أحدث الأخبار

تركيا أردوجان : إستراتيجية توظيف الجغرافية..؟!

✍️ د/ احمدالقشائي

أعتمدت الدولة التركية منذ صعود الرئيس أردوجان سياسة برجماتية مثيرة غير مسبوقة ولا معهودة سابقا حتى من قبل أكثر الزعامات العالمية التي عرفت ببرجماتيتها، إذ تعد برجماتية أردوجان برجماتية متطورة عكست نفسها في تراجيدية إدارته للسياسة التركية داخليا وخارجيا.
فالرجل الذي بدأ حياته تلميذا مطيعا للسيد ( نجم الدين أربكان) الذي قدم أردوجان ليكون جزءا من الطبقة السياسية التركية الفاعلة، لكن أردوجان لم ينتظر طويلا حتى دفعه طموحه السياسي إلى تجاوز معلمه (أربكان) الذي تميز بشخصية سياسية تقليدية وبفكر إسلامي ورؤى لا تلبي حاجة وطموحات  كوادر التيار الإسلامي التركي وخاصة الكوادر الشابة التي تجاوزت بتفكيرها التفكير النمطي الذي مثلته قيادة (أربكان) فذهب ( أردوجان) وتحالف مع خصم معلمه التقليدي ومنافسه وهو السيد( فتح الله جولن) ، ليشكل معه أردوجان تحالف ثنائي معلنا إنشقاقه عن  معلمه (أربكان) وهو تحالف تكتيكي لم يدوم طويلا، إذ وبعد أن تمكن أردوجان من إحكام سيطرته على مفاصل الحزب الإسلامي الأكثر حضورا ونفوذا في تركيا حتى عمل على تغيير كل أدبيات الحزب وقيادته مستعينا بترويكا من الشباب والمثقفين والنخب الفكرية ليحدث ثورة داخل الحزب مغيرا كل شيء فيه حتى اسم الحزب ويجبر حليفه الجديد ( جولن) على مغادرة تركيا هاربا إلى الولايات المتحدة الأمريكية..!
ومن رياسة الوزراء قفز أردوجان إلى رئاسة الجمهورية مكلفا رفيق رحلته عبد الله غول لرئاسة الحكومة ويعرف غول بصاحب( كتاب تركيا ودول الجوار  صفر مشاكل)؟!
بعد أن عدل الدستور وحول النظام في تركيا من نظام برلماني إلى نظام رئاسي..!


داخليا سعي لإحداث تحولات اقتصادية وصناعية فاتحا المجال أمام الاستثمارات الخارجية واتخذ من سورية بوابة مرور لبقية الدول العربية واسواقها عبر توقيع سلسلة اتفاقيات اقتصادية وتجارية استراتيجية تجاوزت الخمسين اتفاقية وفي مختلف المجالات..!
ارتبط بعلاقات خارجية قائمة على أساس تحقيق أفضل المصالح لتركيا جاعلا من موقع تركيا الجغرافي أحد أهم الأسلحة التي وظفها واستغل موقع بلاده كورقة رابحة في سياق التنافسات  الجيوسياسية والجيوبلوتيكية معززا علاقته بأمريكا والناتو والغرب دون تردد في المساومة على علاقته مع المحيط المجاور وخاصة الجوار العربي،
الذي قدم فيه أردوجان نفسه كمنقذ للإنسان العربي وقضاياه الوجودية والحضارية  وخاصة قضية فلسطين متخذا من منصة( مؤتمر دافوس الدولي) منبرا للتعبير عن رغبته حين انسحب غاضبا من أمام الرئيس ( الصهيوني) بعد مشادة كلامية افتعلها معه ولم يتردد الرجل في توظيف تلك الواقعة كجواز مرور لقلوب ملايين العرب المخذولين من أنظمتهم الرسمية لكنهم كانوا بالمقابل كمن يستجير من الرضاء بالنار..؟!
سجل هذا الموقف العلني ضد رئيس الكيان الصهيوني دون أن يقطع علاقة بلاده الاقتصادية والتجارية والصناعية مع الكيان ولم يلغي التعاون العسكري والاستخباري معه وهو التعاون الذي مكنه من إحضار احد ابرز المعارضين لتركيا وهو القائد التركي والمناضل الثائر عبد الله أوجلان مخطوفا ومخدرا من إحدى دول إفريقيا ليزج به في السجن الذي خصص له في إحدى الجزر التركية، وقد مارس نظام أردوجان ولا يزل أسواء الممارسات بحق معارضيه من الأكراد أو من بقية أبناء الشعب التركي من معارضيه وتركيا هي الدولة الوحيدة في هذا العالم الذي يوجد في سجونها أكثر من 200صحفي معتقل وعشرات الآلاف من الخصوم السياسيين وخاصة بعد مسرحية الانقلاب التي اتخذها أردوجان كذريعة لتصفية خصومه بزعم انهم يتبعون خصمه الراحل فتح الله جولن.

خلال اندلاع ما يسمى ب (الربيع العربي) هرول أردوجان ليضع نفسه وصيا على الوطن العربي حالما بعودة أمجاد أجداده العثمانيين متخذا من فشل بعض الانظمة  العربية بحكم تبعيتها وإرتهانها ذريعة لتدخل تركي سافر قام به أردوجان في كل الأقطار التي استهدفتها المؤامرة وخاصة سوريا وليبيا الذي كان التدخل التركي بهما بصورة سافرة لا تخلوا من الوقاحة..؟!


وبخاصة سورية التي تنكر أردوجان لكل مواقفها معه وتنصل من كل الاتفاقيات التي أبرمتها معها وتوهم إنه بتدخله في سورية وإسقاط نظامها سوف يحقق طموحه ويعيد أمجاد اسلافه العثمانيين..!
وقد أتخذ أردوجان من الجماعات الإسلامية بشقيها السياسي والريديكالي الجهادي بمثابة بساط الريح الذي سيحمله إلى أفاق الفضاء العربي لتغطية الفراغ الاستراتيجي الذي تعيشه الأمة العربية، وقد ذهب أردوجان في دغدغة احلام وتطلعات البسطاء من جماهير الأمة في ذات الوقت الذي ذهب فيه يحرض ويتأمر على الأنظمة العربية التي وان كانت فاشلة ومرتهنة وخائبة غير أن كل هذا لا يعطي الوالي العثماني الجديد حق التدخل بالطريقة المفضوحة والوقحة التي حدثت.

وكانت ثمة أسباب سياسية واقتصادية واستراتيجية تقف وراء مواقف أردوجان الذي استغل كل قدرات ومقومات بلاده وموقعها الجغرافي ووظف كل هذه المقومات لتحقيق طموحه على حساب الوجود والقدرات العربية بصورة خاصة، وقد تمكن الرجل فعلا من تحقيق مكاسب كبيرة لبلاده حين ساهم وبفعالية في ضرب مقومات الاستقرار في محيطه العربي بدءا من العراق مرورا بسورية ولبنان ومصر وتونس وصولا للصومال واليمن وليبيا، لكن تبقى سورية احد اهم النطاقات العربية التي أوغل التركي في تدميرها لتحقيق أهداف جيوسياسية واستراتيجية وتجارية واقتصادية باعتبار سورية كانت تشكل أبرز التحديات أمام طموحات أردوجان الذي وضع كل ثقله في تدمير سورية وإسقاط نظامها عبر العصابات المسلحة والتدخلات الأمريكية _الصهيونية، فقد عمل أردوجان على استغلال ما يوصف ب(الثورة السورية) على تفكيك وتدمير قرابة 17000 الف مصنع ومعمل من مدن سورية أبرزها حلب وحماة وإدلب والحسكة ودير الزور وتم نقل هذه المصانع كلها إلى مدينة اضنة التركية، وللعلم كان الدخل السنوي التركي من عائدات السياحة عام 2010 م لا يتجاوز 2.5 مليار دولار في ظل استقرار سوريا لكن ارتفع هذا العائد بحلول عام 2012م إلى 5.6 مليار ليصل اليوم إلى 19.8 مليار دولار هذا مثال وحسب.
شجعت تركيا والغرب وأمريكا وبعض العرب المواطنيين العرب السورين إلى مغادرة وطنهم فوظف أردوجان اللاجئين السورين واتخذا منهم ورقة مساومة وابتزاز لسورية من ناحية والغرب وأمريكا والمنظمات الدولية من ناحية أخرى جاعلا منهم ورقة استراتيجية رابحة للابتزاز والمساومة، واعتقد ان صمود النظام العربي السوري فعل أحبط أردوجان وافشل كل مخططاته  واحلامه ليجد نفسه مجبرا على مصالحة مصر والإمارات والسعودية، وإعادة علاقته بالكيان الصهيوني للعلن ، والتمسك بورقة ليبيا ومساومة روسيا وأمريكا في شرق سورية واستعراض عضلاته شمال العراق لتأتي العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا لتضع أردوجان أمام فرصة لابتزاز جديد ولكنه الابتزاز الغير مأمون العواقب..!!
يمكن القول اليوم أن أردوجان يجد أخطر أعدائه  الرئيس السوري الدكتور بشار حافظ الأسد الذي هزمه وافشل جميع مخططاته في المنطقة، فأنتصار سورية وصمود نظامها أطاح بكل أحلام وتطلعات أردوجان..!
ليخرج الرجل من دائرة المنافسة على زعامة المنطقة ليتجرع كأس الفشل والخيبة مثله مثل السعودية والكيان الصهيوني تاركين الساحة العربية مرهونة بنهاية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا والتي أن كان هناك من يتمنى هزيمة روسيا فيها بعد أمريكا والناتو والدول الغربية طبعا فهما تركيا والكيان الصهيوني، فتركيا تخشى رد فعل روسيا في شرق سورية وانتصار موسكو في أوكرانيا يعني نهاية عبث تركيا أردوجان بالجغرافية السورية التي تساوم عليها انقره أمريكا التي تدعم الأكراد السوريين فيما تركيا تعتبر الأكراد إرهابيين سوا كانوا أكراد سوريا أو العراق أو إيران أو كانوا مواطنيها فكل كردي بنظر تركيا هو إرهابي أن لم يؤمن بولاية تركيا ووصايتها عليه…؟!
فيما أمريكا تدعم أكراد سورية لمساومة تركيا بهم ومطالبتها بإلغاء صفقاتها مع روسيا وإبقاء علاقتها العسكرية محصورة بأمريكا والناتو..!
إسرائيل بدورها تحذوا حذو تركيا فيما يتعلق بامانيها بهزيمة روسيا في أوكرانيا حتى تبقى عربدتها في فضاء سورية وصولا إلى انتزاع اعتراف روسي بسيادة الكيان على هضبة الجولان العربية السورية..؟!
بيد أن الإخفاقات التركية _الصهيونية _السعودية في ملء الفراغ الاستراتيجي في المنطقة جعل الفرصة أمام طهران ميسرة خاصة إذا أنجزت طهران اتفاق فيينا النووي..؟!


خلاصة القول إن أكثر المتحمسين لتغيير الخارطة الجيوسياسية العربية كانت تركيا أردوجان وأكبر الخاسرين والمهزومين اليوم هي تركيا أردوجان وتبقى الحرب الأوكرانية والانتخابات التركية القادمة هما الحدثان اللذان سيكتبان نهاية لبرجماتية كارثية تعاطي بها السلطان العثماني الجديد أردوجان الذي فصل الدولة والمؤسسات والمجتمع التركي على مقاسه وهو فعل غير مسبوق وغير مقبول في تركيا الباحثة عن هوية جامعة مستحيلة التحقيق وبين أن تكون أوروبية وعضو في الناتو أو تكون إسلامية تبقى هذه الدولة التي تتمتع بموقع جغرافي استثنائي تمثل إشكالية في النزاعات الجيوسياسية وتزداد أزمتها في العالم الجديد القائم على التعدد القطبي الذي لا ينسجم مع الحالة التركية التي شكلها أردوجان ورسم أطيافه طيلة السنوات الخالية وهو ما يجعل القادم يظهر تركيا وكأنها أشبه بلوحة سريالية خطتها ريشة سلفادور دالي يصعب فك رموزها أو تفسير أطيافها وهذا قد يدفع حراس العلمانية التركية والمتمثلين بالجيش التركي إلا التدخل وإعادة تصويب المسار وإبعاد بلادهم عن طوباوية الأحلام القاتلة التي وضعها أردوجان مناقضا لكل ما ورد في كتاب أحمد داود أوغلو  (تركيا والجار صفر مشاكل) الذي قدم به عهد أردوجان قبل أن يقودهم هذا العهد وتركيا إلى أصعب المشاكل وأكثرها تعقيدا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى