أحدث الأخبارشؤون امريكيةشؤون اوروبيية

المخطط الفرنسي .. والفخ الأمريكي

مجلة تحليلات العصر الدولية - د.ناجي أمهز / مجلة يمن ثبات

بداية علينا أن نعرف أن لبنان قبل 4 آب مختلف كليا عما بعده؛ فقد ظهر الفساد وحجم الاهتراء بصورة لا تقبل الشك بأن لبنان- كمؤسسة قائمة- قد انتهى تقريبا بعد أن تجاوز دينه العام المائة مليار دولار بالإضافة إلى انهيار الليرة، حيث ارتفعت أسعار المواد الغذائية الأساسية والأدوية، مع كلام عن عجز الدولة عن الاستمرار بدعم الطحين ومشتقات النفط، ناهيكم عن فقدان الثقة بالقطاع المصرفي داخليا وخارجيا، فمن بعد اليوم مستعد أن يودع أمواله بأي مصرف، وهو يشاهد ما يحصل يوميا مع المودعين الذين فقدوا ودائعهم؟! أما البطالة التي تجاوزت الـ %48 فإنها تهدد الحياة الأسرية، مما يعني بأن الانهيار الاجتماعي قادم لا محال.

وأما تدخل ماكرون بالشأن اللبناني، فهو ليس نتيجة ما حصل بالمرفأ أو بسبب خلاف مع الرئيس الأمريكي ترامب، وإن كان هناك تباين بوجهات النظر، ولكن هذا التباين ليس على من يخدم لبنان أكثر، بل من يستطيع أن يخدم النظام العالمي أكثر وبالطريقة الأوفر والأفضل.

وهنا أريد أن أقدم ملاحظة- وهي بغاية الأهمية- تتعلق بالاختلاف الفرنسي الأمريكي؛ لأن الإضاءة عليها تصوب الكثير من النقاشات.

في عام 2008م ومع وصول أوباما إلى رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، تم الاتفاق مع ساركوزي الرئيس الفرنسي السابق، على أن يصبح هناك متغير بالشرق الأوسط أسمته «كوندليزا رايس» الفوضى الخلاقة، على أن تنال فرنسا حصة في المغرب الأفريقي، وتحديدًا في ليبيا.

وافقت فرنسا، فانطلقت بالشرق الأوسط الفوضى الخلاقة التي أطاحت بالعديد من الأنظمة، ومنها النظام الليبي، واستولت فرنسا على %46 من النفط الليبي، بينما سيطرت أمريكا بواسطة أكثر من جهة على بعض المناطق السورية التي تحتوي على النفط، كما أنها استولت على عائدات النفط العراقي؛ حيث نسمع عن مئات المليارات من الدولارات المفقودة من الخزينة العراقية التي ذهبت لواشنطن، ناهيكم عن النفط الخليجي الذي أصبح بأكمله -تقريباً- ملك الإدارة الأمريكية، وتتذكرون محاولات السعودية الدائمة لبيع النسبة الأكبر من أسهم شركة أرامكو؛ لأن السعودية تدفع دون أن تستفيد من هذه الشركة شيئا.

ولكن مع وصول ترامب إلى سدة الرئاسة الأمريكية حدث متغير عالمي، يمتد من طهران حتى برلين مرورا بالصين، وقد دفعت فرنسا ضريبة هذا المتغير ثمنا كبيرا، فقد رضخت لرغبات ترامب بدفع ضريبة تجاوزت ال 2 مليار دولار سنويا، وأيضا وافقت ودفعت بالاتحاد الأوروبي كي يدفع 45 مليار دولار مقابل ما سمي بحماية أوروبا الذي غادرته بريطانيا.

وكان التعليل الفرنسي الدائم أن عائداتها من النفط الليبي هي أكبر مما يطلبه ترامب.

إلا أن سماح ترامب للحكومة التركية التدخل في ليبيا كان هو الفاصل ما بين الصمت الفرنسي والبحث عن الحلول لهذه المعادلة التي تهدد استقرار فرنسا بحال تراجع دخلها القومي.

إذن التدخل التركي في ليبيا هو الذي قلب المعادلة بين فرنسا وأمريكا، لكن هذا المتغير لن يدوم طويلا؛ وذلك بسبب ترقب ما ستنتجه الانتخابات الأمريكية، حتى الرئيس ماكرون حدد حركته السياسية تجاه لبنان بمدة ثلاثة أشهر، أي: أنه سيعود ليلتزم بالقرار الأمريكي بعد الانتخابات.

وكل ما تقوم به فرنسا اليوم هو دغدغة الإدارة الأمريكية من بوابة الأزمة السورية، حيث تقول للإدارة الأمريكية: إن عدو عدوي هو صديقي، أي: أن فرنسا مهتمة بالوقت الراهن بدعم محور المقاومة الذي هو على تماس مع الحكومة التركية بسبب تدخلها بسوريا، وأي إضعاف أو إشغال للحكومة التركية في الجغرافيا السورية يعني إضعافها أو وقف تمددها في ليبيا.

وتتذكرون أن هناك أكثر من تأجيل طرأ على زيارة وزير الخارجية الفرنسي إلى لبنان، وحتى عندما أعلن رسميا عن موعد زيارة «لودريان» للبنان أيضا حصل تأجيل بسبب جولة خليجية قام بها لودريان؛ بمحاولة لجس نبض الساسة الخليجيين وموقفهم من تركيا، فوجد أن هناك خلافًا بين بعض دول مجلس التعاون الخليجي وتركيا، لكن هذا الخلاف لن يتطور بسبب القرار الأمريكي الذي يمنع تفاقم الخلاف…

وما زيارة لودريان إلى الضاحية إلا إشارة بأن اللقاء ممكن مع محور المقاومة، وبالفعل قام ماكرون بالوقوف دقائق على انفراد مع رئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد، كما أن كلام ماكرون مع ترامب حول أن آلية العقوبات هي تزيد قوة حزب الله، وكأنه يقول: لا أوافق على هذه العقوبات.

المهم أن حركة ماكرون مرتبطة بالانتخابات الأمريكية، كما أن عمرها قصير كما قلنا، أي: ثلاثة أشهر.

وقد حاولت فرنسا أن تستفيد من إعلان تحويل «آيا صوفيا»إلى مسجد؛ كي تقلب الرأي العام المسيحي على تركيا، فما كان من قداسة البابا إلا أنه قام بزيارة آيا صوفيا والصلاة فيها، مما عده الفرنسيون بأن قداسة البابا سحب من تحتهم البساط.

الفرنسي يحاول التحرك بالوقت الضائع، ولكن المشروع واضح، ووضوح المشروع هو الذي سمح للقوات اللبنانية أن تسمي المرشح نواف سلام لرئاسة الحكومة.

على كل حال وكي لا أطيل الفرنسي لن يكون قادرًا أن يغير بالمعادلة؛ فالفرنسي يعتقد أنه قادر على خدمة النظام العالمي وخدمة الاستراتيجية الفرنسية من خلال تحجيم المقاومة داخل الجسد اللبناني، مع بقائها قوة ضاربة تساهم بإرباك التركي، بينما الأمريكي وصل لقناعة بأنه عليه قتل الجسد اللبناني؛ لتموت معه المقاومة.

وما إعلان أردوغان زيارة لبنان- ثاني يوم لوصول ماكرون- إلا رسالة بأنه إن كانت فرنسا تغازل الضاحية، فإن تركيا قادرة أن تغازل مكونًا سنيًّا كبيرًا، وتحديدا بالشمال.

التحرك الفرنسي محدود وهو ليس انتدابًا كما يتصور بعض فلاسفة الفضاء الخارجي، هو جاء ليقول للبنانيين: إني حاولت وأنتم لم تساعدوني حتى أساعدكم، وأيضا كما قلنا؛ ليدغدغ الإدارة الأمريكية.

فالقادم على لبنان مرعب بحال وصول ترامب، وبحال وصول بايدن؛ فان لبنان متجه نحو الفيدراليات المعلنة، وفي لعبة الفيدراليات لا تنفع القوة؛ لأن الجو السائد هو الذي يفرض نمط حياة وتوجهًا معينًا، وأتوقع أن نشهد تغييرًا ديمغرافيًّا كبيرًا، وبطريقة سلمية، فآليَّة هذا التغيير قد أعدت بعناية فائقة، وهي شبيهة بما قام به جنبلاط عندما تكلم عن بعض المناطق، وأيضا عندما دعا غبطة البطريرك الراعي السلطات اللبنانية إلى مداهمة مخابئ السلاح المنتشرة من غير وجه شرعي في مدن وقرى لبنان، وكلام غبطة ليس بعيدًا زمنيا عن موقف رئيس الاتحاد الماروني العالمي الذي تكلم عن بعض قرى جبيل.

ومن وجهة نظري، فإن المطلوب هو التحرك داخليا للتوصل إلى حوار جاد وبناء، بعيدا عن الأدوات والأساليب التقليدية التي كانت تستخدم بالحوار وأخذ الصور؛ لأنها أظهرت فشلها، وضيعت الفرص، وأهدرت الوقت للاستفادة من الوقت المتاح قبل أن تصبح كل مدينة عبارة عن عاصمة، وفي كل عاصمة هناك من يتظاهر ضد من يختلف معه سياسيا.

كما علينا ألا نعول على هذه الحكومة أو غيرها؛ لأنها -مهما قدمت- لن تنجح؛ لأن المطلوب منها دوليا هو أكبر بكثير من قصة ثقة ومكافحة الفساد أو إغلاق حدود وترسيم حدود.

بل يجب على الطقم السياسي ألّا يتدخل بتأليف الحكومة حتى لو همسا، وأن يتركوا الرأي العام اللبناني هو الذي يحدد من يمثله بالحكومة.

وحتى الطقم السياسي التقليدي انتهى؛ فالعقوبات قادمة مهما قدموا وانبطحوا، ووقفوا بالصف أو تكلموا بتهذيب؛ لأن الإعلام الدولي الذي فضحهم سيمنع أي مؤسسة رسمية أن تتعامل معهم أو أي شخصية دولية قادرة على استقبالهم وحمايتهم؛ لأن الموضوع أصبح قضية رأي عام دولي.

فالطقم السياسي أصبح منبوذا دوليا ومكروها داخليا؛ بسبب فساده الذي فاق كل التوقعات، والوحيد الذي كان يعرف بما يعد للبنان هو وليد جنبلاط الذي أدار ظهره للعبة البرلمان والسلطة، وأخذ يغرد من بعيد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى