أحدث الأخبارشؤون امريكية

ايام ترامب الاخيرة ترسم الصورة الحقيقية لامريكا !

مجلة تحليلات العصر - عادل الجبوري

لم يتبق على مغادرة الرئيس الاميركي المهزوم دونالد ترامب للبيت الابيض ليحل محله الرئيس الفائز جو بايدن سوى بضعة ايام، ويبدو ان العالم سيبقى حابسا انفاسه خلال هذه الفترة، توجسا وقلقا واضطرابا مما يمكن ان يقدم عليه ترامب، الذي مازال حتى الان غير متقبل لحقيقة هزيمته، ولانه كذلك، فقد راح يفتح جبهات داخلية وخارجية في اطار محاولاته لخلط الاوراق، وبالتالي اعادة عقارب الساعة الى الوراء، او في اسوأ الاحوال تحطيم الساعة وعقاربها بالكامل!.
وربما تكفي وقائع اقتحام مبنى الكونجرس من قبل جماعات فوضوية متطرفة داعمة لترامب ومدعومة منه، للتدليل على حقيقة منهج ذلك الرئيس غريب الاطوار والسلوكيات، وطريقة تعاطيه مع الامور، لاسيما الحساسة والخطيرة منها، التي تمس امن واستقرار وتماسك الولايات المتحدة الاميركية.
التعمق والتدقيق في وقائع وحيثيات اقتحام مبنى الكابيتول بهذه الصورة والكيفية، وبدفع وتشجيع ودعم من صاحب السلطة العليا في البلاد، يكشف عن حقائق ومعطيات خطيرة، علما ان استهداف مقر السلطة التشريعية في الولايات المتحدة الاميركية، لم يحدث على مر تأريخها، الا مرات قليلة جدا، كان اخرها في عام 1945، حينما اطلق متطرف قومي ينحدر من ارخبيل بورتوريكو النار على اعضاء مجلس النواب ليصيب خمسة منهم قبل ان يتم اعتقاله والسيطرة على الموقف.
وفي مرات سابقة، حصلت خلافات واختلافات حول نتائج الانتخابات الرئاسية، وكان يصار للجوء الى المحكمة الدستورية لتقول كلمة الفصل، ولتنتهي الامور بسلام، وكان ابرز تلك الخلافات والاختلافات ما حصل بين المرشح الجمهوري جورج بوش الابن والمرشح الديمقراطي ال غور في عام 2000، وقد تأخر حسم واعلان نتائج الانتخابات اكثر من شهر بسبب تقارب اعداد الاصوات التي حصل عليها كل من المرشحين، ناهيك عن بروز دلائل ومعطيات عن حصول عمليات تزوير واتلاف واخفاء لعدد من صناديق الاقتراع في بعض الولايات، بيد ان النزوع نحو العنف واستخدام القوة واثارة الفوضى لم يكن من بين الخيارات المطروحة بالنسبة لاي من المرشحين.
لاشك ان اقتحام مبنى الكونجرس في مقاطعة ( Cpitol Hall) بالعاصمة واشنطن، تحت مرأى ومسمع وتشجيع وتدبير الرئيس، لن يمر وكأنه حدثا عابرا، حاله حال الكثير من الاحداث التي تحصل هنا وهناك، بل لابد ان تكون له تداعيات انية ومستقبلية، ستلقي عاجلا ام اجلا بظلالها الثقيلة على الواقع الداخلي الاميركي وعلى موقع ومكانة وصورة الولايات المتحدة الاميركية في المشهد العالمي العام.
لعل من اهم وابرز ما اوضحته واثبتته عملية الاقتحام، هو ان مظاهر الارهاب والعنف ومايرتبط بهما من مظاهر وسلوكيات، تدعي واشنطن محاربتها في مختلف بقاع العالم، هي الواقع لها وجود حقيقي وكبير وخطير في الداخل الاميركي، وقد اصاب الساسة الذين اعتبروا ان من قاموا بعملية الاقتحام هم ارهابيين داخليين، ولم يكن ممكنا لاي كان ان يوجه اصابع الاتهام لاي جهة خارجية، في الوقت الذي كانت جماعة براود بويز (Proud boy) اليمنية المتطرفة الاداة الابرز لكل ما حدث من تخريب وتدمير وترهيب في محيط مبنى الكونجرس وفي مختلف قاعاته وغرفه واجنحته.
الحقيقة الاخرى، تمثلت في ان احداث اقتحام الكونجرس، وارتباطها بأصرار ترامب على عدم ترك السلطة رغم خسارته المؤكدة والواضحة في الانتخابات امام منافسه الديمقراطي جو بايدن، هزت الصورة التقليدية المرتسمة في اذهان عموم الناس، عن الانتقال والتداول السلمي للسلطة في الدول المتحضرة ذات الانظمة الديمقراطية الراسخة والقوية، الذي يختزله مشهد مغادرة الزعيم الخاسر مقر الرئاسة برفقة افراد عائلته ليستقل سيارة عادية الى مكان سكنه العائلي كأي فرد من افراد المجتمع، على خلاف ما يحصل في الدول ذات الانظمة الاستبدادية الديكتاتورية، التي لايمكن للحاكم ان يغادر منصبه الا بفعل الموت او عبر الانقلاب.
ولم يبالغ مع شبّه الولايات المتحدة الاميركية بجمهوريات الموز، في اشارة الى التخلف وغياب القانون وهيمنة لغة العنف على لغة العقل والمنطق، علما ان من استخدموا هذا التشبيه ساسة كبار من امثال الرئيس الاسبق جورج دبليو بوش، الذي قال “ان نتائج الانتخابات لا يتم الطعن فيها بهذا الشكل إلا في جمهوريات الموز، وليس في جمهوريتنا الديمقراطية”.
الحقيقة الاخرى، هي ان مجمل ما حصل، عزز بشكل او باخر ما يقال عن النزعات المجتمعية الخطيرة في الولايات المتحدة الاميركية التي اطلت برأسها بشكل صارخ اثر مقتل الرجل الاسود ذي الاصول الافريقية “جورج فلويد” على يد ضابط شرطة في الخامس والعشرين من شهر ايار-مايو من العام الماضي بمدينة مينيابولس بولاية مينيسوتا، وفي الواقع ان تلك النزعات المجتمعية الخطيرة، هي سببا اكثر مما هي نتيجة لمجمل التداعيات التي اسفرت عن مقتل فلويد، وللكثير من الانتهاكات والتجاوزات والاساءات للاقليات في المجتمع الاميركي من قبل الجماعات اليمنية المتطرفة، الذي رأى الكثير منها ان وجود ترامب في البيت الابيض يعد فرصة مثالية لها ينبغي استغلالها لتعزيز هيمنتها وحضورها ونفوذها.
وبعيدا عن الدلالات السياسية لاقتحام الكونجرس من قبل المتطرفين الفوضويين، المعبئين بأفكار عنصرية متشددة والمدفوعين بسياسات شعبوية متخلفة، فأن مجمل ما حصل اثبت هشاشة المنظومات الامنية الداخلية لاكبر واقوى دولة بالعالم، بالرغم من وجود عدة مؤسسات امنية واستخباراتية تتوفر على امكانيات فنية وبشرية ومادية كبيرة ومتطورة جدا، وحينما تفشل تلك المؤسسات والاجهزة الامنية في منع جماعات متطرفة من أقتحام وتخريب مقر السلطة التشريعية الاعلى في اميركا، وتهديد حياة اعضائها، فأنه من الطبيعي جدا ان تهتز ثقة المواطن، بل حتى السياسي، بأركان تلك المنظومات وحسن ادائها وقدرتها على التعاطي مع المستجدات بحنكة وقوة، لتساهم بالتالي في الحفاظ على امن المجتمع وسلامة النظام.
ملايين الناس في مشارق الارض ومغاربها، ممن شاهدوا ما يجري في واشنطن عبر شاشات التلفاز، كانوا كما لو انهم يشاهدون ما يحصل في عواصم بلدان متخلفة تسودها الفوضى والعنف والاضطراب وتغيب عنها كل مظاهر الامن والاستقرار والثقافة والتحضر، وهذه الملايين المندهشة، اغلب الظن انها شاهدت مثل تلك الصور والمظاهر سابقا في اكثر بلدان العالم تخلفا وتأزما واضطرابا، واليوم لايحتاج الاعلام المعادي للولايات المتحدة الاميركية ان يتحدث ويحلل ويفسر حقيقة ما جرى ويجري في الوقت الذي يقوم الاعلام الاميركي ومختلف مراكز التفكير والتحليل بهذه المهمة.
ويبقى ترامب، الذي استقتل ولم يترك سلاحا الا لجأ اليه واستخدمه من اجل البقاء في البيت الابيض لاربعة اعوام اخرى، الخاسر الاكبر، بدلا من ان يكون الرابح الاكبر، فأحداث اقتحام الكونجرس، ربما ستكون الصفحة الاخيرة في سجله السياسي، فمجرد التلويح والتهديد بعزله وفقا للتعديل الخامس والعشرين للدستور الاميركي، يعد ضربة قاصمة له حتى وان لم يتحقق، لانه يقطع الطريق عليه امام اي طموح او تفكير بأستعادة السلطة بعد اربعة اعوام اذا كتب له البقاء على قيد الحياة، ناهيك عن انه فقد ما تبقى له من مكانة وتأثير وحضور في الحزب الجمهوري، مضافا الى ذلك، الكثير من القضايا والدعاوى التي سوف تلاحقه بعد مغادرة البيت الابيض جراء حماقاته وجرائمه في اكثر من موقع ومكان.
خلاصة القول، ان ايام ترامب الاخيرة في البيت الابيض، وما حفلت وستحفل به من وقائع واحداث، هي في واقع الامر اختزالا واختصارا لمسيرة الاربعة اعوام الماضية- واختزالا واختصارا لواقع القوة الاعظم والاكبر في العالم، وهي لم تعد كذلك-التي ربما تكون من الحقب الاسوأ في تأريخ الولايات المتحدة الاميركية، وقد يتأكد ذلك حينما تتكشف المزيد من اسرارها وخفاياها بعد حين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى