أحدث الأخباراليمنشؤون امريكيةمحور المقاومة

شؤون سياسية وعسكرية المأزق الأمريكي في اليمن: كل الخيارات بنكهة الهزيمة!

مجلة تحليلات العصر الدولية - ضرار إبراهيم الطيب

أيًّا كانت التقييمات والتوقعات والخطط التي اعتمدها الأمريكيون والسعوديون قبل ست سنوات من الآن بخصوص الحرب على اليمن، فهي بلا ريب قد أُلقيت في سلة المهملات، والمرجح أن هذه العملية قد تكررت مرات عدة منذ ذلك الوقت؛ لأنه من الواضح أن كل حساباتهم لم تتضمن أي حل للمأزق الذي أصبحته هذه الحرب بالنسبة لهم، وهو أن تسخر طاقتك كلها في سبيل القضاء على خصم ما؛ لتتفاجأ بعد سنوات أنه أصبح أقوى، وصار لديه مناعة ضد كل ما تمتلكه من قدرات، فتتخبط ما بين انتظار الهزيمة، وإعلانها مبكرا.

لا يبدو أن لدى واشنطن والرياض اليوم حلًّا ذكيًّا لهذه المعضلة، فضلا عن أن تكونا قد توقعتا ذلك في البداية، أو هذا على الأقل ما يقوله بوضوح خطابهما السياسي اللامنطقي واللاواقعي الذي يطفح-هذه الفترة- بالتناقضات الصارخة ومحاولات الابتزاز.

لكن قبل تفكيك الخطاب الأمريكي السعودي الحالي حول «السلام»، من الضروري تأمل منحنى مسار المعركة، وبعض نقاط التحول البارزة فيه؛ لأن الحديث عن انقلاب الموازين في اليمن ليس مجرد تحليل.

يمكن القول: إن المعركة العسكرية المباشرة كانت أبرز الملفات الكبيرة التي بدأت الولايات المتحدة الأمريكية بإلقاء أوراقها إلى سلة المهملات منذ وقت مبكر، وبدلا من اللجوء إلى وصف لا ينتهي لصلابة مقاتلي الجيش واللجان الشعبية وحرفيتهم الحربية العالية من أجل إثبات ذلك، يمكننا استذكار محطات مثل: مبادرة كيري ٢٠١٦م، وتهديد السفير الأمريكي للوفد الوطني في مفاوضات الكويت بأنهم إذا لم يوقعوا «ستصبح العملة المحلية أرخص من الحبر الذي طبعت به»، وما تلا ذلك من التصريحات والخطوات واللقاءات والاتفاقات برعاية الأمم المتحدة وبدون رعايتها حتى الآن.

العامل المشترك بين كل هذه المحطات كان دائمًا وصول تحالف العدوان وأتباعه إلى طريق مسدود في المعركة العسكرية، واصطدامهم المتكرر بحقيقة أن المواجهة المباشرة على الأرض -على الرغم من فارق الإمكانيات الكبير- لن تنجح في تحقيق سيطرة وازنة تكفي لتشكل «انتصارا» لصالحهم؛ ولهذا فقد كانت كل محطات «السلام» التي انخرطت فيها قوى العدوان عبارة عن خطوات نزول سياسي اضطراري من فوق الشجرة، حتى إن لم يكتمل هذا النزول، وحتى إن كان الهدف منه محاولة «خداع» صنعاء لإيجاد ثغرة في معسكرها.

إن استخدام الحديث عن «السلام» ضمن خطة عسكرية- ولو لمجرد كسب الوقت- أسلوب يتم اللجوء إليه لتعويض عجز عن المواجهة، ولا ينفع هنا التبرير بأن «الحرب خدعة» كما يقال؛ لأننا نتحدث عن تحالف كان واثقا بأنه سيحسم المعركة في أسابيع؛ لأنه يمتلك إمكانيات هائلة، وإذا به يقضي سنوات في البحث عن خدع ليستطيع الاستفادة من تلك الإمكانيات.

بعبارة أخرى: لقد تمحورت كل «حيل السلام» التي استخدمها السعوديون والأمريكيون والبريطانيون طيلة السنوات الماضية حول فكرة رئيسة واحدة هي أن تغفل صنعاء عن سلاحها قليلا، فيقوموا بمباغتتها، وهذا يعني أنهم بكل تلك الإمكانيات غير قادرين على تحقيق أي انتصار، إلا إذا لم تكن هناك مواجهة عسكرية حقيقية ومباشرة، وتتضمن ردًّا وردعا.

الآن نعود للتصريحات و«المبادرات» الأخيرة بخصوص «وقف إطلاق النار»، والتي لا يمكن قراءتها بمعزل عن سياق التغير في ميزان «القوة» الذي استمرت كفته بالميل لصالح صنعاء منذ أول مبادرة/ حيلة أمريكية تحدثت عن «وقف الحرب»، أي: أن كل ما يقوله الأمريكيون والسعوديون اليوم يعبر في المقام الأول عن تفاقم مأزق عجزهم عن المواجهة، وفشلهم في تعويض هذا العجز بطرق فعالة.

لم يختلف مضمون الخطاب الأمريكي السعودي الأخير عما سمعناه كثيرا من مناورات سياسية خلال السنوات الماضية، وهذا ما تؤكد عليه صنعاء بالقول: إن المبادرتين الأمريكية والسعودية لم تتضمنا أي جديد، لكن هناك عناصر مثيرة للانتباه في الخطاب الحالي مثل: الإفراط في اللاواقعية، وتجاهل متغيرات الميدان (المطالبة بوقف العمليات الصاروخية والجوية والتقدم في مأرب بدون الحديث عن وقف الغارات الجوية على الأقل)، والمجاهرة بالابتزاز (استخدام سفن الوقود ومطار صنعاء كورقة ضغط ومساومة لتحقيق المطالب العسكرية والسياسية غير المنطقية أصلا).

وهذه السمات تعكس أمورا عدة، منها: الارتباك الأمريكي في التعامل مع خروج الوضع الميداني عن السيطرة تماما، وتفاقم المخاطر العسكرية على التحالف وأتباعه إلى حدود غير مسبوقة، والتناقض المحرج بين حاجة إدارة بايدن الملحة إلى الهروب من تبعات دور الولايات المتحدة في الحرب وتداعيات دعمها للسعودية، وبين الرغبة في الاستمرار بهذا الدور وتصعيده؛ للحفاظ على المصالح والمطامع التي باتت معرضة لتهديدات أكبر.

كل ذلك يلتقي عند عقدة رئيسة واحدة، هي: أن صنعاء باتت تمتلك خيارات من شأنها أن تصنع «حسما» حقيقيا لصالحها، (لقد أعلن المتحدث العسكري بصراحة عن إمكانية تحقيق ذلك خلال العام السابع)، أي: أن مأزق تحالف العدوان-وهو مأزق أمريكي بالدرجة الأولى- بات أصعب مما كان عليه كثيرا.

ولقد حرصت صنعاء على أن تظهر وقوفها الآن في موقف «قوة» من خلال تصعيد ضربات الردع على العمق السعودي، وبكثافة غير مسبوقة، إضافة إلى إعلان التوجه نحو حسم معركة مأرب، تزامنا مع الضجيج الأمريكي والدولي الذي يطالب بوقف المسارين، ويتحدث عن ضرورة الانتقال إلى عملية سياسية، وكأن صنعاء حريصة على أن تبرهن عمليا لقوى العدوان والعالم أن الوضع اختلف تماما الآن.

إن إنهاء الحرب لم يعد مصلحة لصنعاء فقط، بل أصبح أيضا ضرورة للرياض وأصدقائها (إذا أرادوا سلامة مصالحهم داخل المملكة)، وبالتالي: لا مجال للابتزاز والتخويف، ويجب أن تبدأ الأطراف المعنية بالإصغاء لشروطنا كَنِدٍّ لنِد.

قبل أيام كتب رئيس تحرير «جريدة الأخبار» اللبنانية «إبراهيم الأمين» عن بعض تفاصيل ما دار مؤخرًا في مسقط، حيث قال: إن لقاء تم عقده بين الأمريكيين والوفد الوطني بحضور وساطة عمانية، وقال: إن «محمد عبد السلام» تحدث مع الأمريكيين بوصفهم أعداء، لا وسطاء سلام، وقطع أمامهم كل طرق الابتزاز، بل تم إبلاغهم أيضا بأنهم إذا لم يكونوا عازمين على مناقشة إنهاء العدوان والحصار بشكل كامل، فلا داعي لطلب لقاءات أخرى، الأمر الذي صدم الأمريكيين.

الولايات المتحدة-كقوة عظمى- لم تكن في الأغلب سوى سُمعة، لقد خسرت معارك عديدة، لكنها حرصت على ألا تسقط سمعتها، ولا زالت حتى الآن تمجد حتى وحشيتها وجرائمها المشهودة في «فيتنام» و»العراق» و»أفغانستان»؛ فقط لكي لا تعترف بأنها خسرت، ولعل هذه النزعة هي أيضا من أسباب خطاب الابتزاز واللاواقعية الذي تتمسك به واشنطن اليوم، كأنها في حالة إنكار، لكن الفترة القادمة ستجعل الأمريكيين والسعوديين يعيدون التفكير للاختيار بين السمعة، والمزيد من الخسائر.

ربما لم نصل حتى الآن إلى النقطة التي يبدأ فيها الأمريكيون بتقديم تنازلات واضحة، لكن المسألة مسألة وقت، والوقت لم يعد مكسبا لواشنطن والسعودية؛ لأن صنعاء وحدها من يمتلك خيار المضي قدما في تنفيذ خطوات يخشاها الطرف الآخر.

والحقيقة، لازال المشهد ضبابيا بخصوص التنازلات التي قد تقدمها الولايات المتحدة والسعودية في سبيل اتقاء الخسائر، أو لكسب الوقت، فمن واقع التصريحات و«المبادرات» الأخيرة كان يمكن القول: إنه ستكون هناك خطوات صغيرة في «الملف الإنساني»، وسيحاول الأمريكيون استثمارها إعلاميا وسياسيا بشكل كبير؛ أملا في الحصول على خطوات مقابلة من صنعاء، لكن الأخيرة قد حسمت هذا الأمر مسبقا، ورفعت سقف شروط التفاوض؛ ولذا سيكون على الولايات المتحدة أن تقترب أكثر من موضوع إنهاء الحرب والحصار، وسيكون ذلك بِنِيَّةِ كسب الوقت.

لكن هذا أيضا لن يكون مخرجا من المأزق المتمثل باستمرار توجه صنعاء نحو استكمال تحرير مأرب، واستمرار الضربات على العمق السعودي، فمشكلة الولايات المتحدة اليوم هي أنها تريد مكاسب تنطوي على استمرار الحرب والحصار، وهو أمر خارج عن أرضية التفاوض الذي تقبل به صنعاء.

وفي رأيي أن الولايات المتحدة لن تتوجه نحو الحل الوحيد لهذه العقدة قبل أن تتعاظم الخسائر إلى مستوى معين، أي: أنه سيكون هناك عمل عسكري كبير ومكثف قبل الجلوس مع الأمريكيين والسعوديين على طاولة حلول سياسية حقيقية.. سيقدمون التنازلات في نهاية الأمر، لكن بعد وجع كبير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى