أحدث الأخبارالثقافة

المثقف والمسؤولية الكونية..

مجلة تحليلات العصر الدولية - المهندس ابو باقر

المثقف واعي مسؤول، اعظم مسؤلياته واهدافه منح بني البشر الوديعة الاهية الكبرى، اي المعرفة والوعي، وذلك لان الوعي يبدل الجماهير الضعيفة الراكدة الى مرجل بناء في حالة غليان وهيجان، ولان الوعي هو الخلاق للعبقريات العظيمة والقفزات الواسعة… حينها تستيقظ الحضارات والثقافات والابطال العظام، وينهظ المجتمع.

ان مسؤولية المثقف في زمانه هي القيام (بالنبوة والامامة) في مجتمعه حين لا يكون نبي او امام، ونقل الرسالة الى الجماهير، ومواصلة النداء، نداء الوعي والخلاص والانقاذ في اذان الجماهير الصماء التي اصيبت بالوقر، وبيان (الاتجاه والسبب) وقيادة الحركة في المجتمع المتوقف، واضرام نيران جديدة في مجتمعه الراكد، وهذا عمل لا يقوم به العلماء والخبراء والاختصاصيون، لان هناك مسؤولية على عاتق هؤلاء محددة تماما، وهي منح الحياة اكبر قدر ممكن من الامكانيات، والقوى الطبيعية للانسان واستغلالهما لخدمته ولنموه وتقدمه. ان العلماء والخبراء والاختصاصيين والفنانين يمنحون المجتمع البشري او مجتمعهم قوة علمية باختاراعاتهم وجهودهم، لكن المثقفين يعلمون المجتمع (كيفية السير) ويمنحونه الهدف ويقدمون رسالة (التحوُّل) ويضيؤن الطريق له.

ان العالم والخبير والاختصاص والفنان مانح لرفاهية الإنسان ومتعته وضامن لها، وهو الموكل بمنح الإنسان القوة والراحة والسعادة، وهو في النهاية يكشف الطبيعيات الواقعية، لكن المفكر المثقف هو الذي يهدي الى الطريق المستقيم.
ان العالم والخبير والفنان يضع مصباحا على الطريق، والمفكر المثقف يرشد الى الطريق ويدعوا الى السفر، ويدل على بداية الطريق وهو نفسه رائد القبيلة وحادي القافلة.
ومن هنا يسقط العالم والخبير والفنان احيانا في يد الجهل والظلم والجور، لكن المفكر والمثقف هو بذاته وبالضرورة الماحي للظلام والظلم، فالعلم قوة لكن الفكر نور!!.

ماهو المثقف؟ (المثقف هو موقف وليس مهنة!!). ليس المثقف هو الإنسان الذي يقول عن نفسه: انا مثقف لانني سافرت الى اوربا او امريكا وقرأت عن مدارس كذا الفكرية، واكملت كذا من الدروس والكورسات، ونجحت في الامتحان فيها، ونلت فيها الشهادة الجامعية…
ليست مسؤولية المثقف بشيء يمكن الحصول عليه من الجامعات والمعاهد العلمية، واذا ظهر فرد استثنائي في هذا المجال، فليس لأنه درس في جامعة (هارفارد) أو معهد (ام آي تي) وصار مثقفا، بل لانه حتى لو كان بقي هنا ولو لم يكمل تعليمه العالي فهو ايضا مثقف!! ياتيك وصفه اكثر في السطور التالية.

وهناك خطأ اخر من الممكن ان نقع فيه وهو ان نظن ان الطالب او الشاب الذي سافر الى اوربا او امريكا ودرس العلوم الاجتماعية والسياسية والاديولوجيات الفلسفية وغيرها، ثم عاد، قد اصبح مثقفا!! في حين ان الامر غير ذلك. مثل هذا الشخص لا يستطيع – ولمجرد انه درس هذه المدارس العلمية الراقية- ان يقوم في مجتمعه بدور خاص، وان ياخذ على عاتقه مسؤولية المفكر والمثقف، وان يقوم بمنح المجتمع الايمان بنفسه، وتحليل امراض مجتمعه، وبث الوعي في الناس، وتحديد اهداف ومثل مشتركة لهم،  هذا الشخص لا يستطيع ان يحرك المجتمع، لانه بدراسته هذه المدارس الفكرية وفهمها ومعرفتها اصبح عالما متخصصا فيها فحسب، يستطيع ان يذهب الى اي جامعة ويقوم بتدريسها، لكن ان يقوم باثر فعال وبنَّاء في مجتمعه ويجد السبب الحقيقي لانحطاط مجتمعه، ويكشف السبب الاساسي لركود وتاخر وماساة مواطنيه وجنسه وبيئته، ثم يقوم بعد ذلك بتنبيه مجتمعه الغافل الغائب عن الوعي لمصيره وقدره التاريخي المشؤم ويبدي لمجتمعه الحل والهدف واسلوب السير الصحيح- فهذا لم نجده في اي من المثقفين المعاصرين الذين درسوا وتخرجوا من جامعات اوربا وامريكا ثم عادوا الى بلدهم الام!!!

لماذا؟ لان العلم بالشيء والاحاطة به، ليس كالعمل بالعلم المحصل وتطبيقه في ارض الواقع، وذلك لاختلاف البيئة الاجتماعية والتاريخية لسكان هذا المجتمع او ذاك.
المثقف الواعي والمفكر الناضج هو من درس تاريخ مجتمعه وغار في بحر آلامه وآماله، وحلل عوامل الضعف والقوة في مجتمعه، وعاش واكل ونام وتنفس ومشى وركض وعاشر الناس بكل صنوفهم وطبقاتهم، وباختصار، متغلغل فيه وغائصا في بحر تعقيداته.
يحاول دائماً الاقتراب من الناس، ويلامسهم في حياته اليومية بكل جوانبها وافراحها واحزانها، ويعرف كيف يفكرون وعن ماذا يتحدثون، ويبادلهم الاحترام ويشاركهم في كل مشاعرهم واحاسيسهم وخوفهم وقلقهم وآلآمهم  وامالهم.
هذا المثقف الذي يتحلى بهذه الصفاة، هو فقط يستطيع ان يطبق ما درسه وتعلمه في الجامعة، او المعهد، او الحسينية او الجامع او الشارع او اي مكان، وحتى لو لم يكن درس اصلا. الثقافة بمفهومها الاصلي تعني المشاعر والاحاسيس والسلوكيات والافعال التي يتصف بها الشخص الواعي بذاته واهله وجنسه ومجتمعه. ويعي دوره الخطر ويحمل الامانة التي امنها عنده الخالق لهذا الوجود…

وينظّر ويحصل على الحلول اللازمة لشعبه على اساس امكانياته واحتياجاته وقابلياته، وعلى اساس تخطيط مدروس قائم على اساس الاستخدام الصحيح للثرواة والموارد الطبيعية والبشرية، ويكتشف الروابط والاسباب والنتائج بين انواع الانحطاط والانحرافات والامراض وبين العوامل والظواهر الموجودة في الداخل والخارج، ويقوم بنقل المسؤولية التي يحسها هو، من طائفة المفكرين المحدودة الى السواد الاعظم من الناس، ويجعل التناقضات الاجتماعية بسيطة ومفهومة للناس البسطاء…

وهذه المهمة ليست بالسهلة ولا بالهينة، لكن لابد منها، ولا سبيل بغيرها، ولا نتائج بدونها!!!.

هذه المهمة هي التي اوكلت الى الانبياء والمصلحين والصالحين والى هذا (المهندس الاجتماعي) الذي نسميه “بالمثقف” في عصرنا الحاضر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى