أحدث الأخباراليمنمحور المقاومة

اليمن : المفاجأة الإستراتيجية

مجلة تحليلات العصر/مجلة يمن ثبات العدد الأول - ناصر قنديل

بالرغم من خوضهم لمعارك عديدة في صعدة وصمودهم بوجه ثنائي ضم الرئيس السابق علي عبد الله صالح والقوات السعودية ، فقد كان النظر لقوة أنصار الله لا يصل لحد اعتبارها قوة قادرة على خوض معارك فرض الإرادات .

وهذا التقدير في الاستراتيجية كان يطال أكثر من الأعداء الكثير من الأصدقاء، ومعه تقدير سياسي يقوم على اعتبار أن أي تسوية سياسية يمنية تعترف بهم شريكا متوسط الحجم يملك حق الحماية من التصفية والاعتراف بالوجود وينال بعض مكاسب الحكم ستكون سقفاً مناسباً لطموحاتهم، وبالتوازي اعتبار أن أي معركة فاصلة معهم يصرف خلالها بعض جدي ولو قليل من فائض القوة المتراكم لدى السعودية وقدرتها على التلويح بالحصار البحري والجوي والبري، سيكون كفيلا بتحقيق ردع كامل لأي طموحات وتطلعات لدى أنصار الله تعلو هذا السقف، ولذلك كانت المعادلة الأميركية السعودية التي يقف كيان الاحتلال دائما في خلفيتها، تقوم على اليقين بالحاجة لخطوة عسكرية وسياسية استباقية لنمو قدرات أنصار الله، قبل أن تتوسع تطلعاتهم وتكبر طموحاتهم وتزيد قدراتهم، لكن كان واضحاً أن توقيت هذه العملية، يجب أن لا يتقدم كأولوية إلا في حالتين. الأولى: أن يقدم أنصار الله على ارتكاب خطأ في الحسابات، فيقدمون على مغامرة استراتيجية بحجم وضع اليد على جزء من العاصمة صنعاء. والثانية: أن تتجه المعادلات الدولية والإقليمية نحو فرض خسائر على السعودية في الحرب الكبرى الدائرة في سورية ، فيصير الحيز اليمني للدور السعودي تعويضا ضروريا من الزاويتين الاستراتيجية لموازنة ما يصفه الأميركيون بربح مواز للربح الإيراني في سورية ، وتكتيكيا، لتظهير تعديلات رسم الخرائط بما يحفظ معنويات ومكانة السعودية .
كان ما جرى عام 2014 نموذجيا بالنسبة للثلاثي الأميركي السعودي الصهيوني؛ لاعتبار اللحظة الموعودة قد حانت، فقد نجح أنصار الله بتنظيم انتفاضة انتهت بالسيطرة على العاصمة صنعاء وليس جزءاً منها ، وأكملوا توسعهم نحو عدن ومضيق باب المندب، وبدت النقلة الموعودة في الحرب التي يخوضها الثلاثي نفسه في سورية مستحيلة مع اختبار استقدام الأساطيل الأميركية في آب 2013، والتراجع نحو اتفاق نزع السلاح الكيميائي السوري، وفتح الباب للتفاوض الذي تحول نحو تفاوض مستأنف بعد التجميد بين دول الخمسة زائدا واحد وإيران، بخلفية التسليم أن الموازين ستتجمد عند النقطة التي بلغتها في سورية ولا فرص جديدة لتغييرها، وهو ما كان ينتظره التفاوض على الملف النووي مع إيران، بعدما حسمت جولة بغداد في 2012 الأرضية التقنية للتفاهم ، وقرر الأميركيون تجميد التفاوض رهانا على تغييرات في التوازنات في سورية، وصار بعد التيقن من أن لا شيئ إضافي يمكن فعله في سورية والتيقن الموازي من أن العودة إلى مسار التفاهم النووي مع إيران مطلوبة، فصار المطلوب بالتوازي تعويض السعودية من الجيب اليمني، استباقا لتوقيع الاتفاق الذي ارتسمت ملامحه النهائية خريف 2014 ومدد التفاوض لسبعة شهور، بانتظار أن ينجز الحلفاء ما يلزم لترتيب أمورهم، ومنهم السعودية، التي كانت وجهتها المرسومة ترتيب الملف اليمني تحت إبطها، وإنهاء تمدد أنصار الله نحو باب المندب ولكن خصوصا في صنعاء وعلى البحر الأحمر إذا تعذرت تصفيتهم، وجاء حافز ثالث ليزيد زخم الاندفاع، وهو تسلم محمد بن سلمان مهمة ولي العهد في السعودية واستعداده لتولي العرش الملكي، ضمن رؤية جديدة للحكم والزعامة السعوديتين في المنطقة تحتاج رصيد النصر المحسوم في حرب اليمن المرتقبة.
من الزاوية الاستراتيجية يجب النظر بعمق إلى نتائج الحرب التي مضى على إطلاقها أكثر من خمس سنوات، ولا تزال تعاني من الفشل في تحقيق الأهداف، وقد تحولت إلى حرب استنزاف ميؤوس منها في زاوية ما كان مقررا لها، ونتج عنها تحول الجهة المستهدفة، وهي أنصار الله، إلى مصدر لصناعة السياسة والأمن في منطقة الخليج كلها، عبر القدرات التي نجحت بإثبات فعالية وثبات وديمومة امتلاكها والقدرة على تحريكها، والخبرة في إدارتها، لجعل أمن الطاقة رهينة يمنية، وهو أمر يدخل في حسابات توازنات بحجم دول عظمى لا حركات مقاومة، وهذا يعني تحول الفرصة التكتيكية الأميركية السعودية إلى تحد استراتيجي، وتحول الحلم إلى كابوس.
من حيث النتائج المرتتبة على الفشل بحجمه ونوعه، تشبه نتيجة حرب اليمن في القراءات على مستوى الخبراء الاستراتيجيين في واشنطن وتل أبيب، نتائج الفشل في حرب تموز 2006 التي استهدفت التخلص من حزب الله ومقاومته لكيان الاحتلال، ونتائج الفشل في الحرب على سورية التي كان محورها إسقاط سورية أو ترويضها لتحجيم مصادر مساهمتها في تنمية محور المقاومة وتهديد التوازانات التي تحيط بأمن كيان الاحتلال، فهي نتائج تقول أن المنطقة تتغير لصالح محور المقاومة، وأن ما لم تحققه القوة، لن يحققه المزيد من القوة.
من حيث السياق لاتصح المقارنة، لأن حزب الله كان قد دخل المعادلة الإقليمية بانتصاره عام 2000 وتحوله لاعباً في الإقليم بقوة، تحرير الجنوب وإطلاق مفهوم المقاومة في المنطقة، وجاء فشل حرب تموز تأكيداً لبقاء المعادلة التي سبقتها، وفتح طرق النمو أمامها، ولأن سورية كانت دولة قوية قادرة موجودة كلاعب إقليمي بارز، وترتب على الفشل في إسقاطها أو تطويعها أو تفتيتها تأكيداً لعودة المعادلة التي كانت قائمة مع آفاق نموها وتطورها، أما في اليمن فقد تولدت عن الحرب معادلات لم تكن في الحسبان، فلم تكن قوة أنصار الله لاعبا في المشهد الإقليمي قبل الحرب وقد صارت، وصار من المستحيل إعادة المارد إلى القمقم، ولم يكن أمن الطاقة ممكن التهديد بما له من مكانة اسراتيجية دوليا، إلا عبر مخاطرة بالحرب تقدم عليها إيران، وغالبا في حال الرد على حرب شنت عليها، وصار أمن الطاقة بيد أنصار الله، ولم يكن أنصار الله حلقة محورية في تهديد أمن كيان الاحتلال في أي حرب قادمة، وقد صاروا.
المفاجأة ليست بالنتائج فقط، بل اليمن هو المفاجأة، على يد أنصار الله، فاليمن يفوق السعودية سكانيا، ويمسك استراتيجيا بأربعة مصادر قوة، إطلاله على «بحر عمان» وإطلاله على البحر الأحمر، وإمساكه بمضيق باب المندب، وحدود برية طويلة مع السعودية يظللها تداخل ديمغرافي في مكونات المجتمع السعودي لصالح الأصول اليمنية، واليمن ثروات نفطية مخزونة وممنوعة، وعدد سكان يفوق مجموع سكان دول الخليج، ومساحة من الجغرافيا والتضاريس جعلته عصيا عبر التاريخ أمام الغزاوت الاستعمارية، وعمق حضاري وثقافي وميراث تاريخي يصعب شطبه أو تجاهله، إنه أقرب ليكون -ولو تجاوزا- بنهوض أمة منسية، كنهوض الصين قبل سبعين عام، وانتصار الثورة الإسلامية في إيران قبل قرابة نصف قرن، ودخولها المعادلات الدولية .
اليمن خمسة أضعاف لبنان سكانيا وأكثر بكثير كمساحة وثروات واعدة ومكانة استراتيجية، وأكبر من سورية مساحة وعدد سكان ومقدرات، واللاعب المجاور الذي تمثله السعودية، ركن في ثلاثية مهددة بالإنزلاق، ضلعها الأول كيان الاحتلال الذي يعيش مأزقا وجوديا، وتركيا التي تتلمس مكانتها في معادلات دولية جديدة، فتتموضع على ضفاف لا تنضبط بالسياسات الأميركية، رغم بقائها عضوا في حلق الأطلسي، فالنظر بعين مستقبلية لتكريس المعادلة اليمنية الجديدة التي صنعها بالتضحيات والعذابات والصمود الأسطوري، شعب اليمن بقيادة أنصار الله، يعني النظر لشرق أوسط جديد، لكنه عكس الشرق الأوسط الجديد الذي بشرت بولادته «غونداليسا رايس» من حرب تموز 2006، شرق أوسط يتحول فيه اللاعبون المعتمدون أميركيا، والمصالح العليا الحاكمة للسياسات الأميركية، إلى رهائن يصعب تحريرها .
حال الإنكار لنصر اليمن الذي تحقق وانتهى، ليس سياسيا وتكتيكيا، إنه حيرة استراتيجية بكيفية التعامل مع هذا الوافد الجديد، القادم إلى معادلات الطاقة وأمن البحار والمضائق، والذي سيرسم بقدرته على إكمال الطوق مستقبل الكيانين الرئيسيين في معادلات الهيمنة الأميركية على المنطقة كيان آل سعود وكيان الاحتلال في فلسطين .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى