أحدث الأخبارلبنانمحور المقاومة

شاهد عيان على غزو لبنان ١٩٨٢: مشاهدات ودروس وعِبَر!

مجلة تحليلات العصر الدولية - خليل إسماعيل رَّمال

في مثل هذا اليوم من عام ١٩٨٢، ضرب زلزال مدمِّر لبنان ونقله من حقبة زمنية لحقبة أخرى سببه الغزو الإسرائيلي المجرم الذي أراد العبور بلبنان إلى العهد الإسرائيلي بالقضاء على المقاومة الفلسطينية والسيطرة على البلد بالتعاون مع قوات بشير الجميِّل وباقي موتوري “الجبهة اللبنانية”، وعَقْد معاهدة استسلام معه لتأمين سلامة جبهته الشمالية وتحقيق حلمه بالتحالف مع لبنان المُقسَّم طائفياً في سبيل تأسيس إسرائيل الكُبرى.
وتذرَّع العدو بهجوم غامض نفَّذَتْه جماعة المجرم المنشق المقبور صبري البنا، المُختَرَق موسادياً، على سفيره في لندن وبدأت قوات المقبور الهالك مناحم بيغن تَقَدُّمَها في جنوب لبنان ووصلت للعاصمة بيروت حيث قيل يومها، غباءاً، بأن الفطيسة أرييل شارون وزير دفاع العدو قام بذلك من تلقاء نفسه ومن دون مشورة مُعلِّمه بالإِجْرام أو عِلْم أميركا التي كان رئيسها آنذاك، الأحمق رونالد ريغان، البهيم في الجغرافيا والسياسة والقادم من عالم الخيال والتمثيل الهوليوودي وكان يستشير النجوم في حكمه، ورغم ذلك يضعه الجمهوريون اليوم في مصاف الكبار في حزبهم الأخرق. إلا أن كل هذا هراء ولا يمكن أن تتم هكذا خطوة باحتلال ثاني عاصمة عربية بعد القدس من دون موافقة أميركية تامة، ولكن لهذا بحث آخر.
كاتب هذا السطور كان شاهد عيان على هذا الإجتياح حيث كنت أعمل مُحَرِّرَاً في القسم العربي والدولي في جريدة “السفير”. وأذكر أني شاهدت وخبرت مشاهد الإجرام الصهيوني عن كثب وكأنها حصلت اليوم. وهذه بعض المشاهدات/الذكريات في تلك الفترة الحرجة:
– أول ما أذكره هو أنتحار الشاعر الشيوعي خليل حاوي الذي لم يتحمل فكرة تدشين العهد الإسرائيلي في لبنان. واليوم أتساءل ماذا لو بقي حاوي، الوطني وصاحب الضمير الحي، حياً وشاهد حفلات الذل والتطبيع الخليجي اليوم الذي ينحر المباديء وقضية العرب المقدسة؟!
– الحديث عن الإنتحار يجرني للحديث عن طاغية ليبيا، السفاح المقبور معمر القذافي، الذي دعا الفلسطينيين المُحاصَرين للإنتحار بعد أن طلبوا مساعدته، عازياً تَمَنُّعه عن نجدتهم لأسباب جغرافية!
– رغم تحسُّب وتوقُّع المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية في ذلك الوقت لمغامرات بيغن-شارون الحربية والتي لم تكن خافية على أحد، وتحذير بشير الجميل، اليومي تقريباً، بحصول حرب إسرائيلية (كان شريكاً فيها)، إلا أن الجماعة منوا بهزيمة ساحقة ناجمة عن عدم وجود أي تحضير مسبق، لدرجة أن قائد “القوات المشتركة” المدعو الحج إسماعيل هرب هو وقواته إلى بيروت والبقاع بعد ساعة واحدة فقط من الغزو! ولهذا أيضاً حديث آخر عن الأخطاء والممارسات التي حصلت في جنوب لبنان قبل أيام من الحرب.
– عندما وقع الإجتياح كان أولمبياد كأس العالم في كرة القدم قد بدأ وكان اللبنانيون الشغوفون بهذه الرياضة يحضرون مبارياتها خارج بيوتهم مستخدمين بطاريات السيارات لتشغيل أجهزة التلفاز بسبب انقطاع الكهرباء. شو بدك شعب يحب الحياة والموت من حواليه!!
– شاركت قوات المجرم القاتل بشير الجميل في الغزو ولو من دون التدخل العسكري (العلني) المباشر، ولكن عبر حصار خانق لبيروت الغربية فأحكمت حواجزها في الحازمية وباقي منافذ العاصمة ومنعت دخول الخبز والماء وحتى حليب الأطفال.
– الإجرام الصهيوني لم يعرف حدوداً حيث كان العدو يستخدم الأسلحة المحرَّمة دولياً وخصوصاً القنابل العنقودية والفراغية والمسمارية لتدمير مبان سكنية بأكملها على رؤوس أصحابها فقط لاستهداف مقاتل فلسطيني واحد أو ملاحقة ياسر عرفات، كما ادعى العدو، وذلك من شارع لشارع بهدف اغتياله. وقد تبين لاحقاً أن أحد مرافقيه كان يبعث بإحداثيات لطيران العدو وتم اعدامه ميدانياً. وأذكر أن مبنيين في محلة النويري سقطا على الأرض ممَّا أدَّى لاستشهاد المئات من المواطنين الأبرياء. وفي أحد أيام الغزو فتح أمامي كاراج سينما البيكاديللي في الحمرا وشاهدت سيارة عرفات تخرج منه حيث كان مختبئاً خلال الليل.
– هذه الصورة لا تبارح فكري مطلقا وهي عندما استباح العدو العاصمة كنت عادةً استقل سيارة الأجرة من برج البراجنة حتى منطقة البربر ثم من هناك استقل سيارة ثانية لمحلة شارع الحمرا حيث موقع الجريدة (نزلة السارولا) وكنت كلما نظرت من نافذة السيارة أجد جيباً إسرائيلياً يسير بجانب السيارة وعلى متنه جنودا العدو وكنت لا أصدق أن هذا حقيقي أو من نسج خيال أحد الأفلام.
– عبَّر الجنود الصهاينة عن “حضارتهم” من خلال نهبهم وسرقتهم للمباني وترك أوساخهم النتنة كبصمات لهم، ومن بين المباني التي دنَّسوها مبنى نقابة المهندسين في محلة الكولا حيث كان يضم حرم الجامعة اللبنانية- كلية الإعلام والتوثيق التي كنت أُنهي آخر سنة (رابعة) فيها. وقد شاهدنا كيف أن الجنود الحقيرين تركوا برازهم في كل طابق وحتى في كل درج مكتب في المبنى.
– اذكر تماماً مشاهد العزة رغم الدمار منها مانشيت “السفير” بعد ٣٢ ساعة طيران حربي وغارات متواصلة على بيروت ليلاً ونهاراً، وجاء فيها “بيروت تحترق ولا ترفع الأعلام البيضاء”. وأذكر الشهيد البطل خالد علوان، المُقاوم السوري القومي الإجتماعي الذي نفذ عملية مقهى “الويمبي” والتي دشَّنَتْ عصر المقاومة، وكيف انسحب العدو من بيروت وهو يُعلِن انسحابه عبر مكبرات الصوت ويستجدي عدم الهجوم على قواته. وأذكُر ملحمة خلدة التي أبدع فيها أبطال الإمام الصدر في حركة “أمل” حيث تصدُّوا ومنعوا العدو من دخول الضاحية بعد بيروت، وأَسَروا له ملالات كانت تتبختر وتُعرَض في برج البراجنة قرب مبنى القيادة!

هذه بعض من المشاهدات التي تجعلني اليوم أحمد الله وأشكره على نعمة المقاومة التي لقَّنَتْ هذا العدو الغاشم اللئيم درساً لا ينساه بانسحابه الذليل وحررت الأرض ونزعت منه ورقة الحرب التي كان يستخدمها ساعة يشاء ورغم ذلك ينسب البعض اليوم للمقاومة كل ما يحصل من حصار مالي خارجي خانق معروف الهوية والأسباب، وفشل وحوش السلطة المافيوية منذ تأسيس مسخ الوطن في إدارة البلد، بينما هي التي أفشلَتْ الحقبة الإسرائيلية التي خطَّط لها العدو في عام ١٩٨٢، وحوَّلَتْها لخدمة وصالح شعب لبنان والمنطقة عندما أعادت لنا العزة والكرامة والعيش الكريم والإستقلال وعصر الردع والإنتصار.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى