أحدث الأخبارفلسطينمحور المقاومة

حكاية الأسطورة.. من كرمان الى فلسطين

مجتة تحليلات العصر الدولية

من كرمان الى فلسطين، حمل قاسم سليماني قلبه ناثرًا شذى النصر. بين زخات الرصاص طاب له النزال، وتحت جدران هشمتها الحرب لطالما غفا. في الطريق الى القدس، أًلِف صحراء العراق، وعبق الشام، وزيتون الجنوب.. رحمةً وعطفًا مسح على رؤوس الأطفال من الأيتام.. تواضعًا انحنى مقبلًا أيدي المجاهدين.. حبًا وشوقًا بكى العماد قبل الرحيل.. إباءً وشجاعًة تحدّى استكبار الادارة الأميركية المجرمة، فكان لها نِدًّا في الميدان والسياسة: رجلٌ مقابل دول واستخبارات وجيوش.

عقيدته “اسرائيل شر مطلق”، والهدف “إزالتها من الوجود”، وفي هذا السبيل كان “خادمُ الأمّة” سهمًا قاتلًا مصوّبًا نحو كل مشاريع الاستكبار العالمي. ايران، العراق، أفغانستان، سوريا، لبنان، اليمن وفلسطين، ميادين خَبِر الحاج قاسم مفاتيحها جيدًا، فحولها حممًا تقذف لهيبها نحو المحتل الصهيوني – الأميركي وكل ما تفرّع عنهما.

لم يكن سليماني سيّد الميدان العسكري حصرًا، بل تسيّد ساحة الفكر الاستراتيجي وخبايا الدبلوماسية، وحيثما حلّ، كان حاملًا لراية الحق ورافعًا لواء النصر.. لم تصبه خيبة رغم ثقل المهام، ولا أعياه يأس ولا عرف الاستسلام طريقًا الى قلبه.. اباء ورحمة، شجاعة واقدام، اخلاص وصدق، تواضع وحنكة.. اجتمعت في شخص الأيقونة الخالدة، ليكون قاسم سليماني هو الأسطورة.. وكفى بالاسم فخرًا.

بداية الحكاية.. من لبنان
عام 1998 عُين قاسم سليماني قائدًا لقوة القدس في الحرس الثوري. في تلك الفترة، كان موعد المناورة التي يُحضَّر لها لمدة 3 أشهر لشباب من المقاومة الاسلامية اللبنانية في الجمهورية الاسلامية قد دنا. قاربت التحضيرات على الاكتمال، وقبل بضعة أيام، يطلب القائد في حزب الله المسؤول عن المناورة من المعنيين موعدًا هو الأول مع سليماني. في اليوم نفسه، يكون له ما أراد..

سحر اللقاء الأوّل
لم يكن قد مضى بعد شهر على تسلم سليماني موقعه الجديد. استمرّ اللقاء الأول مع القائد الجهادي من لبنان قرابة الربع ساعة، واتُفِق خلاله على اجتماع أوسع في اليوم التالي.. عند العاشرة من صباح اليوم التالي، يدخل القائد الجهادي الى اللقاء ليجد سليماني حاضرًا مع كل أركانه، كانوا قرابة التسعة من المسؤولين في هذا الملف. خلال الجلسة، عرض القائد لوجهة نظر خاصة حول تكتيكات وطرق وأساليب ترتبط بنماذج لتطوير مديات صواريخ، ولم تكن تلك النظرية الخاصة تتوافق مع النظريات العسكرية المعتمدة في ذلك الوقت، لكن سليماني كان مستمعًا باهتمام.. واذ به يحسم الموضوع بكلمات جادة موجهًا الكلام لفريقه: “ابتداء من اليوم ضمن هذه المهمة، هذا الرجل (وأشار الى القائد الجهادي) هو مسؤولكم جميعًا، لن يذهب أحدكم الى باقي أعماله قبل أن ينتهي هو”.

يروي القائد الجهادي الذي رافق بعد ذلك سليماني حتى شهادته: “كان الضغط النفسي شديدًا عليّ، لقد أعطاني ما لم أكن أحلم به”.

سليماني حاضر في المناورة.. والنداء: “يا عباس”
ثلاثة أيام مضت على التحضيرات المتواصلة عقب اللقاء والاتفاق على تجربة الأسلوب الجديد، ينتقل على اثرها القائد الجهادي وفريقه الى مكان المناورة، ويتم تجهيز منصات الإطلاق ويُحدَد موعد البدء بالمناورة.

في اليوم الرابع حانت ساعة الصفر، وإذ بالحاج قاسم يحضر شخصيًا بالطائرة. يستقبله القائد الجهادي ثم يجولان سويًا في جيب عسكري على الشباب، ويصدران الأمر بالآية القرآنية: “بسم الله الرحمن الرحيم، أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير”، وبنداء “يا عباس”، تيمنًا بسيد شهداء المقاومة الاسلامية السيد عباس الموسوي تبدأ المناورة.. نُفِذت خلالها كل التجارب المطلوبة، وكان التوفيق عنوان نجاحها.. يبوح القائد الجهادي لـ”العهد”: “كأن حملًا ثقيلًا نزل عن ظهري”.

تلك كانت الخطوة الميدانية الأولى التي خطاها الحاج قاسم مع المقاومة في لبنان، تميزت بالحماس والتفهم وسرعة الانجاز والحسم بلا تردد أو ابطاء. كان واضحًا كم هو رجل عملي، جريء في فكر استراتيجي ملفت ومدهش. على تجربة اللقاء الأول ذاك، تُقرأ الخطوط الأولى والرئيسية في أسلوب الحاج قاسم وحجم عطائه المذهل، هذا اللقاء كان نموذجًا أوليًا ألقى بظله على مستقبل علاقة المقاومة في لبنان مع هذا الرجل العظيم.

على الاثر، انتقل الى لبنان وتعرف على كل القيادات واطلع على كل تفصيل يتعلق بالحركة الاسلامية قبل انطلاقة المقاومة وبعدها، واتصل والتقى بكل من تستطيع المقاومة الاستفادة منه. في المراحل المتتالية، اتسمت كل الأنشطة بما امتازت به الخطوة الأولى من الجدية والفاعلية، والمتابعة الحثيثة، واستمرت كذلك في السنوات التي تلت.. كان الحاج قاسم يستفسر عن الصغيرة والكبيرة في كل المواضيع.

يختصر القائد الجهادي تجربة اللقاء الأول مع القائد سليماني بملاحظات سريعة:

“الحرارة العالية جدًا، والتفهم السريع للموضوع وقيمته، والجرأة والاستعداد للمغامرة فورًا وبلا ابطاء أو تأجيل حتى وإن خالف بعض الأصول وانتُقِد من بعض أصحاب أهل الخبرة.
العمق في فكره الاستراتيجي، اذ تَصوّرَ منذ اللقاء الأول أن النجاح هناك سيحقق تحولًا جذريًا في مستوى الصراع، من مجموعات صغيرة متواضعة التنظيم والقدرة في مواجهات محدودة، الى وضع مختلف تمامًا. كان يشاهد المستقبل ويراه ويعيشه. قبل اللقاء الأوّل كانت القدرة الصاروخية لا تتجاوز العشرين كلم، وبعده تم الانتقال الى موقع مختلف كان يعرفه هو، ويؤمن به كأنه يراه، من صواريخ محدودة العدد لا يتجاوز مداها 20 كلم الى صواريخ يصل مداها الى إيلات”.
حكاية الأسطورة.. من كرمان الى فلسطين

من 2000 الى 2006: انقلاب الصورة
سنوات مرّت بين اللقاء الاول وعام 2006، صنع خلالها الحاج قاسم تطورًا غير عادي في بناء قدرات المقاومة لناحية الحجم والمتانة، والقوة لمواجهة القدرة العسكرية الاسرائيلية، وقلب الصورة السائدة طوال السنوات الممتدة من 1948 الى 2006.

على مشارف العام 2000 وبعده، حوّل الحاج قاسم تنظيم حزب الله الى قوة تشكل في حرب تموز 2006 خطرًا يعادل خطر جيوش الدول. ورغم تطوير الجيش الاسرائيلي لقدراته، على مدى 33 عامًا (من عام 1973 الى 2006) في سعي دؤوب ومدعوم من أغلب قوى العالم وعلى رأسها أمريكا، وقف مهزومًا في 33 يومًا عن تحقيق أهدافه.

خلال سنوات أصبحت المقاومة الاسلامية قوةً قادرة، بجهد وجرأة ورؤية الحاج قاسم الاستراتيجية، وحجم الفرص التي فتحت والخدمات التي قدمها من تدريب، ونوعية سلاح كالكورنيت (من أهم الأسلحة التي ساعدت في تغيير وجه الحرب) الذي ما كانت المقاومة لتمتلكه لولا الحاج سليماني، وصواريخ بر ـ بحر التي أسقطت ساعر وغيرها، وأوهنت القوة البحرية الاسرائيلية.

كل هذه الانجازات آمن الحاج قاسم بها قبل أن تتحقق، شاهدها بفكره الاستراتيجي النيّر واتكاله على الله. يستحضر القائد الجهادي بعضًا من أسلوب عمل الحاج قاسم: “كان بشخصيته الاستثنائية يعمل بطريقة فريدة، يتحرك وكأنه عدد من الأشخاص، كنسخ تعمل وكل نسخة تتحرك بجد ومثابرة لا مثيل لها.. عددٌ من الشخصيات الفعالة هو الحاج قاسم”.

وفي الوقت الذي كان يجهد بتلك الفعالية مع المقاومة في لبنان، كانت بوصلة قلبه تشير الى فلسطين وقدسها.. فهي سره المكنون وهو قائد لوائها.

بوصلة القلب: فلسطين
قبل الانسحاب الاسرائيلي من الجنوب اللبناني عام 2000، ولمّا كان الجيش الاسرائيلي يفكر بإغلاق جبهة لبنان ظنًا منه أنه ختم نزف هذا الجرح، كان تفكير الحاج قاسم يتجه نحو تفعيل العمل الفلسطيني.. مبادرًا الى فتح جرح آخر.

حكاية الأسطورة.. من كرمان الى فلسطين

يروي القائد الجهادي لموقع “العهد” بعضًا من ابداع الحاج قاسم على الساحة الفلسطينية: “كان العمل داخل فلسطين قبل ذلك موجودًا على مستوى معين، ثم بدأنا مع الحاج قاسم نبحث عن شخصيات مناسبة بغض النظر عن تجربتهم وأعمارهم وانتمائهم، عن أي شخص لديه الجهوزية والاستعداد للقتال والقيام بأي نشاط في الساحة الفلسطينية ضد الكيان الغاصب، دون الاهتمام بأي تسميات أو تشكيلات سياسية أو دينية أو مناطقية، البحث كان مركزًا على الاستعداد والجهوزية فقط.. وانفتحنا على كل الفصائل الموجودة، حتى على المجموعات الصغيرة والتي لا تتجاوز عدد أصابع اليد”.

تعامل الحاج قاسم مع الجميع، لا فرق لديه بين التنظيمات الاسلامية المتشددة، والتنظيمات العلمانية وما بينها، وكذلك المجموعات الصغيرة والمتوسطة، كانت القاعدة واحدة: العداء لقوات الاحتلال وأمريكا.

هكذا كانت الانطلاقة.. مسار عمل الحاج قاسم تركّز على عدة خطوط: الخط الأول هو تأمين العنصر البشري، والثاني هو رفع مستوى التديب، ونقل التجربة اللبنانية، والخط الثالث هو رفع مستوى التسليح. وكرمى للقدس، كان الحاج كريمًا إلى أبعد حدود.. عَبَرَ كل الدروب وشق الكثير منها أيضًا حتى يوصل أي سلاح مهما كانت قيمته الى فلسطين المحتلة. لم يُعدم الحاج وسيلة حتى ركوب طريق البحر لأجل ذلك، فكان يلقي كميات كبيرة في البحر على عوامات لتصل الى غزة عبر محتسباً حركة الهواء واتجاه الموج، رغم ادراكه أن قسمًا كبيرًا من هذا السلاح قد لا يصل.

ابتداء من سنة 2000 بدأ العمل على الصناعات الصاروخية اليدوية في الأراضي المحتلة التي يمكن الاستفادة منها في فلسطين، فالمدى الصاروخي داخل الاراضي الفلسطينية لا يحتاج الى المستوى الذي كانت تحتاجه المقاومة في لبنان، هناك، الصواريخ القصيرة المدى مفيدة وفعالة في الداخل.. الضفة الغربية مثلًا لا تحتاج الًا لمئات الأمتار لتصل الى العمق المحتل.

حكاية الأسطورة.. من كرمان الى فلسطين

بحسب القائد الجهادي: “كان العمل على كل هذه الأصعدة بشكل متواز وتدريجي، اضافة الى الدعم المادي. لم يكن هناك فصيل لم يدعم بهذه الخطوط جميعها، حتى الفصائل الضعيفة النشاط، قصد الجميع الحاج سليماني ونشّط الفصائل الضعيفة، وعمد الى تنمية الفصائل القوية ودعمها بكل الامكانات.. لا توجد قوة فلسطينية لم يتوجه اليها، حاول مع الجميع مرارًا بلا يأس أو ملل، مع الكل بلا استثناء وبما توفر لديه رغم الصعوبات في ايصال الدعم المالي، أما طريق تأمين السلاح فكانت في غاية الصعوبة”.

تشكل فريق علمي خاص ليصمم صواريخ سهلة التصنيع يدويًا لتناسب المقاومة الفلسطينية وتم دعم مشاغل في الداخل المحتل، في غزة، والضفة، لتصنيع هذه الصواريخ، ونقل كل تجربة المقاومة الاسلامية في لبنان في صناعة العبوات وتكتيكات القتال.

أشرف الحاج قاسم على انتاج أكثر من سبعين فيلمًا عن التدريب، والكمائن، واستخدام الأسلحة الثقيلة، والخفيفة، وصناعة العبوات، والخطط العسكرية. فيها كل التفاصيل الدقيقة، وكل ما يخطر على بال مقاتل، وصولًا الى صناعة أجهزة التفجير عن بعد وتصنيع، العبوات بكل أنواعها، والمواد المتفجرة، وطرق التفجير بالتفصيل الدقيق المدروس من قبل اختصاصيين أكفاء.

لم يكن يسأل الحاج قاسم عن التعب والجهد والتكاليف، كان يسأل فقط عن النتائج، في عينه وباله النتائج فقط. كل هذا الجهد أثمر اهتزازاً في الكيان بكل أركانه تحت ضغط العمليات قتلا وجرحا وارباكًاُ واعترافا بأن خسائره بسبب المقاومة الفلسطينية فاقت الـ 1700 قتيل اسرائيلي وأكثر من 7500 جريح.

أراد العدو الاسرائيلي من خلال انسحابه من غزة التخلص مما تسببه من خسائر واستنزاف، واذ بها تتحول أعقد مشكلة للاحتلال،. ولاحقًا استمرت الحرب عام 2008 التي أراد الاحتلال منها القضاء على المقاومة 42 يومًا دون أن يحقق أيًا من أهدافه. وبعدها قامت الحرب الثانية والثالثة على غزة 2012 و2014 ولم يستطع كيان العدو تحقيق أهدافه في كسر المقاومة أو اضعاف قدراتها، بل إن قدرات المقاومة في غزة استمرت في النمو والتعاظم حتى أصبحت قادرة على تصنيع الصواريخ لمدى تجاوز الـ 120 كلم. غزة التي تبلغ مساحتها 376 كلم، قصفت “تل أبيب” ثلاث مرات في عام واحد، واستطاعت في ثلاثة حروب أن تهزم الجيش الذي لا يقهر.

كان الحاج قاسم سليماني يتابع كل التفاصيل، كل صغيرة وكبيرة، متابعة دقيقة مستمرة، حتى أنه كان يلتقي بمجموعات صغيرة، ويذهب الى معسكرات التدريب، والى المسؤولين في المقاومة في منازلهم ويدعو من يستطيع منهم لزيارة ايران، وقد ذهب العديد من المتدربين والمسؤولين الى ايران. يلخص القائد الجهادي نهج الحاج قاسم في فلسطين بالقول “أكثر ميزات الحاج قاسم وضوحًا هي شمولية عدائه، دائرة عدائه التي شملت كل المعادين لـ”اسرائيل” وأمريكا، كل من آمن بمظلومية القدس دون التفات لأي شيء آخر، فلسطين وقدسها فقط هي المعيار وهي المركز”.

العراق.. بين العسكر والسياسية
لم يكن الميدان العراقي عابرًا في حسابات سليماني، لا سيّما مع ارتباطه الحدودي والتاريخي مع الجمهورية الاسلامية الايرانية. ومع الاحتلال الأميركي للعراق، فعّل الحاج قاسم نشاطه مع عدد من العراقيين في ايران، ثم بدأ التواصل مع أي جبهة يمكنها العمل ضد الاحتلال الأمريكي، بنفس الزخم والطريقة والاندفاع الذي كان مع المقاومة في لبنان وفلسطين.

صنع القائد سليماني شبكة اتصالات في كل المحافظات العراقية مع شخصيات وقادة، إضافة الى الفصائل الموجودة وقتها، وتعامل مع هؤلاء وسواهم، وامتد نشاطه وتشعب ليصل الى كل مؤمن بمقاومة الاحتلال الامريكي.

منذ الأسبوع الأول للاحتلال الأميركي، وقبل سقوط بغداد بدأ المد والعون في التدريب والسلاح والمال يتفاعل ويزداد، كان داعمًا للمقاومة العراقية في وجه المحتل في شتى المجالات، حتى وصل الأمر بالمحتل الأمريكي الى تمني الانسحاب بأقل الخسائر. بمساعدة الحاج قاسم وصلت المقاومة العراقية الى قدرات عالية حتى في تصنيع الصواريخ، ورغم كل الظروف الصعبة أيام الاحتلال الأمريكي، كان يرسل كوادر ومدربين من خارج العراق لنقل الخبرة والتجربة، وهذه الكوادر كانت تبقى هناك لتتابع وتساعد وتشارك بالقدر الممكن، وتتوزع على المناطق والمجموعات حتى اندحر الاحتلال الأمريكي مهزومًا، ثم أتى الهجوم التكفيري، وسيطر على أجزاء كبيرة من الاراضي العراقية فجأة ودفعة واحدة.

حضور مباشر في الميدان
يروي القائد الجهادي المرافق دومًا للحاج قاسم لـ”العهد” أنه “بمجرد اعلان سقوط بعض المحافظات العراقية أمام الغزو التكفيري، حضر الحاج قاسم بنفسه مباشرة، تمامًا كعادته وكما كان يفعل مع المقاومة في لبنان وفلسطين، حيث لا يكتفي بطلب تقارير أو اتصالات أو انتظار مستجدات، منذ البداية ذهب الى العراق بمفرده وبدأ بنفسه مع من يعرفهم من كوادر، ويبحث معهم عمن هو في جهوزية، أو مستعد ليكون في جهوزية، يدور بسيارته من محافظة الى أخرى وشكل المجموعات والخلايا الأولى، ثم جاءت فتوى المرجعية ليصبح العمل ضخمًا واسعًا يحتاج الى أضعاف مضاعفة من الجهود”.

مبيت تحت الجدران المهدمة
كان سليماني كما في كل الميادين، حاضرًا في الجبهة، على الأرض وبين المقاتلين، وفي التسليح والتخطيط لعدد كبير جدًا من الفصائل، وحاضر كذلك في التنفيذ حتى على الخط الاول في الجبهة، حاضر في الاستطلاع عند المناطق الخطرة بنفسه. يقول القائد الجهادي “كان يطلب تنفيذ أمر، ويقول للعاملين أريده غدًا، لكنه لا يكتفي بالطلب، بل من وقتها حتى اليوم التالي يتصل مرارًا ليتأكد من سير العمل المطلوب والحث عليه، حتى وان كانت لديه معلومات بأن العمل سيتم، ورغم أن الحاج قاسم وقتها قد بدأ يبرز في الاعلام المصور، وأصبح معروفًا، ومعروفًا مركز نشاطه وأهميته والخطر يحيط به من كل اتجاه، الا أنه كان مجازفًا الى حد بعيد، في الاقتراب والمشاركة في الجبهة أو في حضوره مع الأعداد الضخمة وانخراطه معهم، يتواجد مثلًا ضمن أربعة أو خمسة آلاف مقاتل بكل أسلحتهم الثقيلة والخفيفة ساعات متواصلة، ويقترب الجميع منه بأسلحتهم ليأخذوا صورًا، يتحدث مع الجميع صغيرًا وكبيرًا، كان يفتح معهم أحاديث اجتماعية ونصائح، ويسأل عن أحوال من حوله ويمازحهم ويجلس معهم على التراب”.

آلاف الرجال كان القائد سليماني يتواجد بينهم بتواضعه الملفت وهم مسلحون بالذخيرة، دون معلومات تفصيلية أو بحث جاد عن وضعهم وخلفياتهم. يشهد الميدان على مبيت قائد قوة القدس في الخيام على الجبهات أو في غرف دمرتها الحرب، تحت الجدران المتداعية، في منطقة معرضة للقصف، في الهجومات الكبيرة يتواجد مع العناصر حاملًا جهازه، مناديًا “أين أصبحت؟ لماذا تأخرت؟ ماذا فعلت؟ ماذا تحتاج؟ ما هي مشكلتك؟ عندما تنتهي اكمل في هذا الاتجاه! نسق مع فلان واذهب مع فلان الى المكان الفلاني”. وعشرات الأصوات والضجيج بقربه، يقاطعه من حوله، فهذا يريد آليات وذاك يسعى وراء ذخائر، وآخر يحتاج الى سلاح، وغيره الى مال، وبعضٌ يعترض على موقعه وآخر على عديده.. كل هذه التفاصيل كان الحاج قاسم يتابعها بدقة دون اهمال تفصيل أو طلب كبيراً كان أو صغيرًا.

بين الحرب.. والسياسة
الى جانب الدور العسكري، كان للحاج قاسم حركته السياسية أيضًا، فتابع الشخصيات وأحزابها والمسؤولين رؤساء ونوابًا ووزراء. كان ينتقل بالسيارة من مكان الى آخر.. أي منطقة تحتاج الحاج قاسم كان يتواجد فيها.. أي منطقة تواجه مشكلة كان الحاج قاسم يحضر اليها، وما أسرع ما كان ينتقل من مكان الى آخر، على خط التماس، دون أي تحفظ أو حماية خاصة به. كانت الشخصيات تأتي الحاج قاسم بمواكب مرعبة بعشرات السيارات مع عدد ضخم من الحماية المسلحة، أما هو فكان يحضر بسيارته وسيارة أخرى فيها مساعدوه، وغالبًا ما يكون خارج السيارة وبلا حماية.

انتهت الحرب التكفيرية، وبردت الجبهات، وبقي الحاج قاسم يتابع تلك العملية السياسية الشاقة التي قد تكون من أصعب ما تابعه الحاج قاسم بحسب القائد الجهادي، فهي “أصعب من الميدان على خطورته، كان سعيه الحثيث المتواصل من أجل التوافق السياسي ولم الشمل والتهدئة، والمصالحات وجمع الجهود، وحل المشاكل العالقة بين الأحزاب والأطراف والشخصيات السياسية، وكان اضافة الى ذلك، يتابع بكل ما يستطيع حاجات الناس الاجتماعية.. يساعد على تخطي الفقر والعوز وحل مشاكل الناس الحياتية ما استطاع الى ذلك سبيلاً”.

حكاية الأسطورة.. من كرمان الى فلسطين

كان الحاج قاسم يتنقل في ليلة واحدة على أجنحة المحور، من العراق والى سوريا ولبنان فالعكس. لم يكن يهدأ، حتى أن بعض اجتماعاته كان يعقدها في الطائرة، أو المطار توفيرًا للوقت.

بين العمل المسلح والعمل الثقافي
في العمل المسلح كان الحاج قاسم رائدًا، وفي العمل الثقافي والفكري كذلك. كان جامعًا ورائدًا من رواد الوحدة، يرفض بشكل مطلق وحاسم كل حديث عن المذهبية أو الانتماء الفكري، اطار حديثه الوحيد هو صحوة الشعوب، ومقاومتها للهيمنة الاستكبارية، وحول هذا القاسم المشترك جمع كل الجهود والامكانات. وخلال سنوات ما سمي بـ”الربيع العربي”، شكل الحاج قاسم لجانًا من كل دول العالم العربي، في علاقات امتدت وتشابكت وتوسعت لتشمل كل المحبين والعاملين في المقاومة، وعقد مؤتمرات الصحوة وتابع تفاصيلها، وكان أغلب المدعوين هم من الشخصيات التي اختارها لواء القدس.

وتقاطرت مئات الوفود التي تشكلت من العالمين العربي والاسلامي الى طهران، ليتابعها الحاج قاسم بشكل دائم كما يتابع كل حركات التحرر بغض النظر عن الانتماء والهوية.

وفي مجال الاعلام، كان سليماني ناشطًا أيضًا، فعمل على مساعدة قوى التحرر ليكون لها اعلامها الفضائي والالكتروني وأسس لذلك أكثر من 150 مؤسسة إعلامية، وشكل لجانًا وجمعيات على مستوى عالمي لأجل حقوق الانسان رغم صعوبة هذا الأمر، دون أن تكون موالية للغرب وأمريكا. وعمل على المستوى الانساني، في الدعم الاجتماعي، ومساعدة الطبقات المسحوقة، وتقديم مساعدات عينية واجتماعية. كما ساعد من الناحية الصحية في انشاء مراكز صحية وأخذ العديد من الجرحى من كل أماكن الصراع الى ايران، وهناك، كان القائد الانساني يزورهم ويتفقدهم في المستشفيات ويتابع حالتهم الصحية.

أبدع الحاج قاسم في استحداث مدرسة جديدة، اعتمد فيها على حركة الشعوب، وأثار في وجه الأعداء محاور تهديد جديدة، فرفع مستوى العداء والتحدي والصراع مع الأميركيين.

المشهد الأخير..
الاستثناء في العسكر والتخطيط ينسحب كذلك على البعد الروحاني. يقول رفيق جهاده إن روحيّة الحاج قاسم قريبة جدًّا من روحية الشهيد السيد عباس الموسوي، فكلاهما بالنسبة اليه ليسا من “أهل الأرض.. بل من أهل السماء”.

“دام رعبك” عبارة كانت تسبق الحاج قاسم حيث يحضر في الميدان لتطال قلوب الأعداء فتتصدّع خوفًا، هذه الهيبة سرعان ما كانت تتبدل الى رحمة وود شديدين في التعامل مع المجاهدين، وعند ذكر الشهداء، كانت الدموع تتسابق الى عينيه. كان الحاج قاسم شديد التعلق بالامام الحسين(ع)، وفي أوقات الفراغ يطلب الى أحد العلماء أن يحدثه عن الإمام(ع) أو أن يقرأ بيتًا من العزاء. برنامجه الايماني كان رغم المشاغل الجمّة مليئًا بالأدعية بين الصلوات وتلاوة القرآن، وكانت له تسبيحات خاصة، كأن يواظب مثلًا على قراءة سورة “التوحيد” 250 مرّة في اليوم.

الأسطورة الذي عايش الخطر وتآلف معه، لم يكن يلتفت اليه ولا يهابه. في آخر أيامه، تحديدًا نهار السبت الذي سبق الاغتيال الآثم، كان التعب الشديد باديًا على الحاج قاسم، لدرجة أن مقربين منه حاولوا اقناعه بالذهاب الى المستشفى أو القبول باحضار طبيب، لكنه امتتنع عن ذلك. وبكلمات ملؤها الحسرة، قال: “يبدو أن مائدة الامام الحسين(ع) قد اكتملت.. وما إلنا نصيب”.

في رسالته الى ابنته فاطمة، يحاكي #قاسم_سليماني موته كعاشق أرهقه الهوى: “يا عزيزي، يا جميلي، أين أنت، فأنا مشتاق للقائك”، ثم ينتقل لوصف غيابه الأخير وكأنه يكتب سيناريو المشهد “عندما يتمّ تفجيري، يتمّ إزالة وجودي بشكل كامل، يتحوّل وجودي إلى دخان ويحترق.. كم هو جميل هذا المشهد! كم أحب هذه اللحظة! فبذل الروح في سبيل الحب جميل جداً”. هو طريق الحب اذًا، مشى عليه الحاج قاسم ووصل، وترك لملايين الوالهين خلفه صورة توغل في القلب حرقة وحسرة.. فكفّه المقطوعة في أرض العراق تختصر حكاية الأسطورة من كرمان.. الى فلسطين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى