أحدث الأخبارالإسلامية

تأملات في السجال حول الدين والسياسة

🖋️ د. سعيد الشهابي

▪️برغم تغوّل العلمانية في المجتمع المعاصر خصوصا في “العالم الحر” فان الحديث عن الدين ودوره في الحياة العامة لا ينقطع، فحتى لو خفت قليلا فسرعان ما يظهر بوضوح في السجالات السياسية والفكرية. ويخطئ من يطالب بإبعاد الدين عن السياسة او الاعتقاد بأن هيمنة ثقافة “ما بعد الحداثة” قد حسمت الموقف لغير صالح الدين، أو أنها ألغت وجوده في الحياة العامة.
إذا كانت “الحداثة” في الثقافة الغربية قد أدت للفصل الكامل بين السياسة والدين فإن القوة الكامنة في الدين وفرت له القدرة على الحضور بقوة في حياة البشر. هذا الحضور يحاصر باستمرار الساسة الكبار، بل أن شبحه يطاردهم حتى في أشد البلدان علمنة. أليس هذا ما يجري الآن على الساحة الفرنسية التي تستعد لخوض الانتخابات الرئاسية هذا الاسبوع؟



▪️هل استطاع المتنافسان الرئيسيان، الرئيس إيمانويل ماكرون ومارين لوبان (ابنة الزعيم اليميني المتطرف جان ماري لوبان) أن يتجاوزا الحديث عن الدين؟ إنه ليس حديثا فحسب، بل فرض نفسه على سياسات رؤساء فرنسا المتعاقبين، حتى قررت حكومة ماكرون اتخاذ خطوة استنكرها رواد الحرية بغلق ما يقرب من مائة مسجد. فلو لم يكن الدين حاضرا لما اتخذت هذه القرارات التي تنتهك روح المبادئ التي قامت عليها الجمهورية الفرنسية نفسها، وهي التي تأسست في إثر الثورة الفرنسية التي تعتبر مرحلة التأسيس لمنظومة حقوق الانسان. وليس هناك ناشط حقوقي ذو مصداقية يقر غلق المساجد، لأن ذلك يعتبر اعتداء على حرية الدين والضمير. كما أن منع الحجاب اعتداء صارخ على الحرية الشخصية. إن الحرية واحدة لا تتجزأ، فإذا حدث لها ذلك التجزيء فقدت وجودها الحقيقي. أما المنافسة الرئيسية للرئيس الفرنسي، مارين لوبان، فقد ورثت عن والدها العديد من أفكاره اليمينية المتطرفة وسياساته التي تبالغ في انتهاك الحريات العامة ومنها الحرية الشخصية وحرية المعتقد. فها هي تضع من بين سياساتها استهداف الحجاب، وإصدار قوانين تمنع النساء من ارتدائه. إذا حدث ذلك فما الذي بقي من مبادئ الثورة الفرنسية؟ ثم ألا يعني ذلك أن الظاهرة الدينية تطارد السياسيين الذين طاردوها سابقا حتى أصبحت تحاصرهم في أفكارهم وسياساتهم ومواقفهم؟

▪️في الأسبوع الماضي أثيرت في بريطانيا قضية الدين ودوره في الحياة العامة. فقد صرح أسقف كانتربري ضد قرار حكومة المحافظين إرسال اللاجئين الى رواندا في خطوة مثيرة للجدل كشفت حالة تصدع عميقة في المنظومة الفكرية والسياسية لدى النخب البريطانية. فقد اعتبر الأسقف تلك السياسة بأنها  “غير أخلاقية” وأنها “لا تنسجم مع الرحمة الإلهية” الأمر الذي أثار حفيظة الحزب الحاكم ممثلا برئيس الوزراء وأعضاء حكومته. فالقس جاستن ويلبي قال إن مبدأ ارسال طالبي اللجوء الى رواندا “سيواجه حكم الله ولن يصمد”. وأوضح كلامه قائلا: “إن تفويض مسؤولياتنا للآخرين مناقض لما يفعل الله الذي تحمل مسؤولية فشلنا (في إنقاذ المسيح عندما كان) على الصليب”. وتكررت الانتقادات لتصريحات الأسقف وبقية القسسة ومنهم عضو البرلمان، توم هانت الذي قال: “إن على قادة الكنيسة أن يعوا تدخلهم السافر في قضايا سياسية معقدة”. وجاءت ردود عديدة لتفنيد ذلك، ومنها الإشارة الى أن مجلس اللوردات يضم العديد من القسسة بشكل دائم لكي يمارسوا دورهم في السياسة، وأن الحكومة لم تعترض عليها عندما شجب أسقف كانتربري الحرب الروسية في أوكرانيا، واصفا الرئيس بوتين بـ “الشيطان”. وما تزال السجالات متواصلة حول دور رجال الكنيسة في الفضاء العام ومنها عالم السياسة. وفي العام 2019 اعترض لين ماكلاسكي، رئيس كبرى النقابات البريطانية (يونايت) على انتقاد كبير الحاخامات لزعيم حزب العمال آنذاك، جيريمي كوربين بدعوى عداء السامية قائلا: “إنه خطأ كبير وخروج عن المعتاد”.



▪️وأشار البعض الى رئيس الوزراء الأسبق، توني بلير، و”عودته” الى الدين بعد تركه رئاسة الوزراء وتأكيده بأنه “اكتشف الدين فاعلا في الفضاء الاجتماعي”. كما أن رئيسة الوزراء السابقة، تيريزا ماي، كانت ابنة قس. كما طُرح دور مارغريت ثاتشر في السجال حول دور الدين في الحياة العامة.

▪️فقد كان خلافها مع الكنيسة ثيوقراطيا. وفي خطاب لها بمقاطعة اسكوتلاندا أشارت إلى ضرورة البعد الأخلاقي في المشروع الديمقراطي قائلة: “إن الأمل في الديمقراطية سيكون ضئيلا إذا لم يلامس قلوب الرجال والنساء في المجتمعات الديمقراطية دعوة لتجاوز أنفسهم”. هذه الإيحاءات من رجال السياسة لا تعني بالضرورة حضور الدين عمليا في حياتهم. فأغلب السياسات التي تبناها هؤلاء الزعماء لا تنسجم مع المشروع الإلهي الهادف لتحقيق العدل ونشر الحب والرحمة بين الناس. فما أكثر ضحايا السياسات التي تبناها هؤلاء الزعماء، خصوصا رغبتهم التي لا حدود لها في الهيمنة على الآخرين، وشن الحروب على الشعوب الآمنة، والتشبث بسياسات تقر الاحتلال والاستيطان وتدعم الاستبداد. وفي الاسبوع الماضي نشرت صحيفة “التايمز” مقالا بعنوان: نحتاج لمزيد من الدين في السياسة وليس أقل، للكاتب ديفيد أرونوفيتش تطرق فيها للسجالات حول الدين والسياسة.

▪️ماذا تعني هذه السجالات في الأوساط التي يفترض أنها قد أقصت الدين تماما عن الساحة السياسية؟ ثمة حقائق تفرض نفسها في هذا السجال: أولها أن الله حاضر في الحياة، لا يمكن تغييبه او تجاهل وجوده حتى من قبل الحاكم الذي يظن أن بيديه مفاتيح الأمور وأن في متناوله أموال قارون، أو أنه قادر على منع إيمان البشر بهدم بيوت العبادة، أو سجن من يعلن إيمانه بالله. ثانيها: أن أحدا لا يستطيع إبعاد الدين من الحياة العامة. فحتى في عهد الاتحاد السوفياتي تشبث أصحاب الأديان بمعتقداتهم، وما إن تفكك ذلك الاتحاد حتى أعيد فتح الكنائس والمساجد وأماكن العبادة الأخرى. ويصعب الاعتقاد بوجود سجن في العالم يخلو من مصلين وعبّاد منقطعين الى الله، كل حسب اعتقاده. وكما جاء في الكلام المأثور: الطرق الى الله بعدد أنفاس العباد. ثالثها: أن للدين سلطة أخلاقية وسياسية يستطيع من يمارسها بشكل فاعل ان يوفر لها حضورا في حياة البشر السياسية والثقافية والاجتماعية. فهل هناك مجتمع يخلو من دور عبادة لدين ما؟ هل يستطيع حاكم أن يتجاوز هذا الحضور الديني، أيا كان شكله وأنماط سلوكه. هذا الحضور تعبير مجازي عن القوة الكامنة في العقيدة حتى لو كانت ضعيفة او منحرفة عن المنطق السوي. رابعا: أن الدين حقيقة صاحبت الوجود البشري من عهد آدم، فكان الله يُعبد في كل بقعة بطرق أهلها. وحتى من لم تبلغهم رسالات السماء تشبثوا بفكرة وجود خالق للكون، وأنه حاضر معهم، ولو لم يكن ذلك لما كان للصلاة (بتعدد أشكالها) معنى. خامسا: أن السجالات حول الدين والإلحاد ليست جديدة، بل هي الأخرى لازمت الوجود البشري منذ القدم، وبقي “المؤمنون” و”الملحدون” في مناكفة دائمة.

▪️وتأرجحت كفة كل منهما صعودا وهبوطا حتى الوقت الحاضر. وجاءت الأديان المختلفة، السماوية والبشرية، لتنظيم الظاهرة الإيمانية وترشيدها، ولكن الاديان ليست هي التي صنعت الظاهرة. فالإيمان فطري وليس بفعل عوامل خارجية. ولم تمر حقبة زمنية بدون أن تشهد أماكن العبادة حضورا بشريا يتفاوت قوة وضعفا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى