أحدث الأخبارالعراقمحور المقاومة

جدلية استثمار الغاز العراقي

مجلة تحليلات العصر الدولية - عبدالحسين الهنين

من الصعب ان تجد وثيقة ذات مصداقية عالية تخبرك عن حاجة العراق الفعلية من الغاز والاحتياطي المثبت وامكانية استثمار الغاز العراقي بينما يتداول بما يسمى الخبراء الأرقام المتضاربة التي تزيد من الضبابية التي تحيط بهذا الملف بحسن نية او ربما بشكل مقصود لكن المؤكد لدينا ان هناك اختلافات جدية بين ما نسمعه او نقرأه في وثائقنا الرسمية وبين الإحصائيات العالمية ومنها النشرة السنوية لشركة بريتش بتروليوم ( BP) التي تقدم احصاءات سنوية عن قطاع الطاقة بكل انواعه واستخداماته في جميع أنحاء العالم .
ان الهدف من محاولات التعرف على الأرقام الدقيقة هو بالحقيقة الطريق العلمي الصحيح لوضع خطط التحول من وقود ملوث للبيئة الى الغاز ثم التخلص جزئيا أو كليا من الاستيراد الذي يحمل ابعادا اقتصادية و سياسية في المدى المتوسط والبعيد لكن مهما كان حجم اشتباك السياسة بهذا القطاع وتأثيرها سلبا عليه فانه لابد من الاعتراف من ان العراق قد اهدر الكثير من الفرص السانحة في ان يكون طرفا مؤثرا في صناعة الغاز العالمية , فمثلا وجهت للعراق عام 2005 دعوة للانضمام كدولة كاملة العضوية الى منتدى الدول المصدرة للغاز (GECF Gas Exporting Countries Forum) الذي تأسس عام 2001 و يتخذ من العاصمة القطرية مقرا له , فكان رد الحكومة العراقية آنذاك من ان العراق دولة نفطية وان الغاز ليس اولوية له بينما كانت روسيا تؤكد حينها ان العراق يمتلك احتياطيا واعدا من الغاز و هناك دول في المنتدى هي اقل من العراق من حيث الاحتياطي اصبحت عضوا في المنتدى ومع ذلك لم نستفد من النصيحة ولم نلبي الدعوة لكن المفارقة اننا عدنا عام 2012 لنقبل الانضمام بصفة عضو مراقب خلال الاجتماع الوزاري الرابع عشر لدول المنتدى الذي عقد في غينيا الاستوائية .
و رغم الجدل حول ما يمتلكه العراق من خزين غازي والمبالغة في تقديراته , فأن الواقع يقول انه يبقى بحاجة الى استيراد اكثر من 1000 مقمق (مليون قدم مكعب قياسي في اليوم ) من الخارج لثلاث سنوات قادمة على الأقل في حالة تمكنت وزارة النفط من تنفيذ كامل خططها المرسومة على الورق وهي ان تصل السعات الإنتاجية الى الهدف المرسوم و هو 3500 مقمق/ يوم في نهاية عام 2022 وهي فرضية صعبة التحقيق في ظل بيروقراطية ثقيلة و لو صحت هذه الفرضية فهذا يعني ان العراق سيتمكن من استثمار جزء كبير من الاحتياطي المتوفر في المكامن الغازية اضافة الى استثمار الغاز المصاحب لتوفير الجزء الأكبر من الحاجة الفعلية للغاز الطبيعي الجاف التي تقدر بـ 4500 مقمق/يوم في 2023 , وهذه الكمية تقابل انتاج 18000 ميكا واط من الطاقة الكهربائية المنتجة من مجموع السعات التوليدية المصممة للعمل بوقود الغاز الطبيعي فقط على أمل ان يتم ايقاف استخدام النفط الخام او زيت الغاز او زيت الوقود وأبداله بالغاز الأمر الذي يعني من الناحية والاقتصادية ان ترتفع كفاءة الوحدات التوليدية بنسبة لا تقل عن 20% فضلا عن انخفاض الانفاق على الصيانة و كلف استخدام المواد الكيمياوية المضافة لتحسين الوقود مع الأخذ بنظر الاعتبار ان الحاجة لمزيد من الغاز سوف تستمر في الصعود مع زيادة انتاج الطاقة الكهربائية وتوسع استخدامه في الصناعة وغيرها من قطاعات الإنتاج الحقيقية , لذلك فان الهدف الذي يجب ان نستهدفه بحسب البيانات المتوفرة لدينا هو تشغيل 32000 ميكاواط على الغاز سنة 2025 يتم انتاجها من الوحدات البسيطة ( Simple Cycle ) التي تعتمد على الغاز كوقود وتحويل ممن لم يتحول بعد منها الى وحدات مركبة ( Combined Cycle ).
يقف الاحتياطي العراقي المثبت من الغاز (Reserve ) حاليا في التسلسل الثاني عشر عالميا بـ (124.6 ) ترليون قدم مكعب قياسي حسب الاحصائية السنوية لعام (2021) التي تصدر من قبل شركة (BP) , وبهدف التوضيح ( نظريا ) اذا اعتبرنا ان الغاز سيوجه للكهرباء فقط فانه يكفي لإنتاج 33 الف ميكا واط من الكهرباء (وحدات مركبة تعتمد على حرارة وحدات بسيطة تعمل بالغاز) لمدة (60) عاما بمعدل استهلاك 5500 مقمق يوميا بشرط تحويل جميع المحطات الغازية الى الدورة المركبة , لكن الواقع ان الكهرباء ستزداد بشكل كبير خلال العقود القادمة فضلا عن التطور التكنولوجي الذي يتوقع ان يقلب جميع الحسابات الحالية في قطاع الطاقة .
الجدير بالذكر ان اغلب انتاج العراق من الغاز الطبيعي حاليا هو غاز مصاحب لإنتاج النفط الخام حيث تبلغ معدلات الانتاج الحالية اكثر من 3000 مقمق/يوم يتم استثمار ومعالجة اكثر من 1500 مقمق/يوم منه في منشآت المعالجة ضمن شركة غاز البصرة (مجمع المعالجة في خور الزبير ومجمع معالجة شمال الرميلة) وكذلك مجمع المعالجة في شركة غاز الشمال والمعالجة ضمن شركة نفط الوسط في منشآت حقلي بدرة والاحدب حيث يتم انتاج ما يزيد عن 900 مقمق/يوم من الغاز الجاف الذي يخصص كوقود لمحطات توليد الطاقة الكهربائية (مع وجود استعمالات اخرى حالية ومستقبلية في القطاع الصناعي والزراعي) ولازال يضخ كمية من الغاز بشكل مباشر للشبكة من دون معالجة , وكذلك يتم انتاج ما معدله 4300 طن/يوم من غاز البترول المسال (LPG) والذي يوجه للاستخدامات المنزلية وانتاج ما يزيد عن 1240 طن/يوم من المكثفات (Condensed) , والمؤسف اننا لازلنا نحرق كميات كبيرة من الغاز بمعدل يزيد عن 1500 مقمق/يوم وهو ما يعد هدرا كبيرا جدا بالموارد يستدعي معالجات لاستثماره .
اذا افترضنا ان العصر الذهبي للغاز قد بدأ فعلا فهذا يعني انه سيصبح جسراً زمنياً قد يتجاوز الخمسين عاماً لندخل بعده العصر الذهبي للطاقة المتجددة النظيفة الصديقة للبيئة , وهذا لا يعني نهاية استخدام النفط او بقية الأنواع ألأخرى من الوقود الأحفوري وانما يمكن ان نقول ان عصر النفط بدأ يرسم نهاياته مثلما لم ينضب الفحم الحجري بل انتهى عصره وتحوّل العالم الى عصر النفط بفعل التقدم التكنولوجي وعوامل الاقتصاد والبيئة وغيرها، أي اننا لن نشهد نضوب النفط بل نشهد قريباً انتهاء عصر هيمنة النفط على سوق الطاقة , و قد تكون احد الأسباب غير المعلنة للتوترات المستمرة في منطقة الشرق ألأوسط هو الصراع حول السيادة في سوق الغاز الأوروبي تحديداً والعالمي بشكل عام بعدما تأكد أن اكبر الاحتياطات في الكوكب مستقرة في ثلاث دول هي (روسيا وايران و قطر ) حيث تشترك قطر مع ايران بحقل بارس الممتد تحت مياه الخليج و تتسابق كلتا الدولتان على استثمار أكبر كمية منه في منافسة ثنائية (ودية ) مع روسيا، ويبدو أن محور الغاز الروسي – الإيراني قد حقّق مكاسب كبيرة خصوصاً بعد الأزمة الخليجية القطرية وانضمام قطر الى هذا المحور. وتكمن أهمية هذه الدول الثلاث في انها تمتلك 48.5 % من احتياطي الغاز الطبيعي في العالم بمجموع مقداره 95.5 ترليون متر مكعب من إجمالي احتياطي الغاز الطبيعي في العالم البالغ 197 ترليون متر مكعب، بحسب بيانات شركة بريتش بتروليومBP .
السؤال المهم هو هل يمكن للعراق ان يكون شريكا في سوق الغاز العالمي باعتبار أن النفط لن يستمر بكونه السلعة الأهم في سوق الطاقة من خلال التعجيل في استثمار الغاز العراقي والمشاركة الفاعلة في نقل الغاز عالميا عبر الأراضي العراقية والبدء بفتح مفاوضات مع قطر وايران وتقديم التسهيلات والعناصر الجاذبة لبناء منصات لاستقبال الغاز من خلال السفن او دراسة امرار انبوب تحت مياه الخليج وربط مصادر الغاز القطري والإيراني بشبكة الغاز داخل العراق وتطوير هذه الشبكة وتوسيعها لتكون قادرة على تلبية احتياجات العراق ونقل الغاز عبر العراق , كذلك مغادرة الأساليب التقليدية في معالجة الغاز وتجميعه في الحقول ذات سعات الإنتاج المنخفضة على ألأقل , بل استثمار هذه الحقول بشكل مباشر موقعيا من خلال محطات كهرباء ذات سعات تتراوح بين 25 الى 50 ميكاواط وربطها مباشرة بشبكة الكهرباء من خلا خطوط 132,33,11 ( KV ) وتجاوز الروتين لاسيما ان هناك شركات عالمية ابدت رغبتها برسائل رسمية لتنصيب هذه المحطات التي تمثل جدوى اقتصادية ناجحة في استثمار الغاز ومنع حرقه و توفير قدرات كهربائية اضافية قليلة الكلفة بسبب قربها من المستهلكين .
المؤكد لدينا هو ان العالم يتقدم ولن ينتظر تباطئنا في استثمار مواردنا بسبب الكسل أو الفساد و لن يطول الزمن حتى نرى التكنولوجيا وهي تختصر المسافات و تقلل الكلف في استثمار مكامن الغاز الكبرى تحت المحيطات وحينها لن يكون الحديث نوعا من الخيال العلمي كما هو ألأمر حاليا , فهناك تطلعات علمية كبيرة لكنها لازالت غير مجدية من الناحية الاقتصادية فضلا عن مخاطرها البيئية الكبيرة , فقد نفذ العلم في مجال كان بعيداً تماماً عن فكرة استثماره وهو (الغاز المائي) حيث اعلنت اليابان ان البحوث والدراسات توصلت الى استخراج الغاز المائي من قاع البحر وهذا النوع من الغاز يتواجد في ماء متجمد في أعماق تتجاوز الـ 500 متر وهو ينتج من اتحاد الغاز والماء تحت ضغط عال وحرارة منخفضة وينتشر بشكل واسع في قاع البحار في طبقة صلبة تشبه الزجاج أو الجليد التي تحتوي على كميات كبيرة من غاز الميثان الذي يتحرر من الماء على شكل فقاعات ضخمة متى ما تتغير عوامل الضغط أو الحرارة أو كليهما .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى