أحدث الأخبارالإسلاميةفلسطين

حكم الإسلام في قضية فلسطين

دكتور عبدالفتاح عبدالباقي

«اجتمعت لجنة الفتوى بالجامع الأزهر في يوم الأحد 18 جمادي الأولى سنة 1375 الموافق (أول يناير سنة 1956) برياسة السيد صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسنين محمد مخلوف عضو جماعة كبار العلماء ومفتي الديار المصرية سابقاً وعضوية السادة أصحاب الفضيلة الشيخ عيسى منون عضو جماعة كبار العلماء وشيخ كلية الشريعة سابقاً (الشافعي المذهب) والشيخ محمود شلتوت عضو جماعة حبار العلماء (الحنفي المذهب) والشيخ محمد الطنيخي عضو جماعة كبار العلماء ومدير الوعظ والإرشاد (المالكي المذهب) والشيخ محمد عبد اللطيف السبكي عضو جماعة كبار العلماء ومدير التفتيش بالأزهر (الحنبلي المذهب) وبحضور الشيخ زكريا البري أمين الفتوى.
ونظرت في الاستفتاء الآتي وأصدرت فتواها التالية:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد _ فقد اطلعت لجنة الفتوى بالأزهر الشريف على الاستفتاء المقدم إليها عن حكم الشريعة الإسلامية في إبرام الصلح مع إسرائيل التي اغتصبت فلسطين من أهلها، أخرجتهم من ديارهم، وشردتهم نساء وأطفالاً وشيباً وشباباً في آفاق الأرض، واستلبت أموالهم، واقترفت افظع الآثام في أماكن العبادة والآثار والمشاهد الإسلامية المقدسة، *وعن حكم التواد والتعاون مع دول الاستعمار التي ناصرتها وتناصرها في هذا العدوان الأثيم، وأمدتها بالعون السياسي والمادي لإقامتها دولة يهودية في هذا القطر الإسلامي بين دول الإسلام
*، وعن حكم الأحلاف التي تدعو إليها دول الاستعمار، والتي من مراميها تمكين إسرائيل من البقاء في ارض فلسطين لتنفيذ السياسة الإستعمارية،
*وعن واجب المسلمين حيال فلسطين وردها إلى أهلها، وحيال المشروعات التي تحاول إسرائيل ومن ورائها دول الاستعمار أن توسع بها رقعتها وتستجلب بها المهاجرين إليها، وفي ذلك تركيز لكيانها، وتقوية لسلطانها، مما يضيق الخناق على جيرانها، ويزيد في تهديدها لهم، ويهيئ القضاء عليهم.
وتفيد اللجنة
* أن الصلح مع إسرائيل _ كما يريده الداعون إليه _ لا يجوز شرعاً، لما له من إقرار الغاصب على الاستمرار في غصبه، والاعتراف بأحقية يده على ما اغتصبه، وتمكين المعتدي من البقاء على عدوانه.
*وقد أجمعت الشرائع السماوية والوضعية على حرمة الغصب ووجوب رد المغصوب إلى أهله، وحثت صاحب الحق على الدفاع والمطالبة بحقه.
*ففي الحديث الشريف: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد»
*وفي حديث آخر: «على اليد ما أخذت حتى ترد».
* فلا يجوز للمسلمين أن يصالحوا هؤلاء اليهود الذين اغتصبوا ارض فلسطين، واعتدوا فيها على أهلها وعلى أموالهم: على أي وجه يمكن اليهود من البقاء كدولة في أرض هذه البلاد الإسلامية المقدسة
*، بل يجب عليهم أن يتعاونوا جميعاً على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأجناسهم لرد هذه البلاد إلى أهلها،
* وصيانة المسجد الأقصى مهبط الوحي ومصلي الأنبياء الذي بارك الله حوله،
*وصيانة الآثار والمشاهد الإسلامية، من أيدي هؤلاء الغاصبين،
* وان يعينوا المجاهدين بالسلاح وسائر القوى على الجهاد في هذا السبيل،
*وان يبذلوا فيه كل ما يستطيعون، حتى تطهر البلاد من آثار هؤلاء الطغاة المعتدين،
*قال تعالى: (واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم).
*ومن قصر في ذلك، أو فرط فيه، أو خذل المسلمين عنه، أو دعا إلى ما من شأنه تفريق الكلمة وتشتيت الشمل والتمكين لدول الاستعمار والصهيونية من تنفيذ خططهم ضد العرب والإسلام وضد هذا القطر العربي الإسلامي
*، فهو _ في حكم الإسلام _ مفارق جماعة المسلمين، ومقترف لأعظم الآثام.
* كيف ويعلم الناس جميعاً أن اليهود يكيدون للإسلام أهله ودياره اشد الكيد، منذ عهد الرسالة إلى الآن؟!
*وانهم يعتزمون ألاّ يقفوا عند حد الاعتداء على فلسطين والمسجد الأقصى،
* وإنما تمتد خططهم المدبرة إلى امتلاك البلاد الإسلامية الواقعة بين نهري النيل والفرات.
*وإذا كان المسلمون جميعاً _ في الوضع الإسلامي _ وحدة لا تتجزأ بالنسبة إلى الدفاع عن بيضة الإسلام،
* فان الواجب شرعاً أن تجتمع كلمتهم لدرء هذا الخطر والدفاع عن البلاد واستنقاذها من أيدي الغاصبين
* قال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)،
* وقال تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بان لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن اوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم)
*وقال تعالى: (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً).
*وأما التعاون مع الدول التي تشد أزر هذه الفئة الباغية، وتمدها بالمال والعتاد، وتمكن لها من البقاء في هذه الديار، فهو غير جائز شرعاً،
* لما فيه من الإعانة لها على هذا البغي والمناصرة لها في موقفها العدائي ضد الإسلام ودياره
*. قال تعالى: (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون)
وقال تعالى: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم، أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون).*
*وقد جمع الله _ سبحانه _ في آية واحدة جميع ما يتخيله الإنسان من دوافع الحرص على قراباته وصلاته وعلى تجارته التي يخشى كسادها بمقاطعة الأعداء، وحذر المؤمنين من التأثر بشئ من ذلك واتخاذه سبباً لموالاتهم
*فقال تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها احب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين).
ولا ريب أن مظاهرة الأعداء وموادتهم يستوي فيها إمدادهم بما يقوي جانبهم ويثبت أقدامهم بالرأي والفكرة، وبالسلاح والقوة: سراً وعلانية، مباشرة وغير مباشرة. وكل ذلك مما يحرم على المسلم مهما تخيل من أعذار ومبررات.
*ومن ذلك يعلم أن هذه الأحلاف _ التي تدعو إليها الدول الاستعمارية، وتعمل جاهدة لعقدها بين الدول الإسلامية، ابتغاء الفتنة، وتفريق الكلمة،
* والتمكين لها في البلاد الإسلامية، والمضي في تنفيذ سياستها حيال شعوبها _
*لا يجوز لأية دولة إسلامية أن تستجيب لها وتشترك فيها، لما في ذلك من الخطر العظيم على البلاد الإسلامية، وبخاصة فلسطين الشهيدة التي سلمتها هذه الدول الاستعمارية إلى الصهيونية الباغية نكاية في الإسلام
*وأهله وسعياً لإيجاد دولة لها وسط البلاد الإسلامية، لتكون تكأة لها في تنفيذ مآربها الإستعمارية الضارة بالمسلمين في أنفسهم وأموالهم وديارهم،
* وهي في الوقت نفسه من أقوى مظاهر الموالاة المنهي عنها شرعاً والتي قال الله تعالى فيها: (ومن يتولهم منكم فانه منهم)
*. وقد أشار القرآن الكريم إلى أن موالاة الأعداء إنما تنشأ عن مرض في القلوب يدفع أصحابها إلى هذه الذلة التي تظهر بموالاة الأعداء فقال تعالى: (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحا على ما اسروا في أنفسهم نادمين).
*وكذلك يحرم شرعاً على المسلمين أن يمكنوا إسرائيل _ ومن ورائها الدول الاستعمارية التي كفلت لها الحماية والبقاء _ من تنفيذ تلك المشروعات التي لا يراد بها إلاّ ازدهار دولة اليهود وبقاؤها في رغد من العيش وخصوبة في الأرض،
* حتى تعيش كدولة تناوئ العرب والإسلام في اعز دياره، وتفسد في البلاد اشد الفساد، وتكيد للمسلمين في أقطارهم، ويجب على المسلمين أن يحولوا بكل قوة دون تنفيذها، ويقفوا صفاً واحداً في الدفاع عن حوزة الإسلام، وفي إحباط هذه المؤامرات الخبيثة التي من أولها هذه المشروعات الضارة. ومن قصر في ذلك أو ساعد على تنفيذها أو وقف موقفاً سلبياً منها، فقد ارتكب إثماً عظيماً.
*وعلى المسلمين أن ينهجوا نهج الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقتدوا به _ وهو القدوة الحسنة _ في موقفه من أهل مكة وطغيانهم بعد أن أخرجوه ومعه أصحابه _ رضوان الله عليه _ من ديارهم، وحالوا بينهم وبين أموالهم وإقامة شعائرهم، ودنسوا البيت الحرام بعبادة الأوثان والأصنام،
* فقد أمره الله تعالى أن يعد العدة لإنقاذ حرمه من أيدي المعتدين، وان يضيق عليهم سبل الحياة التي بها يستظهرون، فاخذ عليه الصلاة والسلام يضيق عليهم في اقتصادياتهم التي عليها يعتمدون، حتى نشب بينه وبينهم الحروب،
* واستمرت رحا القتال بين جيش الهدى وجيوش الضلال، وحتى أتم الله عليه النعمة، وفتح على يديه مكة، وقد كانت معقل المشركين، فأنقذ المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، وطهر بيته الحرام من رجس الأوثان، وقلم أظافر الشرك والطغيان.
*وما أشبه الاعتداء بالاعتداء، مع فارق لابد من رعايته، وهو أن مكة كان بلداً مشتركاً بين المؤمنين والمشركين، ووطنا لهم أتجمعين، *بخلاف ارض فلسطين، فإنها ملك للمسلمين، وليس لليهود فيها حكم ولا دولة،
*ومع ذلك أبى الله تعالى إلاّ أن يظهر في مكة الحق ويخذل الباطل ويردها إلى المؤمنين، ويقمع الشرك فيها والمشركين، فأمر سبحانه وتعالى نبيه _ صلى الله عليه وسلم _ يقتال المعتدين. فقال تعالى: (واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم). والله سبحانه وتعالى نبيه المسلمين على رد الاعتداء بقوله تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم).
*ومن مبادئ الإسلام محاربة كل منكر يضر العباد والبلاد، وإذا كانت إزالته واجبة في كل حال، فهي في حالة هذا العدوان أوجب والزم، *فان هؤلاء المعتدين لم يقف اعتداؤهم عند إخراج المسلمين من ديارهم وسلب أموالهم وتشريدهم في البلاد، بل تجاوز ذلك إلى أمور تقدسها الأديان السماوية كلها وهي:
* احترام المساجد وأماكن العبادة.
*وقد جاء في ذلك قوله تعالى: (ومن اظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلاّ خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم).
و*أما بعد *
* فهذا هو حكم الإسلام في قضية فلسطين، وفي شأن إسرائيل والمناصرين لها من دول الاستعمار وغيرها، وفيما تريده إسرائيل ومناصروها من مشروعات ترفع من شأنها وفيواجب المسلمين حيال ذلك، تبينه لجنة الفتوى بالأزهر الشريف، وتهيب بالمسلمين عامة أن يعتصموا بحبل الله المتين، وان ينهضوا بما يحقق لهم العزة والكرامة وان يقدروا عواقب الوهن أو الاستكانة أمام اعتداء الباغين، وتدبير الكائدين، وان يجمعوا أمرهم على القيام بحق الله تعالى وحق الأجيال المقبلة في ذلك، إعزازاً لدين القويم.
نسأل الله تعالى أن يثبت قلوبهم على الإيمان به، وعلى نصرة دينه، وعلى العمل بما يرضيه. والله اعلم.
*في سنة 1964
قرارات وتوصيات المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامية
وقد قرر المؤتمر:
«إن الإستعمار وأعوانه _ سواء في البلاد التي لم تزل ترزح تحت نيرة أو في البلاد التي جلا عنها آثاره _ هو الخطر الأول الذي يجب على المسلمين _ أفراداً وجماعات ودولاً _ أن يجاهدوا بالمقاومة الجادة المستمرة، حتى يتم تحرير المسلم قلباً وضميراً ووطناً ومعرفة، وان كل تقصير في مقاومة ذلك العدو هو عصيان لله تعالى وإثم كبير، لأنه يقوى يد العدو على إنزال الأذى بالملايين من المسلمين، فهو جهاد متعلق بحق الله وحق الملايين لا بذات الآثم.
وان الصهيونية التي يحاول الإستعمار _ بعد أن تحطمت أسبابه الظاهرة _ أن يغلب بها أهدافه تحت ستار جديد ي دار استعماري خبيث، يستهدف به الإستعمار أن يتمكن بآثاره في حياة المسلمين وتستمر سيطرته عليهم، ومن ثمة كانت مجاهدتها فرضاً كذلك على كل مسلم حيثما كان، وكل تخلف عن ذلك عصيان له تعالى وإثم كبير»
المراجع:
* مجلة الأزهر: المجلد السابع والعشرون، سنة 1955، ص ص 327 _ 328.
*مجلة الأزهر: المجلد السابع والعشرون، سنة 1955، 1956، ص ص 682 _ 686.
* مجمع البحوث الإسلامية: قرارات وتوصيات المؤتمرات السابقة من الاول الى التاسع، ص 7.وص 15 _ 16.
(دكتور عبدالفتاح عبد الباقى )
طبيب مصرى القاهرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى