أحدث الأخبارشؤون آسيوية

بريجنسكي وأوكرانيا في “رقعة الشطرنج الكبرى”

-محمد علي فقيه
-الميادين

يستحضر بريجنسكي في بداية كتابه مفهوم “قلب القارة” الذي يعتبره “نقطة الانطلاق الأساسية” للسيطرة على القارة. وينقل عن المحلل الجيوسياسي البريطاني هالفورد ماكيندر قوله: “من يحكم أوروبا الشرقية يسيطر على قلب المنطقة، ومن يحكمها يحكم جزيرة العالم (أوراسيا) ومن يحكم جزيرة العالم يهيمن على العالم” لتصبح أوروبا الوسطى وخاصة أوكرانيا -وفقاً لهذه المعادلة التي تعود إلى قرن من الزمان- منطقة محورية.

يدعو بريجنسكي في كتابه”رقعة الشطرنج الكبرى”،الولايات المتحدة إلى أن تحافظ سياستها الخارجية على البعد الجيوبوليتكي وضرورة أن تستخدم نفوذها في أوراسيا بطريقة تخلق توازناً قارياً مستقراً، تقوم على رأسه الولايات المتحدة كمرجع وحكم سياسي.

ويوضح أن الهدف النهائي للسياسة الأميركية يجب أن يكون رؤيوياً: وهو خلق مجتمع عالمي متعاون بشكل حقيقي، وذلك من خلال المحافظة على الإتجاهات البعيدة المدى والمصالح الجوهرية، ولكنه يشدد في الوقت ذاته، بأنه لا يجوز للولايات المتحدة أن تسمح لأي دولة أخرى بأن تصبح القوة المهيمنة فى أوروبا وآسيا.


يعود بريجنسكي بنا إلى التاريج الأوراسي ويذكر لنا تجربة أدولف هتلر، وجوزيف ستالين الذين كانا مرشحين للسيادة العالمية فقد اتفقا ضمناً بشكل واضح في محادثاتهما السرية في تشرين الثاني / نوفمبر 1940 على استبعاد أميركا من أوراسيا. وقد أدرك كل منهما أن إدخال القوة الأميركية إلى أوراسيا سوف يستبعد طموحاته المتصلة بالسيطرة العالمية. واشترك كل منهما أيضاً في الافتراض بأن أوراسيا هي مركز العالم وإن من يسيطر على أوراسيا هذا يسيطر على العالم.

ويضيف بريجنسكي: بعد نصف قرن، أعيد تحديد القضية عبر التساؤل التالي: هل تستمر سيادة أميركا على أوراسيا، وما هي الأهداف التي يمكن لهذه السيطرة أن تحققها؟. ويكشف أنه يريد تشجيع التحول الديمقراطي لروسيا واستعادتها لوضع اقتصادي معافى، لكنه يشترط ذلك بتجنب إعادة ظهور إمبراطورية أوراسية تستطيع أن تعيق الهدف الجيواستراتيجي الأميركي المتمثل في تشكيل نظام أوروبي أطلسي أكبـر يمكـن لروسيا أن ترتبط به على نحو مستقر ومأمون.

ويبيّن بريجنسكي كيف خلق انهيار الإمبراطورية الروسية فراغاً في القوة في قلب أوراسيا؟ فلم يكن ثمة ضعف وفوضى فقط في الدول المستقلة حديثاً،بل إن الإضطراب في روسيا ذاتها خلق أزمـة شاملة. فتضخم الفراغ الجيوبوليتكي بسبب ازدياد أبعاد الأزمة الإجتماعي في روسيا في الحكم الشيوعي الذي استمر ثلاثة أرباع القرن.

ويقول: كان الوضـع الجيوبوليتكي لروسيا قد تاثر سلباً أيضاً. ففي غرب البلاد وبنتيجة تفتت الاتحاد الـسوفياتي، تغيرت حدود روسيا على نحو مؤلم جداً، وتقلص مجال نفوذها الجيوبوليتكي عل نحو حاد. حيث كانت دول البلطيق تخضع للسيطرة الروسية منذ بداية القرن الثامن عشر، كما أن فقدان مرفأي ريغا وتالين جعل وصول روسيا إلى بحر البلطيق محدوداً بدرجة أكبر وخاضعاً للتجمد الشتوي. ناهيك عن أن انهيار حلف وارسو كان يعني أن دول أوروبا الوسطى التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي، ولا سيما بولونيا، أصبحت تنجذب بسرعة نحو حلف الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي.

أهمية أوكرانيا الإستراتجية

كان بريجنسكي قد صرح، عام 1994، وبعد 4 سنوات من انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي، بأن أوكرانيا هي نقطة انطلاق وبناء الإمبراطورية الروسية، ومن ثم يجب تكون محور اهتمام وتركيز الإستراتيجية الأميركية.


وقد عاود تأكيده هذا عن الأهمية الإستراتيجية التي تشكّلها أوكرانيا بشكل أوضح في كتابه “رقعة الشطرنج الكبرى”. فبين “أنها تحتل مكاناً جديداً وهاماً في رقعة الشطرنج الأوراسية، وبالتـالي فهي دولة محورية جيوبوليتيكية لأن وجودها ذاته كدولة مستقلة يساعد على تحويل أو تغييـر موقف روسيا. وهكذا، فإن روسيا، من دون أوكرانيا لا تشكل إمبراطورية أوراسية”.

ويعتقد بريجنسكي بأن روسيا، من دون أوكرانيا، تستطيع أن تتابع السعي إلى أن تكون ذات وضع أو هيبة إمبراطورية، ويحتمل جداً أن تجر إلى نزاعات موهنة مع الدول الآسيوية الوسطى الصاعدة التي سوف تغتاظ، عندئـذ، مـن فقدان استقلالها الحديث، وتدعم أيضاً من قبل دول إسلامية شقيقة في الجنوب. ويرى المؤلف أن الصين ربما سوف تعارض بدورها أي استعادة للسيطرة الروسية على آسيا الوسطى فـي ضـوء اهتمامه المتزايد بالدول المستقلة حديثاً في هذه المنطقة.

يعتبر بريجنسكي أنه إذا استعادت موسكو السيطرة على أوكرانيا، بملايينها الـ52 ومواردها الكبيرة، ووجودها على البحر الأسود، فإن روسيا تستعيد عندئذ، وبشكل أوتوماتيكي ثرواتها لتصبح دولة إمبراطورية قوية، ممتدة عبر أوروبا وآسيا. وكذلك، فإن فقدان أوكرانيا لاستقلالها سوف يترك تأثيرات نووية على أوروبا الوسطى، محولاً بولندا إلى دولة محورية جيواستراتيجية على الحدود الشرقية لأوروبا الموحدة.

يبيّن بريجنسكي أن فقدان أوكرانيا كان الأمر الأكثر إزعاجاً لروسيا. فظهور دولة أوكرانية مستقلة لم يكن تحدياً فقط لكل الروس بحيث يجعلهم يعيدون التفكير في طبيعة هويتهم السياسية والاتنية، ولكنه مثـل أيضاً انتكاسة جيوبوليتيكية للدولة الروسية. وإن رفض الاعتراف بأكثر من 300 عام من “التاريخ الإمبريالي الروسي” كان يعني خسارة اقتصاد زراعي وصناعي غني جداً و52 مليون إنسان ارتبطوا بعلاقة وثيقة بشكل كافٍ اتنياً ودينياً بالروس ليجعلوا من روسيا دولة إمبراطورية كبيرة وموثقة فعلاً. وهكذا، فإن استقلال أوكرانيا حرم روسيا أيضاً من وضعها المسيطر علـى البحر الأسود حيث كانت أوديسا باباً حيوياً لروسيا تتاجر من خلاله مع حوض البحر المتوسـط والعالم الذي يقع وراءه.

ويتابع بريجنسكي: كانت خسارة أوكرانيا بالغة الأهمية جيوبوليتيكياً، لأنها جعلت خيـارات روسـيا الجيواستراتيجية محدودة. وحتى من دون دول البلطيق وبولندا، فإن روسيا كانت ستظل تسعى، لو أبقت سيطرتها على أوكرانيا، إلى أن تكون قائدة لإمبراطورية أوراسية حاسمة، تستطيع روسيا فيها أن تحكم غير السلافيين في جنوب وجنوب شرق الاتحاد السوفياتي السابق. ولكن، من دون أوكرانيا وسكانها السلافيين البالغ عددهم 52 مليوناً، فإن أي محاولة من قبل موسكو لإعادة بناء الإمبراطورية الأوراسية يحتمل أن تجعل روسيا متورطة وحدها في نزاعات طويلة الأمد مع غير السلافيين الذين أُوقظت فيهم النزعات القومية والدينية. والحرب مع الشيشان ربما كانت أول الأمثلة على ذلك.

ويضيف: إذا أخذنا في الإعتبار تراجـع معدلات الولادة في روسيا، ومعدلات الولادة المتزايدة بشكل حاد بين سكان آسيا الوسطى، نجد أن أي كيان أوراسي جديد يعتمد على القوة أو الدولة الروسية وحدها، ومن دون أوكرانيا، سوف يصبح حتماً ذا طابع أوروبي أقل وذا طابع آسيوي اكثر مع كل سنة تمر.

وكان بريجنسكي قد أكد عام 2009 بأن بوتين ومن يحيط به بدأ يظهر لديهم الحنين إلى الماضي ويحلمون بتشكيل اتحاد سوفياتي جديد مع بعض الدول.

وقد اعتبر الكرملين والدبلوماسيون وكبار الضباط الروس، أن دعوة بريجنسكي في كتابه”رقعة الشطرنج الكبرى”، لمنع روسيا من تحقيق مشروعها الأوراسي، دليلاً على أن الولايات المتحدة تريد عزل روسيا من خلال دمج أوكرانيا في كيان أوروبي وأطلسي. فقد دعا بريجنسكي إلى توسيع الناتو ليشمل أوكرانيا، التي تشكل حجر الزاوية في “رقعة الشطرنج الكبرى”. ويضيف: “عدم القدرة على توسيع الناتو رغم الجهود الأميركية يمكن أن يثير أكثر الرغبات الروسية طموحاً”.


وحول قدرة الصين وروسيا،يؤكد بريجنسكي أن روسيا والصين هما قوتان تغتاظان من الهيمنة الأميركية. ففي بدايـة العام 1996،عبرت هاتان الدولتان عن ذلك في أثناء الزيارة التي قام بها رئيس روسيا بوريس يلتسن إلى بكين. وعلاوة على ذلك، فإنهما تمتلكان ترسانات نوويـة يمكنهـا أن تهدد المصالح الأميركية الحيوية.

ويقول: وبالرغم من أنهما تستطيعان شن حرب نووية انتحارية، فإن أياً منهما لا تستطيع تحقيق النصر في هذه الحرب. وبما أنهما تفتقران إلى القدرة على نقل القوات إلى مسافات طويلة بغية فرض إرادتهما السياسية، ونظراً إلى كونهما متخلفتين تكنولوجياً عن أميركا، فإنهما لا تملكان الوسائل اللازمة لممارسة نفوذ سياسي مدعوم ودائم في أنحاء العالم كله، ولن تملكا قريباً مثل هذه الوسائل.

يتوقف بريجنسكي مطولاً عند الإمبراطورية الرومانية ويرى أن هناك أسباب ثلاثة رئيسة أدت إلى انهيارها. فالأول هو أن الإمبراطورية أصبحت كبيرة جداً ولم يعد ممكناً أن تحكم من مركز واحد، والثاني هو أن الفترة الطويلة الأمد للإحساس بالغطرسة والاعتزاز خلقت نوعاً من ثقافة عبادة الذات امتص بالتدريج إرادة السمو لذى الزعامة السياسية. والثالث هو أن التضخم الدائم عمل بدوره على نسف قدرة النظام على المحافظة على نفسه من دون تضحيات اجتماعية، الأمر الذي لم يعـد المواطنـون مستعدين للقيام به. وهكذا تاَمر كل من التفتت الثقافي، والانقسام السياسي والتضخم المالي، على جعل روما غير منيعة وقابلة للاختراق من قبل “البرابرة” الذين عاشوا على حدودها الخارجية.

يخلص بريجنسكي بعد ذلك إلى أن أميركا تحتل مرتبة عليا في المجالات الحاسمة الأربعة للقوة العالميـة: الأول وهو المجال العسكري الذي تملك فيه قدرة وصول عالمية لا مثيل لها، فهي لا تسيطر على بحار ومحيطات العالم، والثاني المجـال الاقتـصادي،والثالث المجال التكنولوجي حيث تحافظ فيه على المجالات الحادة والحساسة في الابتكار، والرابع المجال الثقافي الذي تتمتع فيه، بالرغم من بعض السلبيات، بإغراء لا يمكن منافسته، وخاصة بين شبان العالم. وهكذا، فإن الجمع بين هذه المجالات الأربعة هو الذي يجعل من أميركا تلك القوة العظمى العالمية الوحيدة حصراً.

كانت اَخر تغريدة لبريجنسكي فى 4 أيار/مايو 2017 قبيل وفاته كتب فيها أن القيادة الأميركية الرشيدة هي شرط لاغنى عنه لاستقرار النظام الدولي، وأميركا اليوم باعتراف هنري كيسنجر وفرنسيس فوكاياما تفتقد هذه القيادة الرشيدة والعالم يزداد فوضى. وإلا ما معنى انسحاب أميركا العسكري من العراق وأفغانستان وفشلها المتكرر ببسط سيطرتها على الشرق الأوسط؟.


ولعل العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا محاولة استباقية لمنع أوكرانيا من الإنضمام إلى حلف الناتو وخروجها من دائرة تأثير موسكو، وبالتالي حرمان روسيا من المجال الأوراسي. لذلك نرى أن الدعم الأميركي والغربي لأوكرانيا هدفه ليس الدفاع عنها بقدر ما هي محاولة لإضعاف لالتحاد الروسي وتفكيكه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى