أحدث الأخبارلبنانمحور المقاومة

الكوميديا اللبنانية .. هل الحل بحكومات الأغلبية ؟

مجلة تحليلات العصر الدولية - توفيق شومان

غالبا، ما تستحضر الذاكرة الأدبية والفلسفية كتابين خالدين ،غامرت نصوصهما في رحلات ملؤها العجائب إلى ” العالم الآخر ” ، ساعية إلى بناء مخيلة عن المحجوب والمرغوب ، وأول الكتابين ” رسالة الغفران ” لأبي العلاء المعري ، وثانيهما ” الكوميديا الإلهية ” للإيطالي دانتي (Dante Alighieri).
لكن ثمة من سبق دانتي وأبا العلاء بعقود عدة تقترب من التسعة أو ما يعادلها ، وذاك السبَاق إسمه لوقيانس السميساطي من مدينة منبج السورية ، عاش في آوائل القرن الميلادي الثاني ، وقد وضع كتابا عنوانه ” مسامرات الأموات ” باللغة اليونانية ، وهذا الكتاب يدرجه كثيرون في قائمة الكتب الأكثر تأثيرا في مرحلة النهضة الأوروبية الحديثة ، وهو عبارة عن رحلة متخيلة إلى ” العالم الآخر ” ، حيث تجري حوارات ونقاشات بين الموتى ، ومن ضمنهم الإسكندرالمقدوني وهنيبعل القرطاجي ـ الفينيقي ، إذ أن كلا منهما يرى عظمة ومجدا في نفسه أكثر من الآخر ، وجاء في هذا الحوار :
ـ الإسكندر : أنا أفضل منك أيها الأفريقي ، أبي هو فيليبس ، ثأرتُ له وأخضعتُ كل من وقف في طريقي .
ـ هنيبعل : أنا الأفضل لأني نشأت من العدم ونهضت بنفسي إلى العلا .
وعلى هذا القياس بين هنيبعل والإسكندر تجري عجلة التفاضل ، ومع ما يتخللها من تقاصف بالإنتقاص وتبادل بالإساءة ، إلى أن يأتي قائد من ” الخارج ” ، من مدينة روما ، ليحكم بين الطرفين ولمن تعود إليه أفضلية المجد والعظمة .
بسهولة ، يمكن إسقاط تبادل الإساءات بين الإسكندر وهنيبعل المرتبطة بالأفضلية ، على وقائع الإنتقاصات المتطايرة بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف بتشكيل الحكومة منذ الأسبوع الماضي والمتعلقة بصلاحيات كل منهما ، فمن ” الرسالة التلفزيونية ” الشهيرة ( 17ـ3ـ2021) العائدة للرئيس ميشال عون والموجهة إلى الرئيس سعد الحريري مخيرة إياه بين التشكيل أو الرحيل ، وما أعقبها من رسالة حريرية مضادة في اليوم نفسه بإتجاه عون محددة له طريقين ، إما التوقيع وإما انتخابات رئاسية مبكرة ، إلى يوم ” الإثنين العظيم ” الذي ظهرت فيه استمارة ” إملأ الفراغ بالكلمات المناسبة “، وما قابلها من مقولة حريرية أيضا ” إن عمل الرئيس المكلف ليس تعبئة الأوراق ولا عمل رئيس الجمهورية تشكيل الحكومة” .
السؤال هنا : ما عمل رئيس الجمهورية وما عمل رئيس الحكومة ؟
لا فائدة من الإجابة الدستورية ، ولا من العودة إلى الدستور، وخصوصا مواده : 49 ـ 53 ـ 64 ـ 65 ـ 95 ، ذلك أن كل إجابة تأخذ من الدستور منطلقا وقاعدة وتوضيحا وفصلا بين متخاصمين ، هي إجابة باطلة من قبل أحد ” أبطال ” النزاع المحليين إذا لم تأت لصالحه ولم تخدم مصالحه ، وعلى هذه الحال ، وبسبب انزياح الحياة السياسية اللبنانية عموما عن الأصول الدستورية ، بات الدستور قاعدة لإنتاج النزاعات بدلا من أن يكون قاعدة للحكم والإستقرار وأساسا لإدارة النظام السياسي .
ما العمل ؟
يقول رئيس الحكومة الراحل تقي الدين الصلح ، إن التباينات ، بل النزاعات بين رئيسي الجمهورية والحكومة ، مسألة لا مفر منها، وتدخل في سياق العاديات من الأمور ، نظرا لإمتلاك كل منهما مزاجا مختلفا ونظرة مختلفة للحكم وممارسة السلطة ، إلا أن الذي يحول دون انفجار الخلافات بين الرئيسين قناعتهما المسبقة بالإستمرار معا والتطلع إلى إطفاء عناصر الخلافات ، نزولا عند متطلبات المصلحة الوطنية ، وبغير تلك القناعة يستحيل تعايش عقلين ومزاجين .
رحم الله تقي الدين الصلح
هي التسوية إذا ، ولكن ما ينطوي عليه مشهد التقاصف والتقاذف بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف ، لا يؤشر إلى احتمال صياغة الحد الأدنى لتسوية مفترضة بينهما ، وكأن من في القصر الجمهوري و” بيت الوسط ” يرددون بالتوازي والتشارك هذا البيت من الشعر الذي قالته العرب قديما :
الله يعلم إنا لا نحبكم / ولا نلومكم إن لم تحبونا.
في لحظة اشتباك سياسية ، وكان ذلك في صيف العام 2019 ، نُسب إلى الوزير السابق جبران باسيل قوله ” إن السنية السياسية جاءت على جثة المارونية السياسية ” ، وعلى الرغم من النفي الذي أعقب هذا ” التسريب ” ، فإن وقائع الممارسات السياسية المتبعة من قبل ” التيار الوطني الحر ” وما يرافقها من اجتهادات دستورية ، تؤكد الرغبة بإستعادة جزء من صلاحيات رئيس الجمهورية المجيرة إلى مجلس الوزراء وفقا لدستور ما بعد ” الطائف ” ، ولعل ما جاء في رسالة الرئيس عون التلفزيونية حين قال ” أدعو الرئيس المكلف إلى قصر بعبدا من أجل التأليف الفوري للحكومة بالإتفاق معي ” ، تعكس الرغبة ذاتها التي تجتهد لتكريس شراكة التأليف وبما تعنيه من شراكة كاملة في السلطة التنفيذية ، أو ربما ما يتعدى هذه الشراكة .
ذلك من حق ” التيار الوطني الحر ” أن يفكر كيفما شاء أو يتطلع إلى تحصين وتحسين حضوره في النظام والسلطة والدولة ، ولكن هل هذا الأمر قابل للتنفيذ والتطبيق ؟
بالنظر إلى تاريخ لبنان السياسي منذ استقلاله ، وحتى اللحظة ، لم يحدث أن تغييرا أو اتفاقا أو تسوية او تعديلا في الدستور، كان بمنأى عن رعاية الخارج أو إنتاجه ، حدث ذلك إثر حوادث العام 1958، حيث تطلبت عوامل ضبط الواقع اللبناني الساخن ، تسوية مشهودة بين الرئيسين فؤاد شهاب وجمال عبد الناصر ، وهو مشهد تكرر عام 1969مع ” اتفاق القاهرة ” ، وتجدد مع ” اتفاقية الطائف” عام 1989، وتم إحياؤه مع ” تسوية الدوحة ” عام 2008 ، ولا يعني ما مر ذكره ، سوى أن عناصر الضبط المحلي تحتاج على الدوام إلى عوامل خارجية ضابطة ، ذلك من المؤسف ، ولكن هذا هو واقع الحال .
والمؤسف مرة اخرى ، أن ” الخارج ” ، والمقصود شقه الإقليمي ، تتزامن مراراته مع مرارات اللحظة اللبنانية المحتدمة ، ولا ينبىء ذلك بغير إطالة مواسم الإحتدام المحلية ، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا .
هذه هو الفصل الأول من فصول ” الكوميديا اللبنانية “.
ماذا عن الفصل الثاني ؟
حين جرت رياح الرئيسين إميل لحود ورفيق الحريري بما لا تشتهي سفنهما عام 1998، كان لا بد من الفراق ، ولكن في الوقت نفسه كان ثمة خيارات متعددة أمام الرئيس لحود ، خيارات غير محسوبة على ” وزن الريشة ” لإملاء موقع رئاسة الحكومة من دون نقصان أو فراغ ، من بينها سليم الحص وعمر كرامي وغيرهما من هذا الوزن الرفيع والثقيل .
من يعترض على سليم الحص حتى لو عارضه ؟
ومن يشكك بشرعية عمر كرامي شقيق رشيد كرامي وإبن عبد الحميد كرامي؟
في المشهد الحالي ، تبدو الخيارات أقل من محدودة ، بعضها مرفوض ولكن حضورها في الوسط الإسلامي السني فاعل وقائم ، من مثل فؤاد السنيورة أو نجيب ميقاتي أو تمام سلام أو نهاد المشنوق أو من يناظرهم ، أو من يكون من تصنيع هذه الأسماء مثلما حدث مع مصطفى أديب أو سمير الخطيب وغيرهما ، أي الدوران في دائرة تقليدية ، إلا إذا ذهبت الخيارات إلى خارج هذه الدائرة ، وجيء بشخصية غير محسوبة على أعضاء النادي المذكور شبيهة برئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب، وبما يعني خيار الحكومة القلقة والمحاصرة في بيئتها .
هذا الفصل الثاني من ” الكوميديا اللبنانية ”
في الفصل الثالث ، نصوص وثيقة الإرتباط بمهلة التكليف ، أي ما يعرف ب ” المهلة المعقولة ـ Le délai raisonnable ـ لتشكيل الحكومة ، إذ لا يعقل أن يقبض رئيس الحكومة المكلف على زمن التشكيل ويتركه مفتوحا على المطلق ، وإذ بات من المتداول أن الرئيس صائب سلام اعترض في ” حوارات الطائف ” على تقييد المهلة وتحديدها خشية أن يتحول الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة أسير مزاج أو موقف أو قرار رئيس الجمهورية ، مما يعيد موقع رئاسة مجلس الوزراء إلى ما كان عليه قبل ” الطائف ” ، فإن ” اعتقال” الرئيس المكلف لورقة التكليف ، ليس أمرا محمودا ولا معقولا، ومثله أيضا ، ” مصادرة ” قلم التوقيع على مرسوم تشكيل الحكومة .
أين العطب وأين الحل ؟
ـ في العطب أولا :
لعل أول العطب في الحالة اللبنانية الراهنة ، يعود إلى نموذج الحكومات التوافقية التي تم اتباعها منذ التسعينيات الفائتة ، فالنموذج المذكور يتطلب نيل الرضا من كل القوى السياسية التي يفترض إشراكها أومشاركتها في السلطة التنفيذية ، وبما أن هذا الرضا صعب المنال ، مثلما تؤكد تجارب التشكيل على مدى العقود الماضية ، فإن المشاحنات والنزاعات تطغى على عمليات التأليف ، وفي حال تم تذليلها ، سرعان ما تنتقل إلى داخل مقاعد مجلس الوزراء في حال تم التوافق عل تشكيل الحكومة ، إذ مع كل مشروع قرار وجدول أعمال تعود المشاحنات والخلافات إلى سابق عهدها ، مما يحول الحكومات التوافقية إلى حكومات اللإنتاج واللاقرار ، والنماذج اللبنانية والعراقية في هذا المجال أكثر من أن تعد وتحصى .
ـ في الحل ثانيا :
إذا تم التوافق على أن الحكومات التوافقية تحمل العطب في نموذجها غير المشجع ، فإن التطلع إلى نموذج آخر ، قد يفتح شهية النقاش حول جدواه ، وهذا النموذج قائم على حكومات الأغلبية التي تنتجها انتخابات عامة تفرز أغلبية سياسية تحكم وأقلية سياسية تعارض .
هل يمكن نقاش هذا النموذج ؟
قد لا يكون النموذج المذكور خاتمة تهبط من شاهق أو جبل وتضع حدا ل ” الكوميديا اللبنانية ” ، ولكنه قد يشكل مدخلا لنقاش مستفيض حول كيفية البحث عن إعادة إنتاج السلطة بمنسوب أقل من النزاعات وبحدود ليست مشرعة على صراعات مفتوحة .
في الختام عودة إلى لوقيانوس :
يقول الرجل : ” ما أفكار الأحياء إلا من أفكار الأموات “.
لو يأخذ السياسيون في لبنان بعضا من أفكار اللبنانيين الذين باتوا على قارعة التسول والذل .
أوليس الذل موتا غير معلن ؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى