومات، وصبره وثباته في مواقع التحدي، فقد كانت هذه المميزات عامل قوة واندفاعة فى الاستقطاب والجذب.. وكان لها الأثر الكبير في ظهور الدعوة وسرعة الانتصار والانتشار . قال تعالى: “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ” ( آل عمران،١٥٩) … وكما روت كتب التاريخ أن القدوة الحسنة كانت عاملًا مهمًّا في انتشار الإسلام في الكثير من البلاد التي لم يصلها الفتح الإسلامي؛ إذ دخل في هذا الدين الحنيف شعوب بكاملها لَمَّا رأوا القدوة الحسنة خُلقًا حميدًا في أشخاص مسلمين صالحين من الرحّالة والتجار والمارين بها …
وكما يؤكد خبراء التربية حول مراحل حياة الانسان أن الطفل ينشأ متأثرًا بما يسمعه من أقوال، وما يشاهده من سلوكيات، فإذا رأى تناقضًا من الأبوين، أو ممن يراهم قدوة له، فإن ذلك يفتح أمامه باب الانحراف والاضطراب، ويعطي الفرصة لوقوع أخطاء، وسلوكيات يصعب معالجتها، فالنشءُ والشباب في حاجة ضرورية لرؤية نماذج تتحلى بالسلوك السوىّ والأخلاق الكريمة يتعاملون معهم فيغرسون فيهم الإستقامة والصلاح والثبات … وإلا ما فائدة أن يأمر الوالد ولده بالصدق فيما الوالد نفسه يكذب على الناس على مرأى ومسمع من أبناءه … وكيف يمكن للوالد أو المُربى ان يأمر من هم تحت يديه بالتزام الصلوات وحضور حلقات القرآن والذكر وهو لا يُرى فى المساجد ولا يلتزم بشئ من ذلك … كيف يمكن للداعية أن يطالب الآباء والأمهات بأن يربوا أبناءهم وبناتهم على الدين والاخلاق والالتزام فيما أبناؤه وبناته لا يتحلّون بقيم ولا بأخلاق ولا دين … وفى عالم السياسة كيف يمكن للحاكم أو المسؤول أن يُطالب شعبه بالصدق والاخلاق والمواطنة الصالحة والصمود والثبات والمزيد من التضحيات والصبر ويدعو للدراسة فى جامعات الوطن فيما هو يعيش الرفاهية المطلقة وتُحركه الحسابات الذاتية والشخصية ويبعث بأبناءه ليدرسوا فى أرقى الجامعات العالمية وتظلله أسقف القصور و الفنادق الفاخرة ويجلب لنفسه وعائلته احدث موديلات الأزياء ويركب أحدث موديلات السيارات الفاخرة ، ويطلب من شعبه أن يتقشف فى حياته فيما موائده تزكم الأنوف من رائحة مختلف أصناف الطعام والشراب الموضوعة عليها ليلاً ونهارا … لا أعتقد أن المنطق والعقل والرؤيا تجعل من هؤلاء قدوة لشعوبهم … وما أصاب مجتمعاتنا العربية والاسلامية من إنحطاط فى القيم والأخلاق وعدم الانتماء للدين والمواطنة نتيجة طبيعية لغياب القدوة الحسنة … وقد سطّر التاريخ على صفحاته سيرَ نماذج كثيرة مثلت القدوة لشعوبهم التى صنعت حضارات عظيمة لا تزال آثارها شاهدة ، وحكاياتها لا تنساها الأجيال … وفى التاريخ الاسلامى شخصيات عظيمة من الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين والدعاة المصلحين … وقد اختصر عمر بن الخطاب رضى الله عنه بكلمات مايجب ان تكون عليه القدوةفقد كان يشدد على العلماء وأهل الفضل والمكانة في أمور لا يشدد فيها على غيرهم ، لكونهم ” قدوة”، كما كان يشدد على أهل بيته وأقاربه أن يكونوا أول الممتثلين لما يأمر به الناس، وأن يكونوا أول المنتهين عما ينهى عنه الناس، فكان رضي الله عنه إِذَا نَهَى النَّاسَ عَنْ شَيْءٍ دَخَلَ إِلَى أَهْلِهِ وجمعهم ، فَقَالَ : ” إِنِّي  نَهَيْتُ عَنْ كَذَا وَكَذَا ، وَالنَّاسُ إِنَّمَا يَنْظُرُونَ إِلَيْكُمْ نَظَرَ الطَّيْرِ إِلَى اللَّحْمِ ، فَإِنْ وَقَعْتُمْ وَقَعُوا ، وَإِنْ هِبْتُمْ هَابُوا ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لا أُوتَى بِرَجُلٍ مِنْكُمْ وَقَعَ فِي شَيْءٍ مِمَّا نَهَيْتُ عَنْهُ النَّاسَ ، إِلا أَضْعَفْتُ لَهُ الْعُقُوبَةَ لِمَكَانِهِ مِنِّي ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَتَقَدَّمْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَتَأَخَّرْ” … وقد اختصر الامام علىٌ رضى الله عنه أداء عمر فى خلافته بكلمات بسيطة عندما فُتحت فارس وجئ له بسوارى كسرى فامتدح عمر أمانة من جلبه له ووضعه بين يديه فقال علىٌّ رضى الله عنه: ” يا أمير المؤمنين عففت فعفّوا ولو رتعت لرتعوا ” هذا ما يجب ان يكون عليه الحاكم او القائد ” القدوة” … والتاريخ الحديث تحدث عن قادة ثورات عربية واسلامية وعالمية مثّلوا قدوات لشعوبهم وللأحرار فى هذا العالم مثل عبد الكريم الخطابى وجمال الدين الأفغانى وعمرالمختار ومحمد ادريس السنوسى ومحمد المهدى ويوسف العظمة وعز الدين القسام وأمين الحسينى … ومن أمريكا اللاتينية تشى جيفارا البطل والثائر الأممى الذى حارب الامبريالية الامريكية ودفع حياته ثمنا لذلك … وكاسترو وشافيز وأورتيغا الذين وقفوا فى وجه أمريكا وغطرستها وبالرغم من حصارها لبلادهم عقودا طويلة لم يخضعوا ولم يستسلموا … أما فى حالتنا الفلسطينية كان لدينا قدوات حقيقية تواضعت امام عظمة شعبها، أكلت وشربت ولبست مثل عامة الناس ، وشعرت بآلآم الجوع والحصار الذى يعانيه شعبها … ما تنازلت وما باعت وما خضعت وما خُدعت ودفعت حياتها ثمناً لمواقفها ونضالها وجهادها … هؤلاء هم مصابيح الدجى الذين يملؤونا ثقة وطمأنينة بأن القدوة يمكن أن تحضر من جديد …

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى