أحدث الأخبارالعراقمحور المقاومة

بنية الدولة الديمقراطية في العراق

مجلة تحليلات العصر الدولية - نوري المالكي / مجلةالكلمةالحرة

إبتداءً؛ نوضح موقفنا من نظرية الدولة ومن النظام الديمقراطي ومجمل الإستفهامات ذات الصلة بالعملية الديمقراطية وإعادة بناء الدولة العراقية بعد العام 2003؛ بهدف توضيح قواعد تفكيرنا، بصفتنا إسلاميين نعمل في إطار منظومة عقدية فقهية سياسية إسلامية، عنوانها “حزب الدعوة الإسلامية”، وهو حزب ينتمي الى مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، التي تتميز بعدم تساهلها عقدياً وفقهياً في موضوعة الحكم وممارسة السلطة. ولاتزال تجربتنا في المشاركة في قيادة دولة مركّبة متصالحة مع الدين، وإدارة نظام ديمقراطي بمشاركة إسلاميين وعلمانيين، وعضوية برلمان يجمع ايديولوجيات متنوعة، وفي ظل دستور تعددي؛ بحاجة الى مزيد التأصيل الفكري والفقهي.

وبالتالي؛ لابدّ من الإجتهاد في تكييف نظرية الدولة كما تؤسس لها الشريعة الإسلامية، بما ينسجم والواقع التعددي العراقي. ويبقى أن التسميات التي تطلق على نظام الحكم الحديث الذي نعمل على تكييفه؛ هي تسميات نظرية، سواء أسميناه النظام الديمقراطي أو المدني أو الإنساني أو العادل؛ لأن ما يعنينا هو مضمون هذه النظام و روحه، وعدم تعارضه مع أصول الشريعة، وطبيعة إدارتنا له، وسلوكياتنا وأخلاقياتنا في إطاره.

ونظرتنا الى النظرية الديمقراطية هي نظرية واقعية؛ فنحن نفرق بين آليات تطبيق الديمقراطية والليبرالية، وبين كونهما فلسفتين اجتماعيتين أفرزتهما بيئة الصراع في أوربا بين دعاة علمنة الدولة والحكم والسياسة والتشريع والمجتمع من جهة، والكنيسة والنظم الثيوقراطية والمطلقة في الغرب من جهة أخرى. مايعني؛ أننا نقبل بآليات تطبيق الديمقراطية، ولاسيما في موضوع الانتخابات، والاحتكام الى رأي الشعب، والحريات العامة والسياسية، والفصل بين السلطات وغيرها من الميكانيزمات والتقنيات التي تمثل مشتركاً عاماً وليس ايديولوجيا أو عقيدة إجتماعية. أما القواعد الفلسفية للديمقراطية فنحن نتوقف عندها، ونخضعها الى ماتقرره الشريعة الإسلامية.

وضرورات بناء نظام ديمقراطي في العراق يعود الى طبيعة المسار التاريخي للعراق وتكوينه الديمغرافي؛ فالعراق يتكون قومياً من عرب وكرد وفيليين وتركمان وكلدان وآشوريين وشبك، كما يتكون دينياً من مسلمين ومسيحيين وصابئة وايزديين، ومذهبياً من سنة وشيعة، وايديولوجياً من إسلاميين وعلمانيين ومابينهما من تيارات فكرية سياسية. هذا التعدد القومي والديني والمذهبي والايديولوجي لايمكن أن يستوعبه نظام سياسي سوى النظام المدني الديمقراطي. كما أن طبيعة المسار التاريخي للعراق، ولاسيما حالة التهميش والاضطهاد المتوارثة التي عاشتها مكونات أساسية؛ يجعل خيار الديمقراطية أقرب الحلول الواقعية لهذه الحالة، خاصة خلال المرحلة الأولى من تأسيس العراق الجديد، الذي أسدل الستار على العراق القديم الذي ظلت تحكمه سلطات طائفية وعنصرية طوال مئات السنين.

* مسارات بناء دولة ديمقراطية في العراق:

بدأت عملية بناء العراق الجديد بمرحلة انتخاب الجمعية العمومية في العام 2004، والتي أفضت الى كتابة الدستور العراقي الدائم ثم الاستفتاء عليه شعبياً. وقد أكد الدستور على أن نظام الحكم في العراق هو نظام ديمقراطي، شرط أن لاتتعارض قوانين الدولة العراقية وسلطاتها مع أحكام الشريعة الإسلامية. وظلت الانتخابات الدورية المحلية والاقليمية والبرلمانية تقام بانتظام وانسيابية، وفق تواريخها المحددة وقواعد العملية الديمقراطية، وهي تفرز نواب الشعب وحكوماته المحلية والاقليمية والمركزية، منذ العام 2005 وحتى الآن.

وتتمثل أهداف البناء الديمقراطي للعراق الجديد، في إقامة دولته الحديثة الإنسانية العادلة التي تنسجم مع مقاصد الإسلام وشريعته، وتقضي على العقيدة الطائفية العنصرية للسلطة البائدة، وتسدل الستار على مئات السنين من سياسات الظلم والتهميش والقتل والتهجير التي ظلت الدولة تمارسها ضد الشعب العراقي، وإنقاذ العراق والمنطقة من مشروع الإحتلال الذي يستهدف سيادة العراق وثقافة شعبه وهويته، ورسم المسارات الدستورية والقانونية للدولة ونظمها السياسية والثقافية والعسكرية والاقتصادية، بما لايتعارض وأحكام الشريعة الإسلامية، والحؤول بين هذه المسارات والنظم وبين مشروع الإحتلال وعملائه، أو احتمالات عودة الطائفيين والمجرمين، من بعثيين وغيرهم، ودون هيمنة المفارِقين لهوية العراق الإسلامية على الدولة. وقد ساهم حزبنا مساهمة أساسية في اجتثاث الطائفية والعنصرية من كثير من مرافق الدولة، والعمل على أسلمتها، ومحاربة الإرهاب السياسي والاعلامي والمسلح، ومواجهة المشروع الطائفي الإقليمي الذي كان يستهدف أمن العراقيين ووحدة أراضي العراق وتقسيمه.

ويستطيع الشعب العراقي من خلال بناء دولة تستند الى النظام الديمقراطي الحقيقي؛ أن يقضي على كل إرث الحكم الشمولي والوراثي والدكتاتوري، والتمييز الطائفي والعنصري والمناطقي الذي ظل قائماً قرون طويلة قبل العام 2003، وكل أشكال المحاصصة والتوازن المعيق الذي تأصل بعد العام 2003، ويحقق لنفسه الدور الحقيقي في اختيار قادة دولته ونوابه وحكوماته، كما يستطيع تطبيق منظومة الحقوق والحريات المتوازنة، وتوزيع ثرواته بشكل عادل بين مكوناته وأفراده.

ولكن؛ لاتزال عملية بناء نظام ديمقراطي حقيقي؛ تراوح بين الواقع الضاغط والطموح التنظيري؛ إذ تواجهنا عقبات أساسية على هذا الصعيد، بعضها مصدره داخلي والآخر خارجي، وأهمها: المحاصصة الطائفية والقومية والسياسية في توزيع المسؤوليات في الدولة والحكومة، والتوافقات التوازنية والصفقات السياسية على حساب القانون والاستحقاقات، وخلل العلاقة بين مكونات الشعب العراقي، لاسيما بين العرب والكرد، وبين السنة والشيعة، ووجود الإرهاب والجماعات الإرهابية، فضلا عن التحديات الخارجية المتمثلة في تدخلات بعض دول الجوار والدول الكبرى، بهدف تخريب العملية الديمقراطية وتأجيج الصراعات بين مكونات الشعب العراقي، ومنع الشعب العراقي من تحقيق خياراته السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية.

وأرى أن تحويل هذا الطموح أو جزء منه الى حقيقة؛ تحدده قدرتنا كإسلاميين وطنيين على مراجعة أفكارنا ومواقفنا، وتجديد بنانا الفكرية والتنظيمية، والتثبت من تحالفاتنا الداخلية والخارجية، والقراءة المتجددة للواقع العراقي والإقليمي والدولي، وصياغة رؤيتنا لحركة الدولة واستراتيجياتها، وعمل الحكومة ووزاراتها ومؤسساتها، وتقويم قابليات أفرادنا في مواقع المسؤولية وسلوكياتهم تقويماً موضوعياً دقيقاً؛ لأن الإسلاميين يتحملون العبء الأكبر في عملية إعادة بناء الدولة ونظامها الديمقراطي، بناءً حقيقياً، كما يتحملون كثيراً من مسارب الإخفاق والتراجع؛ لأنهم يشكلون الثقل السياسي الأكبر في الدولة، والكتلة الأكثر تأثيراً في العملية السياسية والأقرب الى الرأي العام الشعبي وآماله وتطلعاته. ولاشك؛ إن القدرة الذاتية المتوالدة على التجدد وإعادة البناء؛ تبقى متوافرة لدينا كإسلاميين؛ لطالما وُجدت إرادة الفعل، هذه الإرادة التي حمتنا دائما من مخاطر السكون والتراجع، طيلة عشرات السنين من عملنا وجهادنا.

ومن جانب أخر؛ بقي “الدعاة” يتحملون العبء الأكبر في إدارة الدولة العراقية الجديدة، وخاصة خلال فترة وجودهم في موقع رئاسة الحكومة والقيادة العامة للقوات المسلحة، منذ العام 2005 وحتى العام 2018. وحتى بعد خروج الحزب من رئاسة الحكومة، ظل “الدعاة”، كل من موقعه، يمارسون واجبهم الإسلامي الوطني، سواء في الجانب التنفيذي والخدمي أو الجانب التشريعي والرقابي، وهو واجب لاينفك عن وظيفة “الداعية” الأساسية.

* مشاركتنا في حكم دولة تعددية:

إن عملنا في إطار دولة ودستور وحكومة تعددية، تجمع بين ضوابط الشريعة الإسلامية ومشاركة الإسلاميين من جهة، والأفكار العلمانية ومشاركة العلمانيين من جهة أخرى؛ يمثل إشكالية نظرية وواقعية كبيرة. وقد تطرق فكر “الدعوة” الى هذه الاشكالية وقاربها منذ العام 1960، كما أصدر الحزب وبعض قيادييه وأعضائه مقالات ودراسات بعد العام 2003، بحثوا فيها هذه الاشكالية وعالجوها من وجهة نظر “الدعوة” وفكرها والقواعد الشرعية الإسلامية، ومنها دراستنا المعنونة: (( تجربة مشاركة حزب الدعوة الإسلامية في حكم العراق))، والتي أعدنا نشرها في كتاب “رؤى في الحركة الإسلامية والعلاقة بالدولة”، وفيها أكدنا على أن قبولنا بالواقع الذي يفرضه القانون الدولي وقواعد القانون الدستوري؛ لايعني التخلي عن ثوابتنا وأهدافنا الإسلامية في توجيه نظام الحكم باتجاه الحكم الإنساني العصري العادل، الذي ينسجم مع غايات الإسلام وأحكام شريعته، ومع نظرية “الدعوة الإسلامية” في موضوع الدولة، وهذا التوجيه يتطابق مع هوية العراق الوطنية الأصيلة، وهي هوية إسلامية، وفقاً لإرثه الحضاري وأكثريته السكانية.

وقد استندنا في تحديد التكليف الشرعي للدعوة والدعاة، في ممارسة العمل السياسي والمشاركة في إدارة الدولة العراقية بعد العام 2003، الى ثلاث قواعد شرعية:

الأولى: الرجوع الى الفقهاء وإستئذانهم؛ إذ استند حزب الدعوة الإسلامية في دخوله العملية السياسية الى إقرار مراجع الأمة وفقهاء الشريعة وفتاواهم واذوناتهم؛ بل كانت توجيهات بعض الفقهاء العظام توجب المشاركة في إدارة الدولة ومؤسساتها.

الثانية: دفع الضرر عن العراق وشعبه وحفظ مصالحهما، وفق ما حددته قواعد الشريعة الإسلامية ومقاصدها وأولوياتها؛ إذ لم يدخل حزب الدعوة الإسلامية معترك العملية السياسية، عملاً بالرأي أو بقرار سياسي؛ بل بناء على دراسة الواقع العراقي في ظل الإحتلال، وعرض هذا الواقع على العناوين الشرعية الأولية والثانوية، ثم حدّد تكليفه في ضوء غايات الشريعة وقواعدها الفقهية، والتي أكدت ضرورة دفع مفاسد النظام السابق ومشروع الإحتلال، وجلب المصالح للعراق وشعبه، وإن ترافق ذلك مع بعض الشبهات الشرعية التي ترتفع بالتزاحم مع حجم المصلحة العامة.

الثالثة: مفهوم “الدعوة” للعمل السياسي؛ إذ حدّدت نظرية “الدعوة” طبيعة الغايات الشرعية للعمل السياسي للدعاة، ومهام مرحلة السلطة والمشاركة فيها، وأكّدت أن السلطة ليست هدف “الدعوة”؛ إنما هي أداة “الدعوة” لنشر أهداف الإسلام الإنسانية العادلة، وتحكيم الشريعة السمحاء، وخدمة الأمة وتأمين العيش الكريم لها، وحماية أمنها الاجتماعي والثقافي والسياسي والإقتصادي، وهي أهداف يمكن العمل على تحقيقها في ظل الدولة التعددية أيضاً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى