أحدث الأخبارالعراقمحور المقاومة

حول تظاهرات السليمانية هل ينتصر المركب على العاصفة ؟؟

مجلة تحليلات العصر الدولية

“كاكا قل بدأت مو انتهت ” هكذا أجاب سائق التاكسي الشاب وهو يبتسم ،حين سألته ان كانت مظاهرات السليمانية قد انتهت .
كان سروره واضحاً في تأييده للتظاهرات ، وعلى الرغم من ان أهالي السليمانية عموماً ،يميلون الى الهدوء والدماثة ، الا ان مقولة الغفاري ” عجبتُ لمن لايجد الخبز في بيته ولايخرج للناس شاهراً سيفه ” قد وجدت بعض مصداق لها هنا .
“الاتحاد الوطني الكوردستاني ” الكتلة السياسية ذات البعد الاجتماعي ،الذي طالما كانت له السطوة والنفوذ – في السليمانية بشكل خاص – عانى كما كل الأحزاب والحركات السياسية ذات البعد الواحد – أي تلك التي تعتمد على شخصية محورية ،تهيمن على القرار في ذلك التنظيم ،وتحافظ على وحدته في الوقت عينه .
مام جلال الطالباني ، كان قد رفض اجهاض الحركة الكوردية بعد اتفاقية الجزائر مع نظام صدام حسين عام 1975 ، ومن ثم قام بانشاء الاتحاد الوطني الكوردستاني ، الذي استإنف نشاطه السياسي والعسكري بدءاً من ذلك العام ، ليصبح ثاني أكبر قوة في كوردستان العراق بعد الحزب الديمقراطي بقيادة البارزاني .
الحركة الكوردية التي بلغت ذروة اهدافها بعد الغزو الأمريكي ، فقد منحه الدستور الجديد المصادق عليه باستفتاء شعبي عام 2005 ، صلاحيات (الثلث المُعطل) بعد أن منحت فيه 3 محافظات ،حقّ الرفض لأية تعديلات على مواده .
ثم جاء استفتاء (حقّ تقريرالمصير )عام 2017 – في ذروة قتال القوات العراقية ضد تنظيم داعش – ليبدو تتويجاً لقوة تتنامى باستمرار حققتها القيادات الكوردية ، لكن ذلك الاستفتاء ،كان قد دخل الحسابات الخاطئة ،وجاء في الأوقات الحرجة ،فكان بداية انحسار لا ازدهار.
سنوات طويلة من الاستقرار والاستقلال توفرت للقيادات الكوردية بحماية دولية ، كان بامكانهم بناء ركائز ومعالم (القومية) وتوحيد المجتمعات الكوردية – في كوردستان العراق – الا ان ” عملية بناء مجتمع مشترك في كردستان العراق قد فشلت ” على حدّ تعبير الباحث الكوردي مصلح ارفاني .
مرّد ذلك ” الفشل” ليس الى مافعلته طموحات القيادات الكوردية وحسب ، بل الى الطبيعة المجتمعية ذاتها ، فالقيادات الكوردية فعلت أقصى مايمكن فعله لتوحيد تلك المجتمعات ،بما فيها خلق ذاكرة جمعية وتاريخ موّحد ،لاثبات عمق الجذور المشتركة ، بين السكّان في مختلف مناطق كردستان العراق ،ومن ثم الانطلاق نحو بناء كردستان الكبرى ، وقد ذهب مؤرخوهم مذاهب شتى في محاولات اثبات عراقة جذور الكورد في الحضارة الرافدينية ، وصولاً الى سومر وأكد وبابل ، درجة القول بأن الكثير من ملوك تلك الحضارة ،هم كورد – كسرجون الأكدي وأور نمّو وحمورابي وغيرهم ،وفي مرحلة زمنية بالغة الدقّة ، بدا ان ” الحلم الكوردي ” حقق نجاحاً في مجالات كثيرة – سياسية واجتماعية وثقافية معاً.
في ذروة تلك النشوة والإطمئنان ،لم تنتبه القيادات الكوردية الى طبيعة التفاعلات التي كانت تجري داخل المجتمعات الكوردية ذاتها ، فالشعارات القومية استهلكت نفسها ،ولم تحقق ماكان يصبو اليه المواطن الكوردي ،رغم انه تشرّبها ورددها وآمن بها طوال عقود ، لكن التفاوت برز بصورة ازدادت تدريجياً كلما ارتفعت وتيرة الشعارات ،كانت القيادات في مكان مرتفع جداً ،والشعب الذي طالما كان الضحية لتلك الطموحات ، ازداد معاناة ، ثم تطور تلاشي الاحلام (القومية ) فوصلت الأمور (اللحم الحيّ) الى القوت الأساس لجموع الموظفين .
السليمانية المعروفة بانفتاحها وممارستها الديمقراطية ،كانت قد تعودت وجود حركات سياسية وتيارات شبابية ،تعمل في المدينة دون عوائق تُذكر ، ما شكّل حركة وعي ،اختلفت في طروحاتها وتوجهاتها ،عمّا رسمته وسارت على نهجه القيادات التقليدية داخل الاتحاد الوطني الكوردستاني ، الذي تحول الى أجنحة وتوجهات بعد رحيل رمزه ومؤسسه مام جلال ،كان معظم قيادات تلك الأجنحة قد ابتعدت بنسبة ما ،عن طروحات البارزاني المتشددة ، وكان مام جلال قد أرسى معالم (تقرير المصير) بقوله :” لقد حصل الكورد على حقّ تقرير المصير فعلاً بعد تصويتهم على الدستور العراقي ” ، وفي وقت تجنبت فيه قيادة الاتحاد والقوات التابعة لها ، الصدام مع القوات العراقية في كركوك ، فقد اعتبرها البارزاني وأركان حزبه ،بأنها ترتقي الى مستوى الخيانة .
لكن قيادات الاتحاد ،عجزت عن توفير مستلزمات مواطنيها ،بعيداً عما تقرره أربيل ، وبدت دون قدرة على اتخاذ قرار ، ذلك ما أشعل غضباً في مواطني السليمانية ، الذين شهدوا مناورات لا مبرر حقيقي لها ، فقدوا ,ليس فقط حقوقهم التي ينبغي توفيرها من حكومة تديرهم منذ زمن طويل ،بل حتى قوت عوائلهم ،أي مرتباتهم الشهرية ولأشهر ،وان حدث وقبضوها عن شهر أو اثنين ،تأتي بخصم كبير .
ذلك حدث تراجيدي يحتاج الى دراسات وبحوث معمقة ، انطلاقاً من سؤال رئيس : كيف تراجع مابناه الخطاب المتشدد والوعود بجنّة (قومية كوردية) في ظل استقلال ناجز ؟ كيف ينحسر الخطاب القومي وينتصر الصمت الحكومي ؟؟ هل باتت “القوميات ” حالة متقادمة في مجتمعات تتغير نحو مفاهيم أخرى ركيزتها الأساس ” العيش الآمن ” ؟
هل تستطيع الأحزاب والحركات الآيديلوجية ،أن تحدّث من خطابها وتوجهاتها ،وتدرس بعمق مستقبلها على ضوء تجاربها ؟؟
كيف ستجيب عن السبب الذي جعل الكثير من مواطني الاقليم ، يريدون الارتباط ببغداد ، ولم يعد شعار “تقرير المصير ” يعنيهم ؟ فقد بات تقرير المصير يعود مرة أخرى الى بغداد التي اتبعت بدورها استراتيجية (الصبر الاستراتيجي ) سواء بتخطيط أم بدفع الظروف .
تقرير المصير أصبح يتعلق بالاطمئنان المعيشي ، والحياة الآمنة – بعيدا عن ضخامة الشعارات ومداعبة العواطف ،فتلك أصبحت بضاعة كاسدة كما بينت الأحداث الجارية , فما يقال عن تطور الاقليم هو حركة اعلام اكثر من كونه واقعا, فالكثير من الشباب يعانون من البطالة والخدمات ينقصها الكثير فلا كهرباء منتظمة ولا ماء متوفر واصبح كثيرون يتمنون لو انهم في مكان آخر.
الخلاصة : قد تتمكن السلطات في كردستان العراق ،من السيطرة على مفاعيل التظاهرات والحدّ من انتشارها ، لكن رسالتها قد وصلت الى مسامع المعنيين ،مفادها : لم تعد المراهنات والشعارات نافعة في ترويضهم ، لقد منحت تلك الشعارات أزمنة طويلة لتتحقق، لكنها لم تمنح شيئا يمكن الاستناد عليه ، وقد يكون هذا اشارة لبداية طريق آخر ، لايسير في ركاب تلك الاحزاب بالضرورة ، رغم معرفة المتظاهرين بأن تلك الأحزاب ستبقى ممسكة بزمام الأمور ، فطريق التغيير الجذري مازال عسيراً ، لكنهم قرعوا النواقيس المنذرة والمحذّرة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى