أحدث الأخبارالعراقمحور المقاومة

تشكيل رأي عام شيعي عراقي مضاد للذات

مجلة تحليلات العصر الدولية - علي المؤمن

* ازداوجية الرأي العام:

تعبر ثنائيات الرأي العام عن حالة الإزدواجية أو المفارقات الشائعة للرأي العام في كل بقاع العالم، ولاتختص بالرأي العام العراقي، فالرأي العام الظاهر ــ مثلاً ــ يكون أحياناً مؤشراً خادعاً، ويخفي وراءه رأياً عاماً كامناً، وهكذا بالنسبة للرأي العام المتغير الذي يضمر رأياً عاماً ثابتاً. وترتبط هذه الثنائيات بظواهر الاجتماع النفسي والاجتماع الديني للشعب، ويمكن من خلالها التعرف على المواقف شبه النهائية للرأي العام، وعلى النحو التالي:

1- الظاهر والكامن:
الرأي العام الظاهر هو الرأي المعلن الفاعل للجمهور، ويتمظهر في الفعاليات العامة، كالتظاهرات والاحتجاجات وما يقال وينشر في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي. وغالباً ما يمثل رأي الأقلية الشعبية الفاعلة أو ما يمكن تسميتهم بأصحاب الصوت العالي الذين يزعمون تمثيل الشعب والرأي العام. أما الرأي العام الكامن فهو رأي مستتر ولايعبر عن نفسه في فعاليات عامة، لأسباب سياسية أو اجتماعية أو أمنية، وهو ما يعرف برأي الأغلبية الصامتة، وهي الأغلبية التي تراقب عادة. ويمتلك جزء من هذه الأغلبية موقفاً ثابتاً، والجزء الثاني ليس له رأي متبلور من الحدث أو القضية، ويفضل المراقبة والانتظار وصولاً الى انتاج الموقف النهائي، أما الجزء الثالث فليس له رأي ولا يفكر بانتاج رأي. بيد أن الأغلبية الصامتة تعبر عن مواقفها الحقيقي ـــ عادة ـــ عندما تزول أسباب صمتها، أو في المنعطفات المصيرية.

وبين الظاهر والكامن، تبرز مشكلة تمثيل الرأي العام وتمثيل الشعب، وهو ما يعبر عنه بعض الزعماء السياسيين أو مقدمي البرامج التلفزيونية أو المتظاهرين، حين يدّعون أنهم هم الشعب وأنهم يتحدثون باسم الرأي العام، بينما يكمن الرأي العام الغالب في مكان آخر، وهو مايتفاجأ به المراقبون في الانتخابات العامة عادة. ففي جميع الدورات الانتخابية الماضية (2003-2020) ظل الإسلاميون الشيعة وحلفاؤهم، يحصدون الأغلبية الساحقة للمقاعد الشيعية في مجلس النواب العراقي، ويمسكون بقرار تشكيل الحكومة، بينما يحصل خصومهم من العلمانيين الشيعة ــ مثلاً ــ على ما معدله 10 بالمائة مما يحصل عليه الإسلاميون، رغم أن هؤلاء الخصوم أصحاب صوت عال ويدّعون تمثيل الشعب. وينطبق الأمر نفسه على تيارات إسلامية شيعية تطرح نفسها ممثلة للشعب أيضاً، لكنها تحصل في الانتخابات العامة ـــ عادة ـــ على النسبة نفسها التي تحصل عليها الفصائل الأخرى وربما أقل.

ويبدو أن هذه النتائج ستتكرر مستقبلاً، سواء في انتخابات مجالس المحافظات أو انتخابات مجلس النواب، ليس لأن الحركات الإسلامية تمتلك إمكانات مالية وإعلامية وتنظيمية أكبر، ولكن لأن الرأي العام الشيعي العراقي يميل الى عناصر اجتماعه الديني ــ غالباً ــ ويرى أن مشتركاته مع الإسلاميين أكبر بكثير من مشتركاته مع الجماعات والكتل العلمانية وغير الإسلامية. ولذلك؛ ينطلق الرأي العام الشيعي الكامن، معبراً عن نفسه تلقائياً في المنعطفات، ومنها الإنتخابات، حين يختار الإسلاميين، بل أن الجزء الذي لاينتخب فصائل الحركة الإسلامية، ويعلن عن معارضته لها؛ يفضل العزوف عن المشاركة الانتخابات، على انتخاب التيارات العلمانية.

3- المؤقت والثابت:
الرأي العام المؤقت هو الرأي المتغير أو المتحرك أو الناشط في برهة زمنية محددة، تتميز بأحداث ووقائع آنية أو مشاكل طارئة. وغالباً ما يبرز الرأي العام المؤقت ردّ فعلٍ على هذه الأحداث أو الوقائع، قبولاً أو رفضاً، ويتمظهر ــ عادة ــ في التظاهرات والحملات الإعلامية في الوسائل التقليدية أو وسائل التواصل، ويتلاشى تدريجياً أو فجأة، مع ارتفاع أسباب تشكيله أو حدوث موجات دعائية مضادة، أي مع انتهاء الحدث أو تغيير معادلات فهمه وتغيير موازين القوة. وبالتالي؛ فهو تعبير عن قيادة العقل الجمعي الآني للجمهور. وتزداد حالات ظهور الرأي العام المؤقت عندما يكون الجمهور عاطفياً، وهو ما يتميز به الشعب العراقي، وكذا في ظل أجواء القمع الشديد أو حرية الرأي المنفلتة عادة، وهما واقعان عاشهما الشعب العراقي، الأول خلال حكم البعث، والثاني بعد العام 2003.
أما الرأي العام الثابت، فهو رأي راسخ ومستقر، استقراراً كاملاً أو نسبياً، ويمثل وعياً عاماً قيمياً، يرتبط بثوابت الجمهور الدينية أو الاجتماعية عادة، ولاتغيّر فيه الأحداث والمشاكل تغييراً كبيراً. وهذا الرأي هو الذي يطفو على السطح في المنعطفات التي يعدها الجمهور مصيرية.

ويمكن تشبيه الرأي العام الظاهر بالرأي العام المؤقت، والرأي العام الكامن بالرأي العام الثابت، من كثير من الوجوه، فإذا كان الرأي العام المؤقت يشير الى معارضة ساخنة ممتدة لأداء فصائل الحركة الإسلامية الشيعية في السلطة بعد العام 2003، حاله حال الرأي العام الظاهر؛ فإن الرأي العام الثابت يصب ــ عادة ــ في مصلحة الحركة الإسلامية، بالنظر للمشتركات القيمية الدينية والاجتماعية بين الحركة الإسلامية وعناصر الرأي العام الثابت الشيعي العراقي، حاله حال الرأي العام الشيعي العراقي الكامن.

* الرأي العام الشيعي المضاد للذات:

ولاتزال محاولات تشكيل رأي عام شيعي مستقر وثابت مضاد للحركة الإسلامية الشيعية، مستمرة وتزداد قوة وخطورة، عبر توسعة الدائرة الزمنية في الرأي العام الشيعي المؤقت، ورفع حدة الرأي العام الظاهر وتوسعة دائرته علنياً، وهو ما يمهد لظهور تدريجي لثلاث حالات ممكنة:

1- خلق اتجاه عام شيعي تراكمي ضد الحركة الإسلامية الشيعية، من خلال إيجاد فاصلة في الوعي الشيعي بين الوعي التاريخي الشعبي الشيعي وأداء الحركة الإسلامية في السلطة.

2- زعزعة الدعائم التي تستند عليها الحركة الإسلامية الشيعية العراقية في رهاناتها على الرأي العام الكامن والثابت، ومنها الفصل بينها وبين ظواهر الاجتماع الديني الشيعي، وفي مقدمها المرجعية الدينية والحوزة وشعائر آل البيت.

3- دمج الرأي العام الشيعي الظاهر والمؤقت في الرأي العام الكردي السلبي والرأي العام السني السلبي، لخلق رأي عام عراقي عددي يرفع شعار فساد الإسلاميين الشيعة الحاكمين وفشلهم وعمالتهم ومليشياويتهم، مقابل استثناء الجماعات الأخرى المشاركة في السلطة، أي الأحزاب والزعامات الكردية والسنية، ونظيراتها الشيعية العلمانية، بمعنى خلق رأي عام عراقي موحد وعابر للطوائف والقوميات ضد الأحزاب الاسلامية الشيعية حصرأ، وليس ضد جميع كتل السلطة.

وقد بلغت هذه المحاولات ذروتها خلال تظاهرات تشرين في العامين 2019 و2020، لتبرز على شكل صراع شامل عنيف، وقصف دعائي منهجي منظم، وحرب نفسية شعواء، اشترك في دعمها وتأجيجها أحزاب وشخصيات ووسائل إعلام سنية وكردية، ودول إقليمية وعالمية. وهو ما يؤكد حقيقة أن أي شعب في العالم، لم يتعرض الى محاولات إعادة تشكيل وعي مضاد للذات، بالشكل الذي ظل شيعة العراق يتعرضون له بعد العام 2003. صحيح أن لهذه المحاولات جذور ضاربة في التاريخ القديم والمعاصر، لكنها تضاعفت نوعياً وكمياً بعد العام 2003. وصحيح أيضاً أن هذه المحاولات تتمظهر في تأليب الشيعة ضد الجماعات الإسلامية الشيعية، بهدف إزاحتها عن السلطة، لكن أهدافها البعيدة أعمق بكثير، وتنطوي على أبعاد عقدية وثقافية واجتماعية وأخلاقية، وفي المقدمة ضرب عناصر القوة الشيعية أو تحييدها كما كان يحدث خلال حكم البعث، وصولاً الى إسقاط تجربة المشاركة الاسلامية الشيعية في العراق، وإعادة تأسيس العراق العلماني والدستور العلماني والدولة المرتهنة للغرب والمجتمع العلماني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى