أحدث الأخبارالثقافة

اللامساواة الاجتماعية

مجلة تحليلات العصر الدولية - الشريف علي صبح

تعد اللامساواة ظاهرةً مركّبة ومتعدّدة الأبعاد، لا يتمثّل تعقيدها في وجودها في المجتمع الذي يُعدّ طبيعيًا في حدّ ذاته، بقدر ما يرتبط بوجود مستوياتٍ مستفحلة منها، تؤثّر على نحوٍ شبه آلي في الاندماج الاجتماعي، وفي النجاعة الاقتصادية، وفي المجال السياسي أيضًا؛ على اعتبار أنّ الاجتماع والاقتصاد سياسيان بطبيعتهما. كما ترتبط اللامساواة، ضمن الإطار الأشمل للعدالة الاجتماعية، باستدامة التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية وتركّز الثروة ورأس المال، إضافةً إلى ارتباط وثيق بتركّز السلطة السياسية عبر الأجيال.
وكثيرا ما ينظر إلى العدالة الاجتماعية كمرادف للمساواة، ولكن لا يعني ذلك المساواة الكاملة أو المطلقة، بمعنى التساوي الحسابي في أنصبة أفراد المجتمع من الدخل أو الثروة، فمن الوارد أن تكون هناك فروق في هذه الأنصبة تتواكب مع الفروق الفردية بين الناس في أمور كثيرة، كالفروق في الجهد المبذول في الأعمال المختلفة، أو فيما تتطلبه من مهارات أو تأهيل علمي أو خبرة. والمهم أن تكون هذه الفروق بين الناس في الدخل والثروة أو في غيرهـا مقبولة اجتماعيا، بمعنى أنها تتحدد وفق معايير بعيـدة عـن الاسـتغلال والظلـم، ومتوافق عليها اجتماعياً.
التفاوت الاقتصادي هو الاختلاف الموجود في مختلف مقاييس الرفاه الاقتصادي بين أفراد ضمن مجموعات، أو بين مجموعات ضمن السكان، أو بين البلاد. أحيانًا يشير مصطلح “التفاوت الاقتصادي” إلى “تفاوت الدخل” أو “التفاوت في الثروة” أو “فجوة الثراء”. يركز علماء الاقتصاد عمومًا على التفاوت الاقتصادي في ثلاث مقاييس: الثروة والدخل والاستهلاك
لقد أحرز العالم تقدما كبيرا في مجال الحد من الفقر: فخلال العقود الثلاثة الماضية، أفلح أكثر من بليون شخص في الانعتاق من الفقر المدقع. ومع ذلك، فإن حصة النصف الأفقر من البشرية من الدخل لم يكد يتغير خلال هذه الفترة على الرغم من أن الناتج الاقتصادي العالمي تضاعف أكثر من ثلاث مرات منذ عام ١٩٩٠. وأوجه عدم المساواة تقوض التقدم الاقتصادي، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى تفاقم الانقسامات الاجتماعية التي تخلفها أوجه عدم المساواة.
ولا تزال أوجه التفاوت مستمرة على الصعيد القطري وفيما بين البلدان، لأسباب مردها إلى الدخل أو الموقع الجغرافي أو نوع الجنس أو السن أو الانتماء العرقي أو الإعاقة أو الميل الجنسي أو الانتماء الطبقي أو المعتقد الديني، بحيث يكون ذلك محددا لمدى يسر الحصول على المنافع والاستفادة من الفرص والانتفاع من النتائج. وقد صارت هذه الفوارق في بعض أنحاء العالم تزداد سفورا. وفي الوقت نفسه، أخذت الفوارق تظهر في مجالات جديدة، مثل فرص الحصول على تكنولوجيات الربط الشبكي والتكنولوجيات الجوالة.
مشكلة طويلة الأمد
في عام ١٩٩٢، أصدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي جدولا يبين حصة كل طبقة مشكلة من خُمس البشرية من الدخل العالمي. وأصبحت صورة” قمع صب السوائل “رمزا للفجوة القائمة بين الأغنياء والفقراء. وبعد مرور نحو ٣٠ عاما على ذلك، لا تزال حصة ٢٠ في المائة من أفقر البشر أقل من اثنين في المائة. وفي الوقت نفسه، ارتفعت حصة واحد في المائة من البشر الأوفر حظا – حيث انتقلت من ١٨ في المائة في عام ١٩٩٠ إلى ٢٢ في المائة عام ٢٠١٦ – وعتبة الانتماء إلى هذه الفئة هي حوالي ٠٠٠ ٣٢ دولار.
ومنذ الأزمة المالية العالمية لعام ٢٠٠٨، زاد عدد أصحاب البلايين بأكثر من الضعف. ويقول المصرف السويسري Credit Suisse إن ٨٢ في المائة من مجموع الثروة الجديدة التي تم إنتاجها في عام ٢٠١٨ ذهبت إلى أرصدة شريحة الواحد في المائة العليا. ولم يكن لشريحة النصف الأسفل من البشرية نصيب من هذه الثروة. ويُفسر ارتفاع التفاوت في الدخل والثروة بمجموعة العوامل، منها، على سبيل المثال لا الحصر، وركود الأجور وانخفاض حصة العمالة من الدخل، والتواري التدريجي لدولة الرفاه في الاقتصادات المتقدمة النمو، وعدم كفاية الحماية الاجتماعية في البلدان النامية، والتغييرات الضريبية، ورفع القيود التنظيمية عن الأسواق المالية، والتغير التكنولوجي السريع والاعتماد على العمل الآلي.
تختلف الأحوال باختلاف الأمكنة فلقد ارتفع التفاوت في العديد من البلدان خلال العقود الثلاثة الماضية، بينما تراجع في بلدان أخرى. ففي أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، حدث انخفاض كبير في الفوارق، وإن كانت لا تزال في مستويات مرتفعة. وفي العديد من الاقتصادات الصناعية المتقدمة، ارتفع التفاوت قليلا من مستويات منخفضة نسبيا. وشهد عدد من بلدان أوروبا الشرقية زيادات حادة في عدم المساواة وهي تمر بعمليات انتقال سياسي. وفي أجزاء من الشرق الأوسط، تضاءلت الفجوة ولكنها اتسعت بالنسبة لبعض الفئات.
وفي أفريقيا وآسيا، كانت الاتجاهات أكثر تنوعا، حيث ظهرت أوجه التشابه بين الاقتصادات الناشئة أو البلدان النامية غير الساحلية، وبين المناطق الريفية أو المناطق الحضرية، بشكل أوضح مما ظهرت داخل المناطق نفسها. وبصفة عامة، يشهد أكثر من ثلثي سكان العالم حاليا ارتفاعاً في التفاوت من حيث الدخل والثروة، الأمر الذي يضع عراقيل جمة أمام آفاق التنمية المستدامة.
كما تختلف الأحوال باختلاف الناس فهناك أيضا أوجه تفاوت داخل المجتمعات نفسها – وداخل الأسر. فإن ما يصل إلى ٣٠ في المائة من التفاوت في الدخل راجع إلى عدم المساواة داخل الأسر المعيشية. وعلى الرغم من أن أوجه عدم المساواة بين الجنسين تتقلص – فالفارق بين الجنسين في الأجور، على سبيل المثال، ظل ينخفض على مدى العقدين الماضيين – فإن المرأة ما زالت تعاني من تفاوتات كبيرة اقتصاديا وقانونيا وسياسيا واجتماعيا.
وفي الوقت نفسه، لا يزال الأطفال يشكلون نسبة كبيرة (حوالي النصف) من فقراء العالم، وإن كانت الجهود الهادفة إلى الحد من وفيات الأطفال وتعزيز التعليم قد أدت إلى نتائج أفضل في معظم أنحاء العالم. ولا تزال فئات من قبيل الشعوب الأصلية والمهاجرين واللاجئين والأقليات العرقية وغيرها من الأقليات تعاني من التمييز والتهميش.
ويبقى أن المسألة أكبر من المال حيث إن لعدم المساواة آثارا تتجاوز بكثير القدرة الشرائية. فأوجه عدم المساواة يمكن أن تؤثر على متوسط العمر المتوقع، وعلى فرص الحصول على الخدمات الأساسية، مثل الرعاية الصحية والتعليم والمياه والنظافة الصحية. ويمكن أن تكون سببا في الانتقاص من حقوق الإنسان المكفولة للأفراد، وذلك بسبب التمييز وسوء المعاملة وانعدام سبل الوصول إلى العدالة، على سبيل المثال. وبارتفاع مستوى التفاوت تقل فرص اكتساب المهارات، ويتعثر الترقي الاقتصادي والاجتماعي، وتتعثر التنمية البشرية، ومن ثم ينكمش النمو الاقتصادي. كما يؤدي ذلك إلى ترسيخ أجواء التخوف والهشاشة وانعدام الأمن، ويقوض الثقة في المؤسسات والحكومة، ويزيد الشقاق والتوترات في المجتمع، ويثير العنف والنزاعات. وهناك أدلة متزايدة على أن ارتفاع مستوى عدم المساواة في الدخل والثروة يدفع إلى تصاعد معاداة المهاجرين والأشكال المتطرفة من النزعة القومية. ويؤدي عدم المساواة أيضا إلى تقويض قدرة الأفراد والمجتمعات على التكيف مع تغير المناخ والتخفيف من آثاره. وما ردود الفعل الشعبوية الأخيرة على ضريبة الانبعاثات الكربونية إلا دليل على أنه سيكون من الصعب أكثر فأكثر السعي إلى القيام بإجراءات جريئة في العمل المناخي دون معالجة الأسباب الجذرية لعدم المساواة.
وهناك أدلة متزايدة على أن ارتفاع مستوى عدم المساواة في الدخل والثروة يدفع إلى تصاعد معاداة المهاجرين والأشكال المتطرفة من النزعة القومية. ويؤدي عدم المساواة أيضا إلى تقويض قدرة الأفراد والمجتمعات على التكيف مع تغير المناخ والتخفيف من آثاره. وما ردود الفعل الشعبوية الأخيرة على ضريبة الانبعاثات الكربونية إلا دليل على أنه سيكون من الصعب أكثر فأكثر السعي إلى القيام بإجراءات جريئة في العمل المناخي دون معالجة الأسباب الجذرية لعدم المساواة.
وبينما يمكن أن يكون للتكنولوجيا دور كبير في إعادة التوازن – عن طريق تعزيز فرص الاتصال الإلكتروني، وتعميم الخدمات المالية، وإفساح المجال للحصول على الخدمات التجارية والخدمات العامة، على سبيل المثال – فإن من لا يستفيدون بعد من الاتصال الإلكتروني يمكن أن يعانوا مزيدا من التهميش من جراء ذلك، لا سيما والتقدم آخذ في التباطؤ، بل في حالة تراجع حتى، بالنسبة لبعض الفئات من الناس، فهناك توافق متزايد في الآراء على أن التركيز الضيق على النمو الاقتصادي – مع تجاهل آثاره في توزيع الثروة – يؤدي إلى ارتفاع مستويات التفاوت في الدخل والثروة في كثير من مناطق العالم. وقد أظهرت بيانات دليل الفقر المتعدد الأبعاد لعام ٢٠١٩ ارتباطا ضئيلا بين الفقر ومستويات عدم المساواة الاقتصادية. وكشفت أن ثلثي فقراء العالم يعيشون اليوم في بلدان متوسطة الدخل. وحسب منظمة أوكسفام، إذا استمرت حالة عدم المساواة بنفس المستوى الذي توجد عليه اليوم، فإن الاقتصاد العالمي سيتعين عليه أن يكون أكبر مما هو عليه ١٧٥ مرة حتى يتسنى للجميع أن يحصلوا على أكثر من خمس دولارات في اليوم. فثمة حاجة واضحة إلى العمل لتحقيق النمو الشامل والمنصف والمستدام، وضمان التوازن بين أبعاد التنمية المستدامة: الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.
فعلى سبيل المثال، منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين، عاد التفاوت في الدخل إلى مستوياته المرتفعة التي كانت موجودة منذ قرن مضى في الاقتصادات المتقدمة الناطقة بالإنكليزية. ولم يرتفع بنفس الدرجة من الحدة في البلدان الأوروبية القارية.
إن قضية التفاوت الاقتصادي لها صلة وثيقة بمفهوم التكافؤ والمساواة في النتائج وتكافؤ الفرص. يختلف التفاوت الاقتصادي بين المجتمعات والحقب الزمنية والهياكل والنظم الاقتصادية، وهذا المصطلح يمكن أن يشار إليه بالتوزيع المقطعي للدخل أو الثروة في أي فترة معينة أو تغييرات الدخل والثروة في فترات زمنية أطول. يوجد العديد من مؤشرات الرقمية لقياس التفاوت الاقتصادي، ومن هذه المؤشرات معامل جيني الذي يعتبر من المؤشرات واسعة النطاق، ولكن أيضًا يوجد العديد من الطرق الأخرى لقياس التفاوت الاقتصادي ، وتشير الأبحاث إلى أن زيادة عدم المساواة يعيق فترة النمو وليس تعديلها .
إن نموذج الاقتصاد النيو ليبرالي القائم اليوم، أدّى أفضل ما يمكنه لتقليص الخدمات العامّة وتقليص الضرائب على الأفراد الأغنى وشركاتهم ومؤسّساتهم، وهو ما انعكس تراجعاً في الأجور عموماً، ودفع إلى تحميل النساء العبء الأكبر من خلال تحويلهن إلى عاملات من دون أجر في خدمة عائلاتهن والاهتمام بمنازلهن.
في عالمنا اليوم، الغالبية العظمى من الأغنياء مؤلّفة من الرجال. عالمياً تتقاضى النساء أجواراً أقل بنسبة 23% من الرجال، الذين يمتلكون بدورهم ثروات أكثر بـ50% من النساء. بمعنى آخر، إن التطوّر الذي تنعم به اقتصاداتنا يعتمد بشكل هائل على المساهمات غير المدفوعة التي تقدمها النساء في منازلهن ولعائلاتهن.
العمل الرعائي غير المدفوع يفاقم اللامساواة، وقد بنيت اقتصاداتنا على ملايين ساعات العمل غير المدفوعة. ونظراً إلى السلوكيات الاجتماعية غير العادلة، فإن النساء والفتيات هن من يقيضن أوقاتهن في خدمة عائلاتهم ورعاية الأطفال والمرضى والمسنّين، وفي الطبخ والتنظيف وتأمين بدائل للتدفئة (الحطب مثلاً) نظراً لتراجع الخدمات العامّة. هذا العمل غير المدفوع يساوي نحو 10 تريليون دولار سنوياً، أي نحو 43 مرّة حجم أعمال شركة Apple. كما تقدّر مساهمات النساء في القطاع الصحّي عبر رعاية المسنّين والمرضى في عائلاتهن، بنحو 3% من الناتج المحلّي الإجمالي في البلدان المنخفضة الدخل. وهذا العمل يسرق وقت النساء ويجعلهن غير قادرات أو عاجزات عن تخصيص وقت للتعليم والمساهمة السياسية والاقتصادية. وحتى حصول تغيير في هذا الواقع، يبقى كلّ الحديث عن المساواة مجرّد كلام فارغ.
إن تفاقم اللامساواة لم يكن صدفة، بل اتجاه مُمنهج اعتمدته الحكومات نيابة عن أصحاب الرأساماليات عبر إفقار الدولة وتعميق العجز من خلال نقل العبء الضريبي من الأغنياء إلى الفقراء وتجفيف تمويل الخدمات العامّة تمهيداً لخصخصتها من ضمن البرامج الاقتصادية التقشّفية.
لا يمكن للسوق أن يقدّم الخدمات كالصحّة والتعليم وغيرها للفقراء. عوضاً عن الوصول إلى هذا الاستنتاج وبذل الجهود لدعم القطاع العام، تقوم المؤسّسات الدولية المؤثّرة كالبنك الدولي على الترويج للقطاع الخاص كمقدّم لهذه الخدمات وحلّ للمشكلات التي تواجهها الخدمات العامّة وذلك عبر مشاريع الشراكة. ولكن تشير التجارب والأدلّة إلى أن الشراكة بين القطاعين العام والخاص لتقديم هذه الخدمات الأساسية لا يؤدّي إلّا إلى تفاقم اللامساواة.
في جاكارتا، عاصمة إندونيسيا، تمّت خصخصة مصلحة المياه عام 1997 ضمن إطار الشراكة بين القطاعين العام والخاص. لكن حتّى يومنا هذا، لا يزال معظم المقيمين في المدينة محرومين من المياه النظيفة، فيما تحمّلت الحكومة خسائر جمّة، سدّد كلفتها دافعو الضرائب. في المقابل، تغطّي المصلحة العامّة للمياه في سورابايا، ثاني أكبر مدينة إندونيسية، 95.5% من السكّان وبأسعار أرخص بكثير بالمقارنة مع جاكارتا.
أمّا في ليسوتو، بيّنت دراسة أعدّتها «أوكسفام» عن مشروع مستشفى نفّذ بالشراكة بين القطاعين العام والخاص نصح به البنك الدولي، أنه استنفد 51% من مجمل موازنة الصحّة عام 2014. وتشير البيانات الأخيرة إلى أن فاتورة هذا المستشفى توازي ضعف عتبة القدرة على تحمّل الكلفة (أي الكلفة المعقولة للمستهلك نسبة إلى دخله) التي حدّدتها الحكومة والبنك الدولي قبل إمضاء عقد الشراكة.
في باكستان، هناك 24 مليون طفل خارج المدارس. سعت الحكومة إلى معالجة هذه المشكلة عبر الشراكة مع القطاع الخاص. وتعدّ ولاية بنجاب رائدة في هذا المجال. إذ تمّ تسليم 10 آلاف مدرسة في الولاية إلى القطاع الخاص بهدف إدماج 5.5 مليون طفل خارج المدرسة في النظام التعليمي. ولكن النتائج كانت بعيدة من المرتجى وفق «أوكسفام»، إذ إن 1.3% فقط من الأطفال في المدارس التي تمّ مسحها كانوا خارج المدرسة قبل الشراكة. كما أنه هناك تكاليف إضافية (غير الرسوم) تتحمّلها الأسر وتشكّل 40% من دخل الأسر الفقيرة.
وعلى طريق معالجة أوجه التفاوت في عام ٢٠١٥، اعتمد قادة العالم خطة التنمية المستدامة لعام ٢٠٣٠، وهي تشتمل على ١٧ هدفا ترمي إلى إقامة مجتمعات أكثر سلاما وعدالة واستدامة. وبالنظر إلى أن أوجه عدم المساواة تهدد التنمية الاجتماعية والاقتصادية على المدى الطويل، ويمكن أن تولد العنف والأمراض والتدهور البيئي، فقد كُرس أحد تلك الأهداف – وهو الهدف ١٠ – للحد من أوجه عدم المساواة والحد من الفوارق في الفرص والدخل والسلطة.
ومن غايات هذا الهدف إلغاء القوانين والسياسات التمييزية، وتحسين تنظيم الأسواق المالية العالمية، وتيسير الهجرة القانونية والآمنة والمنظمة، وتعزيز المشاركة في صنع القرار – على الصعيدين الوطني والدولي. وبين عامي ٢٠١٠ و٢٠١٦، شهدت مداخيل أفقر ٤٠ في المائة من السكان نموا أسرع من نمو مداخيل مجمل السكان في ٦٠ بلدا من أصل ٩٤ بلدا تتوافر بيانات بشأنها. ويبين هذا أن عدم المساواة ليس قدرا محتوما ولا مصيرا لا رجعة فيه.
ويتخذ عدم المساواة أشكالا عديدة ويختلف اختلافا كبيرا من بلد لآخر. فبينما يشكل الهدف 10 من أهداف التنمية المستدامة وما يتصل به من غايات إطارا للعمل، فإن العمل على مكافحة عدم المساواة يجب أن يكون نابعا من السياقات القطرية والضرورات الاقتصادية ومميزات الواقع السياسي. فلا مجال أبدا للكلام عن حل واحد صالح لكل زمان ومكان. وإن الرفع من مستوى الوعي وتوسيع نطاق التأييد السياسات، واختيار أهداف النفقات العامة وإعادة ترتيب أولوياتها للحد من عدم المساواة في التمكين والفرص، وإعادة توجيه الأطر الضريبية وأطر المالية العامة للحد من التفاوتات في الدخل والثروة بين الأجيال وداخل أبناء الجيل الواحد، وإدارة التغير التكنولوجي السريع، إنما هي أمور ستظل بالغة الأهمية لمكافحة آفة عدم المساواة بجميع أشكالها ومظاهرها.
قد وجد عدد من الباحثين أن آثار اللامساواة تسببت في ارتفاع نسبة المشاكل الصحية والاجتماعية، وانخفاض نسبة المنافع الاجتماعية، وانخفاض مستوى المنفعة الاقتصادية في المجتمع من الموارد المخصصة للاستهلاك المتطور، وانخفاض مستوى النمو الاقتصادي عندما تم إهمال الموارد البشرية لأجل الاستهلاك المتطور. وبالنسبة إلى أعلى 21 دولة صناعية، يقل متوسط العمر في الدول التي لديها عدم مساواة (r = -.907) ، ويوجد علاقة مماثلة أيضًا بين الولايات الأمريكية وهي (r = -.620).
يعدُّ الأغنياء من أكثر المتورّطين بما آلت إليه اللامساواة من حدّة في عالمنا الراهن. في خلال العقود الأخيرة، انخفضت المعدّلات الأعلى لضريبة الدخل والإرث وأرباح الشركات في العديد من البلدان الغنية وظلّت منخفضة في معظم البلدان النامية. وهو ما حرم المجتمعات من استخدام عائدات ضريبية أكبر لتمويل الخدمات العامّة ودعم الشرائح الأفقر. على سبيل المثال، في عام 1970، كان أعلى معدّل لضريبة الدخل في الدول الغنية نحو 62% أمّا اليوم فيكاد يراوح 30%. ولا يبلغ المعدّل المتوسّط لهذه الضريبة في الدول الفقيرة سوى 28% فقط. أيضاً يبيّن التقرير أنه منذ الأزمة المالية في 2008 تمّ نقل العبء الضريبي من الشركات إلى الأسر، وأن مجمل الزيادة الصافية للإيرادات الضريبية تحقّقت من الضرائب على الأجور والاستهلاك. ففي معظم البلدان يتحمّل الـ10% الأفقر معدّلات ضريبية أعلى من الـ10% الأغنى.
50%من السكّان الأكثر فقراً يحصلون على 12 سنتاً من كل دولار من الدخل في مقابل 27 سنتاً لـ1% الأكثر غنى في حين أن الإيرادات الضريبية على الثروة لا تتعدّى 4 سنتات من أصل كل دولار في مقابل 36 سنتاً من ضرائب الاستهلاك ، يُظهر التقرير النتائج المباشرة للامساواة، ففي العقود الأخيرة تبيّن الإحصاءات أن نصف سكّان الأرض أي 3.4 مليار شخص لا يزالون يعيشون بفقر مدقع وبأقل من 5.5 دولار يومياً، ونحو 3.6 مليون شخص يموتون سنوياً لعدم قدرتهم على تحمّل تكاليف الطبابة، و262 مليون طفل محروم من الالتحاق بمدرسة، و16.4 مليار ساعة من العمل غير المدفوع تقضيها النساء الأكثر فقراً.
وعند التمعّن في الضرائب على الثروة، وهي إمّا غير موجودة أو غير مطبقة في البلدان النامية أو تمّ إلغاؤها في العديد من البلدان المتقدّمة، يتبيّن أن الإيرادات من الضريبة على الثروة لا تتعدّى 4 سنتات من أصل كل دولار في مقابل 36 سنتاً من ضرائب الاستهلاك. وعلى رغم تضاعف ثروات المليارديرات خلال العقد الأخير، إلّا أنه لا يتمّ التطرّق إلى ضريبة الثروة كمصادر مُحتملة لزيادة الإيرادات العامّة لتمويل الخدمات العامّة. في حين يشير التقرير إلى أن تدفيع الـ1% الأكثر ثراءً ضريبة إضافية على ثرواتهم بنسبة 0.5% فقط، يساهم في جمع أموال كافية لزيادة تعليم 262 مليون طفل غير ملتحقين بالمدارس وتأمين الرعاية الصحيّة اللازمة لإنقاذ 3.3 مليون شخص من الموت.
من جهة أخرى، يخفي فاحشو الثراء ما لا يقلّ عن 7.6 تريليون دولار عن السلطات الضريبية، متجنّبين دفع ما يقدّر بنحو 200 مليار دولار من عائدات الضرائب. وفي ظلّ الاستعانة بجيوش من المستشارين الضريبيين، تستغل الشركات متعدّدة الجنسيات ثغرات في قوانين الضرائب لتحويل الأرباح إلى ملاذات ضريبية وتجنّب الضرائب، وهو ما يكبّد البلدان النامية تكلفة إضافية تقدّر بـ100 مليار دولار، وبالتالي حرمان هذه المجتمعات من أموال يمكن استخدامها للصالح العام.
يظهر صندوق النقد الدولي أن هناك إمكانيات كبيرة لزيادة العائدات من أغنى الأفراد والشركات. وخلافاً للاعتقاد السائد، فإن هذا لن يضرّ بالاقتصاد. فعلى سبيل المثال، رفعت كولومبيا عائداتها بنسبة 10% بعد فرض الضرائب على الثروة. ومن هنا، يتبيّن أن السياسات الضريبية تنطوي على إمكانيات، ليس فقط للحدّ من الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وإنّما أيضاً لتقليص عدم المساواة بين النساء والرجال.
ولقد صرح روبرت شيلر الفائز بجائزة نوبل في الاقتصاد عام 2013 أن المشكلة الأهم تتمثل في ارتفاع عدم التكافؤ في الولايات المتحدة والعالم بأجمعه.
إن تزايد عدم التكافؤ يضر بالنمو الاقتصادي و كذا التقسيم الاقتصادي الطبقي للمجتمع إلى صفوة وعامة لعب دورًا رئيسيًا في انهيار الحضارات المتقدمة مثل الرومان، والهان، وجوبتا و هنا يحدق الخطر بمجتمعات كثيرة في حين أن العولمة قد قللت عدم المساواة العالمية (بين الدول) إلى أنها أدت إلى ارتفاع عدم المساواة داخل الدول مع الثورة الرقمية الهائلة .
توجد مستويات أقل من اللامساواة عموما في الدول ذات السلطة التشريعية اليسارية. تقلل بعض العوامل من اللامساواة الاقتصادية والتي يمكن تقسيمها إلى نوعين: تدابير برعاية الحكومة أو مدفوعة من السوق. استحقاقات وفعالية كل طريقة لا تزال موضع نقاش.
تشمل التدابير الحكومية لتخفيف اللامساواة الاقتصادية كلا من:
المدارس الحكومية: زيادة العمالة الماهرة وتقليل اللامساواة في الدخل بسبب التفاضلات التعليمية، الضرائب التصاعدية: من خلال فرض الضرائب على الأغنياء بصورة متناسبة أكثر من الفقراء، وخفض كمية اللامساواة في الدخل في المجتمع إذا لما يؤدي التغير في الضرائب إلى التغيرات المرجوة في الدخل.
تشمل قوى السوق خارج تدخل الحكومة والتي يمكنها خفض اللامساواة الاقتصادية:
الميل الحدي للاستهلاك: مع ارتفاع الثروة والدخل، قد ينفق الفرد أكثر. في مثال جامح، إذا امتلك فرد ما كل شيء، فإنه سيحتاج على الفور أن يعين الناس ليحافظ على ممتلكاته وبالتالي يقلل تركيز الثروة. على الجانب الآخر، يشير مايالا إلى حقيقة أن انخفاض الرغبة في الاستهلاك عند ارتفاع الدخل يؤدي إلى زيادة المدخرات، مما يقوي من مركز السوق للشريحة الاجتماعية الثرية أكثر.
يوضح الباحثون أنه منذ 1300، فإن الفترة الوحيدة التي شهدت تراجعا كبيرا في اللا مساواة في الثروة في أوروبا كانت في تبعات الموت الأسود وبعد الحربين العالميتين. يوضح المؤرخ والتر شيدل أنه ومنذ العصر الحجري، فإن العنف الشديد والكوارث والقلاقل في صورة حرب شاملة والثورات الاشتراكية وانهيار الدول هي ما قللت بوضوح اللامساواة الاقتصادية. كما أعلن أن “فقط الحرب النووية الشاملة هي ما قد يعيد توزيع المصادر بصورة كاملة من جديد” وأن “سياسات الإصلاح السلمية قد أثبتت أنها غير كافية لمواجهة تحديات النمو في اللامساواة الاقتصادية”.
و يبقى الكلام عن الحل ، هل مع كل هذه الأرقام و الوقائع و الممارسات يبقى تطبيق المساواة امرا حقيقيا ام هل سيكون اللجوء الى اللامساواة الجندرية ، هذا النموذج الاقتصادي القائم، يدفع باتجاه زيادة الهوة بين النساء والرجال أيضاً، ووفقاً لتقرير «أوكسفام»، المجتمعات التي تكون فيها الفجوة بين الأغنياء والفقراء أقل، هي المجتمعات التي عمدت إلى معالجة الفجوة بين النساء والرجال. اللامساواة الجندرية ليست صدفة عابرة أو ظاهرة جديدة. فالقواعد التي تقوم عليها اقتصاداتنا تمّت صياغتها من قبل الرجال الأغنياء والأقوياء لتصبّ في النهاية في مصلحتهم. 10 تريليون دولار ، فاذا لم تكن الجندرية الحل فهل هي صدفة ام حقيقة و ستطبق ؟!!

المراجع :
(https://www.un.org/ar/un75/inequality-bridging-divide)
(https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B1%D9%82%D9%85_%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7%D8%AA_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D9%8A%D8%A7%D8%B1%D9%8A_%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D9%8A)
Temple, Jonathan (1999). “The New Growth Evidence”. Journal of Economic Literature. 37) (1): 112–56. doi:10.1257/jel.37.1.112
http://alrai.com/article/10515245/كتاب/توزيع-الدخل-نحو-تحقيق-العدالة-الاجتماعية
(https://m.annabaa.org/arabic/rights/19647)
(https://www.dohainstitute.org/ar/PoliticalStudies/Pages/Global-Inequality-from-Political-Economy-Perspective-Reading-Global-Inequality-Report2018.aspx )
(.63 – 56. pp), 1968 (3810. no, 159. vol, Science,” Effect Matthew The, “Merton. K R)
جريدة الاخبار،ملحق رأس المال : 21/01/2019

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى