أحدث الأخبارشؤون آسيويةفلسطينمحور المقاومة

خطاب النصر وخطاب العويل في مقاومة الاستعمار الاستيطاني

مجلة تحليلات العصر الدولية - خالد الحروب

ثمة جدل مُستحق حول توصيف نتائج جولة الكفاح الأخيرة ضد إسرائيل ومشروعها الاحتلالي الاستيطاني. ثلاثة تقييمات ربما تُجمل هذا الجدل، أولها يقول بأن نصرا قد تحقق، وثانيها ينفي ذلك ويقول بأن حجم الأكلاف والشهداء والجرحى والدمار الذي وقع وخاصة على قطاع غزة وأهله لا يترك مكاناً لـ “نصر”، وثالثها، يتوسط الإثنين مُقرا بإنجاز كبير تحقق في الجانب الشعبي من المقاومة، لكن تم إحباطه أو على الأقل انتقاصه بسبب استخدام القوة العسكرية والصواريخ.

تعتمد هذه التقييمات، بإدراك أم بدونه، على طبيعة المنظور الذي تنطلق منه، إما منظور الصراع بين طرفين متكافئين أو شبه متكافئين، أو منظور مقاومة مشروع استعماري استيطاني طويل الأمد. الأول، صراع الطرفين، تسيد الخطاب السياسي العالمي والإقليمي والفلسطيني على الأقل منذ الاعتراف الرسمي بإسرائيل من قبل منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل وتخلي الأخيرة عن الكفاح المسلح. اندرجت قضية فلسطين في مسار “حل الصراعات” Conflict Resolution وهذا المسار ينظر للطرفين نظرة متساوية، ويطلب من كليهما تقديم “تنازلات” لتحقيق “حل” نهائي للصراع. الكلمة المفتاحية هنا هي “حل” وليست “إنهاء أو نزع الاستعمار”. صحيح أن معظم الذين انخرطوا في مسار “الحل” كانوا يقرون بوجود احتلال إسرائيلي، لكن هذا الاحتلال اقتصر على ما بعد الـ 1967، وحتى الإقرار به لم يترتب عليه اشتراط انسحاب المحتل كليا حتى من الجزء الذي أقر بأنه احتلال. كان وما زال على الفلسطينيين تقديم تنازلات للحفاظ المصالح الأمنية والسيادية للمحتل، إن أرادوا الحصول على ذلك الجزء منزوعة عنه سيادتهم. أنتج هذا المسار كما نعرف جميعا صناعة مزدهرة عالميا وإقليميا وفلسطينيا ونخبوياً استثمرت في “عملية السلام” التي تحتفل هذه السنة بمرور عقدها الثالث، وتحولت إلى سيرورة مستقلة بذاتها لا علاقة لها بما يحدث على الأرض من تكريس للاستعمار الصهيوني وتعميق لمشروعه ونهبه للأرض وسيطرته على السكان. اعتمدت “عملية السلام” جوهريا على فكرة الوصول لـ “حل الصراع” وأصبحت تمرينا سياسيا و”إبداعيا” الكل يحاول أن يطرح من أجله أفكارا “خلاقة” تقرب بين “الطرفين” وتشجعهما على “تقديم تنازلات مُتبادلة”. إسرائيليا واستعماريا، تمثلت عبقرية “عملية السلام”، وأوسلو منتجها الأكثر تدميرا، بكونها ظلت ترسم خطوطا جديدة يتم دفع “الحل” إلى خلفها، وتلتهم الحقوق الفلسطينية تباعا: بدأت نظريا بخط الهدنة سنة ١٩٤٩، ثم خط ١٩٥٦، ثم خط ١٩٦٧، ثم خط مدريد الذي أسقط حق العودة عمليا، ثم خطوط أوسلو وتصنيفات الأرض إلى ألف وباء وجيم، وبالتوازي مع ذلك كله خط ضم الكتل الاستيطانية وبعدها خط ضمن الأغوار الذي أصبح عنصرا أساسيا من عناصر “الحل”، وخط الاعتراف بيهودية الدولة، وهكذا. من ناحية عملية لم ينتج مسار “حل الصراعات” سوى المزيد من إزاحة الخطوط من قبل إسرائيل باتجاه التهام حقوق فلسطينية جديدة. وترافق مع ذلك وهم مُضلل يعتقد حاملوه بأنهم ينتقدون إسرائيل وهو القائل بأن إسرائيل لم تقدم شيئا للفلسطينيين بل تحافظ على الوضع القائم، بينما ليست هناك محافظة على وضع قائم إلا من طرف الرسمية الفلسطينية. إسرائيل ظلت تغير من الوضع القائم وتغيره لصالحها حتى وصلنا إلى صفقة القرن.

في مسار “حل الصراع” على الفلسطينيين أن يقنعوا العالم، وخاصة الغرب المنافق، بأنهم يستحقون ما يمكن أن تمنحهم إياه إسرائيل. عليهم أن يخضعوا لامتحانات حسن سلوك طويلة ودائمة تبدأ من حفظهم لأمن محتلهم ولا تنتهي بتغيير المناهج الدراسية لأبنائهم. في هذا المسار أيضا إسرائيل تمتلك كل أوراق القوة، أهمها جبروت عسكري متفوق يهزم كل جيوش الدول العربية مجتمعة يعتمد على دعم أمريكي يضمن بحسب قانون خاص “التفوق النوعي” للتسلح الإسرائيلي في المنطقة.

المنظور الثاني لا يلتزم بما حاولت “صناعة عملية السلام” فرضه على المشهد الفلسطيني والإقليمي، ويعيد الأمور إلى المربع الأول وإلى المفردات الأساسية والجذرية: هناك مشروع استعمار استيطاني متوحش وطويل المدى يُخضع شعبا وأرضا لإرادته القائمة على القوة والبطش، وهذا يفرض على الشعب الواقع تحت الاحتلال الانخراط في مشروع مقاومة طويل المدى متعدد الوسائل ومفتوح الأفق ولا يخضع لإعادة تعريف “الصراع” أو تثليم زواياه وحوافه الحادة لإعادة إنتاجه بشكل مقبول. ليس هناك طرفا صراع في فلسطين يتم التعامل معهما على قدم المساواة، بل هناك تراتبية قوة بين المُستعمِر والمُستعمَر. وفق هذا المنظور فإن مقاومة الاستعمار سيرورة طويلة وجولات متلاحقة وأكلافها باهظة. يتيح لنا هذا المنظور الخروج من اللحظة الآنية والضاغطة وحرارتها وحساباتها ومشاهدها وموضعة الجولة الأخيرة من الصراع ضمن السياق التاريخي العريض لمقاومة المشروع الاستعماري في فلسطين. لا يعني هذا بالطبع الهروب من مواجهة الأكلاف الكبيرة، ولا التقليل من حجم التضحيات أو استسهال الموت، لكنه يعني رؤية هذا كله ضمن الفعل التراكمي طويل الأمد للمقاومة. ولعل الاستئناس بحالات الاستعمار الأكثر بشاعة في العصر الحديث توفر لنا أفقا للمقارنة، فالجزائر على سبيل المثال خضعت للاستعمار الاستيطاني الفرنسي ما يقارب مائة وثلاثين عاما، دفع خلالها الجزائريون أكثر من مليون شهيد. والهند خضعت للاستعمار البريطاني لمدة قرنين من الزمان سقط خلالها في أقل التقديرات أكثر من ١١ مليونا. وفيتنام التي قاومت الاستعمار الأمريكي في السبعينيات دفعت أكلافا هائلة من دمار البلد فضلا عن استشهاد أكثر من مليون ونصف من الفيتناميين. وبطبيعة الحال لم تتحرر الجزائر في لحظة طفرية لم يسبقها فعل مقاومي وتراكمي بطيء ومُكلف، وفي مراحل طويلة لم تظهر في الأفق أي نهاية لذلك الاستعمار. لو حاولنا أن نعود بالزمن وأن نتخيل الشعب الجزائري ومقاوميه بعد مرور أربعين سنة مثلا على الاستعمار الفرنسي، وتساءلنا هل كان ثمة أفق للتخلص من فرنسا في تلك اللحظة؟ ماذا لو خضع الجزائريون ولم يقاوموا؟ لربما تحولت الجزائر إلى أستراليا أو نيوزلندا أو حتى أمريكا، حيث يفيض المستعمرون من وراء البحار ويمسحون الشعب الأصلي. حدث ويحدث هذا في التاريخ، ولا يوقفه إلا عناد الشعب الأصلي وإصراره على المقاومة.

إذا استدعينا هذين المنظورين: “حل الصراع” و”مقاومة وإنهاء الاستعمار” إلى النقاش فبإمكاننا تقييم انتفاضة القدس وسيفها بشكل أكثر وضوحا. القائلون بأن ما حدث شيء عدمي وخاصة استخدام القوة العسكرية والصواريخ ينشدون في معظمهم، وليس كلهم، بوعي أم بدونه إلى منظور حل الصراع. وهذا المنظور ينخرط في جدولة حساب أرباح وخسائر آنية، ويقارن عدد الشهداء هنا بعدد القتلى في صفوف العدو، ويقارن حجم الدمار وسوى ذلك. تبعا لهذه الحسابات نحن دائماً خاسرون لأن إسرائيل تتفوق علينا عسكريا بما لا يُقاس. لكن إذا وضعنا ما حدث في سياق تراكمي طويل المدى وربما لا نرى نتائجه الكلية أمامنا، فإننا ندرك أن تقييم هذه الجولة ومثل الجولات الانتفاضية والمقاومية السابقة لها يجب أن ينطلق من منظور أوسع يراكم الإنجازات. الانصياع للمنظور الآني اللحظي بشكل تام يقودنا إلى ما يمكن وصفه بـ “خطاب العويل” والذي يغرق في تعداد الخسائر ويواصل نوعا من اللطم الذي لا أفق له سوى المزيد من التنكيل الذاتي. مرة أخرى ليس هناك أي تقليل في حجم الأكلاف والشهداء والدمار، لكن في مشروع المقاومة الطويل للمُستعمر علينا أن نتبنى التعبير عن الألم بفروسية وليس بالعويل. كل قطرة دم أريقت وكل دمعة أم أو أخت أو زوجة أو طفلة أو طفل يجب أن ينظر لها بقداسة وعدم الاستهتار. ولا يمكن أخلاقيا لوم المكلومة أو المكلوم إذا انخرط في الألم والحزن والفقدان بكل أنواع التعبير، بما فيها العويل ذاته. لكن لا يمكن سياسيا وأخلاقيا القبول بأن يتبنى السياسيون والمثقفون وقادة الرأي العام “خطاب العويل”. هذا الخطاب يتوقف عند الندب ويغرق فيه. البديل عنه خطاب التعبير عن الألم بفروسية، الذي يظل يتطلع إلى الأمام. هنا نظل في مسار مقاومة المستعمر، نلملم الجراح ونسير خلف الجزائرين والفيتناميين وكل الشعوب التي انتصرت على مستعمريها.

في عشرينيات القرن الماضي كتب فلاديمير (لاحقاً زئييف) جابوتنسكي، مؤسس ما يُسمى بالصهيونية التصحيحية، مقالة أصبحت مشهورة لاحقا بعنوان “الجدار الحديدي”. جابوتنسكي كان عنصريا من عتاة الصهيونية اليمينية، ويؤمن بالتطهير العرقي والقوة الإبادية. مع ذلك فقد أقر في تلك المقالة بأن عرب فلسطين هم الشعب الأصيل في البلاد ولذلك فإنهم لن يقبلوا بالصهيونية ولا بمشروع إقامة وطن يهودي في فلسطين وسوف يقاومون بشراسة، كما يجب أن تقاوم كل الشعوب الأصلية. ولمواجهة مقاومة الفلسطينيين والعرب لا بد من بناء قوة كاسحة تطحنهم وتكون بمثابة جدار من الحديد لا يستطيعون اختراقه. سوف تستمر محاولاتهم لتحطيم الجدار إلى أن يستولي عليهم اليأس وعلى من يناصرهم بسبب قوتنا. عندها سوف يخضعون ويأتون مستسلمين ونفرض عليهم “السلام” بشروطنا. حدث هذا فعلا مع الدول العربية التي حاربت إسرائيل وهُزمت ثم أقامت معها سلاماً بحسب الشروط الإسرائيلية. حدث هذا فعلا في مدريد وفي أوسلو لاحقا. البقعة الوحيدة التي استعصت على الجدار الحديدي هي قطاع غزة ومقاومته. انتفاضة القدس وسيف القدس أعادتا موضعة النضال والمقاومة الفلسطينية على المسار الصحيح، مسار كفاح الاستعمار، واهتزت ثقة إسرائيل وسياسييها ومناصريها بالمشروع برمته. فجأة أصبح البناء كله موضع سؤال. لهذا تردد صدى هذه الجولة في كل فلسطين وفي كل بلدان اللجوء، وأعادت ربط العرب بفلسطين، وأخرست حكومات التطبيع، وسارت في العالم مئات الألوف من المناصرين. ما حدث لم يحرر فلسطين بالطبع، لكنه إنجاز كبير يُصب في المسار التراكمي الصحيح وفي الاتجاه الحقيقي، وما رافقه من ألم وتضحيات نُعبر عنها بفروسية المقاوم لا بخطاب المولول.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى