أحدث الأخباراليمنمحور المقاومة

علي عبد الله صالح: من البداية إلى النهاية

مجلة تحليلات العصر الدولية - طاهر شمسان

جاء علي صالح إلى السلطة من فراغ سياسي شبه مطلق. فقبل 17 يوليو 1978 لم يكن هذا الرجل يتمتع بأية شعبية-لا داخل النظام ولا خارجه-تجعل منه صاحب حضور حتى من الدرجة العاشرة. وعلى مدى ثلاثة وثلاثين عاما لم يستطع الخطاب السياسي والإعلامي لنظام علي صالح أن يقدم تفسيرا مقنعا للطريق الذي سلكه هذ الرجل من أجل الوصول إلى السلطة؛ غير أن ملابسات هذا الحدث خرجت بالتدريج إلى دائرة الضوء وتبين أنه وصل إلى رئاسة البلاد بإرادة سعودية قوية لها نفوذ كبير في اليمن الشمالي الذي كان حينها يعيش حالة انكشاف أمني وعسكري وسياسي تام على الرياض. وقد اتكأ علي صالح على هذه الإرادة في فرض نفسه على مراكز القوى والتأثير، التي لم تكن هي الأخرى متحررة من النفوذ السعودي، أو على الأقل يستحيل عليها أن تضمن استقرار النظام وربما بقاءه، من غير دعم الرياض؛ ولهذا تعاملت مع رئاسة علي صالح كأمر واقع وتركت للزمن أن يحدد نوع علاقاتها المستقبلية معه.
ومن جانبه لم يكن علي صالح حينها يحوز على الخبرة والمعرفة التي تؤهله لإدارة شئون الدولة، كما لم يكن صاحب مشروع يبرر وصوله إلى السلطة ويؤسس عليه شرعية إنجاز تضفي المقبولية الشعبية على نظامه. فالسلطة بالنسبة لهذا الرجل كانت طموحا شخصيا، وغاية مطلوبة لذلتها، وكان تفكيره منذ البداية منصبا على تأمين بقائه من غير تهديد. وهاتان نقطتا ضعف مفصليتان حتمتا عليه منذ بداية عهده بالحكم أن يسترضي مراكز القوى وأهل النفوذ والتأثير ومجموعات الحكم عموما، فأرسى العلاقة بينه وبين هؤلاء على مبدأ توافقي مضمر قائم على اعتبار الدولة غنيمة مشتركة لمراكز القوى في النظام.
والجدير بالملاحظة هنا أن مجيء علي صالح المفاجئ إلى السلطة لم يكن انقلابا على النظام السياسي وإنما كان للمحافظة عليه بأركانه وشخوصه وتوجهاته السياسية والأيديولوجية وتحالفاته الإقليمية والدولية. فهو جاء ليكون شريكا لآخرين مؤتمنا من الدولة الراعية لا كبديل لغيره. ولهذا لم يأت علي صالح بطاقم خاص به وإنما اعتمد في إدارة البلاد على الطبقة السياسية نفسها التي سبقته في الحضور السياسي والجماهيري وتحقيق المكانة. فهو طارئ متطفل عليها وبحاجة إلى خبراتها وإلى شعبيتها. وباستثناء محمد خميس، الذي كان يعرف تفاصيل كثيرة وخطيرة عنه، لم يكن واردا من الناحية الموضوعية حينها أن يدخل علي صالح مع أي من مراكز القوى في خلافات لا يستطيع أن يبررها في ضوء توجهات النظام وثوابته. ومن بديهيات الأشياء أن يقدم نفسه لها كشريك حقيقي. وقد عبر عن شراكته مع الجميع من خلال القبول بما يريدون-في إطار التوجه العام للنظام داخليا وخارجيا-ليقبل الجميع أيضا بما يريد الرئيس في إطار التوجه نفسه. وعلى قاعدة هذا التفاهم أصبحت الدولة غنيمة لأطراف وشركاء النظام السياسي، وجميعهم معني بدوامها والحفاظ عليها كمصلحة مشتركة أسست لتحالف وثيق فيما بينهم. وأصبح علي صالح قطب الرحى في هذا التحالف وقاسمه المشترك. فهو يقبل القسمة على الجميع والجميع لا يقبل القسمة إلا عليه. وقد تشكل هذا التحالف من خمس دوائر هي: دائرة كبار قادة الجيش، ودائرة كبار شيوخ القبائل، ودائرة كبار رجال الدين، ودائرة كبار المستخدَمين السياسيين، ثم دائرة بعض كبار رجال المال والأعمال.
وبينما كان الكل داخل النظام يفعل ما يريد في حدود الدور الموكل إليه إنصرف علي صالح لبناء المتاريس الإستخباراتية والأمنية والعسكرية، لتحصين مؤسسة الرئاسة وتعزيز دورها في إطار النظام السياسي. وقد بنى تلك المتاريس إبتداء على قاعدة الشراكة بين نخب النظام العسكرية والقبلية. ولم يكن الرئيس حينها سوى رمز هذه الشراكة وراعيها المؤتمن المقبول من أركان النظام في الداخل ومن الدولة الراعية في الإقليم.
وقد ترتب على هذا النوع من الشراكة المغلقة على أطراف النظام، ولأول مرة، أن أصبح للفساد دولة في اليمن، وتحول نافذوها إلى فاسدين يتمتعون بسلطات مادية ومعنوية واسعة لا رقيب عليها، تهمش، وتقصي، وتقمع، كل من لا يرضى عنها، أو يعارضها بأي شكل من الأشكال. وكانت المزاوجة والخلط بين السلطة والثروة من أبرز مظاهر دولة الفساد حيث ميزت طبقات الحكم نفسها بنمط حياة إستهلاكي ترفي يفتقر إلى الحد الأدنى من العقلانية؛ وفي سياق المواجهة الأيديولوجية بين صنعاء وعدن جرى تسويق هذا النمط وتبريره على أنه من سمات وأفضليات النظام الرأسمالي في مواجهة النظام الإشتراكي. وبذلك تم تحصين الفساد، أيديولوجيا وسياسيا، ضد أي نقد، من داخل أو من خارج النظام، فتحول إلى ثقافة جرى تعميمها على مختلف مستويات الجهاز الإداري للدولة، فشاعت فيه ظاهرة المحسوبية والرشوة والمداخيل غير المشروعة التي دمرت منظومة قيم المجتمع. وأصبح المحذور الوحيد الذي يخشاه الموظف العمومي ويرتعد منه هو الإفصاح عن أي رأي سياسي مغاير قد يضعه تحت مجهر شبكة الأجهزة الأمنية التي أحكمت قبضتها على الخدمة المدنية والقضاء والسلك الدبلوماسي، وتحكمت بمصائر الناس، وأشاعت ثقافة الخوف والرعب داخل أجهزة الدولة العسكرية والمدنية وفي المجتمع.
وبسبب ثقافة الخوف هذه تأسست شروط موضوعية للنفاق السياسي، فتكاثر المنافقون الذين وجدوا في تملق رئيس الدولة والتغني “بمواهبه” و”مناقبه” أقصر الطرق وأسهلها للإندماج في النظام وتحقيق مكاسب مادية ومعنوية كل حسب حجم ونوع الخدمة التي يقدمها للرئيس ونظامه. وكانت التنمية هي الخاسر الأكبر جراء النهج الذي سار عليه علي صالح في إدارة البلاد. فمعظم الموارد ذهبت لصالح تحصين النظام ورفاه نخبه وإثرائها على حساب التوسع الكمي والنوعي في البنى التحتية اللازمة لإحداث تنمية حقيقية وشاملة.
وعندما أطل عام 1990 كان نظام علي صالح قد أنتج شبكة مصالح واسعة وتحالفات متداخلة جعلت النظام السياسي في الشمال غير مؤهل، لا لوحدة إندماجية، ولا لوحدة فيدرالية، ولا لأي مستوى من مستويات الديمقراطية. وقد شكلت تلك المصالح والتحالفات بسياجاتها الأمنية والعسكرية والسياسية والأيديولوجية والإدارية والقبلية حقل ألغام حقيقي تفجر بسرعة في طريق وحدة 22 مايو 1990 السلمية وديمقراطيتها وقاد البلاد إلى حرب صيف 1994. وبسبب تلك الحرب ونتائجها نشأت القضية الجنوبية كأحد مكونات المشهد السياسي المعقد في اليمن اليوم.
هذه إذن فترة حكم علي صالح زمن الجمهورية العربية اليمنية؛ الزمن الذي تأسس على تحالف خمس دوائر كل منها كان جزءا من بنية النظام السياسي لدولة الشمال. وكانت سلطة هذا التحالف مستحوذة على كل هياكل وفضاءات الدولة إبتداء من الجيش والأمن والقضاء والسلك الدبلوماسي، مرورا بالخدمة المدنية والجهاز الإداري، وانتهاء بالإعلام والتعليم المدرسي والجامعي وحتى دور العبادة. مايعني أن الدولة الوطنية المفترضة ممثلة بالجمهورية العربية اليمنية كانت نظاما سياسيا لأطراف هذا التحالف، ولم تكن دولة لكل أبناء الشمال. ولأن علي صالح كان شديد الإخلاص لنظام الجمهورية العربية اليمنية بتحالفاته المذكورة فقد كانت الفترة الممتدة من يوليو 1978 وحتى مايو 1990 بمثابة شهر عسل لأطراف هذا التحالف مقارنة بالفترة التي أعقبت حرب 1994. ومن أجل اكتمال صورة نظام علي صالح سنتحدث أيضا عن الفترة الثانية هذه التي بدونها لا نستطيع أن نفسر أسباب تصدع هذا النظام أثناء الثورة الشبابية الشعبية.
في 22 مايو 1990 توحدت دولة الشمال (الجمهورية العربية اليمنية) ودولة الجنوب (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) سلميا في إطار الجمهورية اليمنية. وكانت الديمقراطية لصيقة بالوحدة ومرادفة لها. فالديمقراطية لم تكن ممكنة بدون الوحدة. والوحدة لا تستطيع أن تصمد في حال التخلي عن الديمقراطية. وأية تشوهات تصيب الديمقراطية، سوف تلقي بظلالها الكثيفة على الوحدة. ومع الوحدة أصبح علي صالح رئيسا لمجلس رئاسة الدولة الجديدة. وكشريك في توحيد شطري اليمن اكتسب هذا الرجل شعبية كبيرة في أوساط الجماهير. وعلى المستوى الرسمي لم يكن هناك ما يهدد بقاءه في السلطة؛ فقد كان مقبولا من قبل شركائه القدامى في دولة الشمال وعلى الأخص الاخوان المسلمون وتحالفاتهم القبلية، كما كان مقبولا من الشريك الجديد القادم من عدن وعلى الأخص من علي سالم البيض الذي مدَّ يده لعلي صالح بيضاء من غير سوء. وكان هذا يؤهل علي صالح لأن يكون شخصية جامعة توفق بين كل الأطراف وتعزز عوامل الثقة فيما بينها لصالح الوحدة والديمقراطية. لكن الرجل لم يكن مؤهلا-لا إنسانيا ولا وطنيا ولا سياسيا ولا حتى أخلاقيا-كي يقرأ اللحظة التاريخية التي شكلتها الوحدة على هذا النحو. فقد رأى في الديمقراطية خطرا عليه وتعامل معها تعاملا تكتيكيا، وأخذ منها فقط ما يعزز مركزه ويقوي تحالفاته القديمة في الجمهورية العربية اليمنية للإجهاز على شريك الوحدة القادم من عدن. ولم يكن في هذه اللحظة قد أدرك أن الديمقراطية ستحرره من الحاجة إلى التحالفات القديمة وستعفيه من منة أطرافها عليه.
وبعد إنتخابات أبريل النيابية عام 1993 بدا له أن الديمقراطية كانت عليه أكثر مما كانت له. فالحزب الإشتراكي الذي قاسمه مجد الوحدة أصبح يقاسمه مجد الديمقراطية. بل إن النجاح الإنتخابي الذي حققه الإشتراكي كان مفاجئا لعلي صالح. فقد كان نجاحا متميزا من حيث النوع وناجما عن إختيار جمهور يعي ما يريد. وعلى المستوى الجغرافي لم يقتصر هذا النجاح على الجنوب وإنما إمتد إلى الشمال. بينما اقتصر نجاح حزب علي صالح على الشمال فقط ووقفت وراءه عصبيات قبلية ومناطقية وتفوق كبير في المال السياسي، فضلا عن الفارق المهول في عدد السكان، حيث ينتمي 80% منهم إلى مناطق النفوذ التاريخي لنظام الشمال؛ وكان دور التجمع اليمني للإصلاح كبيرا في تحقيق ذلك النجاح. ومع كل ذلك لم يحصد حزب الرئيس صالح سوى 49% من مقاعد المحافظات الشمالية أي مايعادل 41% من إجمالي مقاعد الجمهورية اليمنية. بينما ذهبت بقية مقاعد الشمال لصالح التجمع اليمني للإصلاح والحزب الإشتراكي وحزب البعث والأحزاب الناصرية وحزب الحق والمستقلين. فالنجاح الانتخابي الذي حققته هذه الأحزاب في المحافظات الشمالية جاء خصما من رصيد المؤتمر الشعبي العام باعتبار المحافظات الشمالية معقله التاريخي. بينما حصد الحزب الاشتراكي كل مقاعد المحافظات الجنوبية تقريبا. وعلى مستوى الأصوات بدا المؤتمر الشعبي العام حزبا شماليا إذ لم يكن نصيبه من أصوات المحافظات الجنوبية سوى 9% من إجمالي أصواته في عموم الجمهورية. وفي المقابل جاءت 49% من أصوات الحزب الاشتراكي من المحافظات الشمالية مقابل 51% من المحافظات الجنوبية. ومن خلال هذه الأرقام تجلت بوضوح يمنية الحزب الاشتراكي مقابل شمالية المؤتمر الشعبي العام. يضاف إلى كل ذلك أن الذين صوتوا لمرشحي الحزب الاشتراكي في المحافظات الشمالية كانوا عمليا يصوتون للحزب بينما الذين صوتوا للمؤتمر الشعبي العام كانوا عمليا يصوتون لمرشحين من أهل المال والوجاهة والنفوذ بغض النظر عن الحزب الذي ترشحوا تحت يافطته. وفي معظم الحالات التي خسر فيها الاشتراكي دوائر المحافظات الشمالية خسرها بفارق بسيط في عدد الأصوات. والخسارة في المجمل لم تكن بسبب ضعف قاعدته الجماهيرية وإنما بسبب التنسيق الدقيق والتحالف الوثيق بين المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للإصلاح.
إن الحزب الإشتراكي الذي قاسم علي صالح مجد تحقيق الوحدة ومجد الديمقراطية سيقاسمه أيضا مجد التنمية والنهوض باليمن في ظل استقرار مفترض بفضل الوحدة والديمقراطية. وهذا يعني أن هذا الحزب سيتمكن من تصحيح الصورة الذهنية التي ألصقها خصومه به في سنوات الصراع بين شطري البلاد وسيستأنف حياة جديدة في ظل الوحدة والديمقراطية. وبدا لعلي صالح أن كل ذلك سيكون على حسابه وخصما من رصيده الشخصي. لذلك بنى سياسته تجاه الحزب الإشتراكي منذ الأيام الأولى للوحدة على إستدعاء الموروث التاريخي للصراع بين الشطرين، وذهب يغذي الحساسيات الأيديولوجية القديمة ويخلط الأوراق، ويحدث الوقيعة بين كل الأطراف. وترتب على كل ذلك أزمة سياسية لم تخلُ من أعمال عنف طالت العشرات من كوادر الحزب الإشتراكي. وبعد إنتخابات أبريل 1993 النيابية دفع علي صالح البلاد بسرعة قياسية نحو حرب صيف 1994 التي خاضها تحت شعار الدفاع عن الوحدة؛ وكان هذا الشعار بمثابة الخنجر الذي وجه للوحدة طعنات غادرة وقاتلة.
ولأن العبرة في السياسة هي في النتائج وليس في المقدمات، فقد تبين فيما بعد أن أهداف علي صالح من وراء حرب 1994 كانت شخصية، وأن الإنتصار العسكري الذي تحقق تحول إلى هزيمة سياسية لكل اليمنيين في الشمال وفي الجنوب. فالتشطير إنتقل من الجغرافيا إلى النفوس، بينما أصيبت الديمقراطية الجنينية بالشلل التام، وأصبح التداول السلمي للسلطة مجرد شعار لا أساس له في الواقع.
بعد حرب 1994 انفتح أمام علي صالح فضاء ديمغرافي جديد في الجنوب أكسبه مصادر قوة جديدة أتاحت له الإستقلالية عن حلفائه التقليديين زمن الجمهور العربية اليمنية والتحول إلى تحالفات بديلة خالصة له ولعائلته؛ تحالفات من إبتكاره تدين له بالولاء مقابل إدماجها في النظام وما يحققه لها ذلك من إمتيازات مادية ومعنوية. وشيئا فشيئا بدأ يحس أنه بتحالفاته الجديدة يستطيع أن يضعف أو يهمش أو يقصي أو يتخلص من شركاء الأمس الذين ناصروه منذ يوليو 1978. وبالتوازي مع هذا النهج الجديد تجاه شركاء الأمس بدأ يكشف عن تطلعاته الشخصية لتوريث الحكم عبر الديمقراطية التي اختزلها في صندوق الإقتراع بعد أن اعتقله ووضعه تحت الإقامة الجبرية.
وبواسطة صندوق الإقتراع المعتقل حقق علي صالح أغلبية برلمانية مريحة عام 1997، وأعاد إنتاجها عام 2003. وأصبح الصندوق شعارا يحاكي شعار “الوحدة أو الموت”. وبواسطة هذين الشعارين قدم علي صالح نفسه على أنه صاحب الريادة في الوحدة والديمقراطية، وكأنهما منة منه على الشعب اليمني. وبعد أن نجح في اختزال الديمقراطية في الصندوق، ذهب يرسخ قناعة لدى الرأي العام بأن هذا الصندوق هو الحَكَمُ في تقرير من يحكم اليمن، وأن نجله أحمد مواطن يمني ومن حقه أن يصبح رئيسا لليمن إذا اختاره الشعب عبر الصندوق، مع أن علي صالح يدرك أكثر من غيره أن صندوق الإقتراع ليس إلا قميص عثمان الذي من خلاله يكتسب الشرعية الشكلية ثم يكسبها لمن يشاء من الأقارب والأعوان والأزلام الذين يحققون له مشروعه الشخصي.
إن إستمرار علي صالح في السلطة خلال الفترة الممتدة من عام 1990 وحتى يوم خلعه يعود الفضل فيه إلى كل القوى والأطراف التي تحالفت معه في حرب 1994 وأخرجت الحزب الإشتراكي اليمني من معادلة القوة التي تأست عليها دولة الوحدة. لكن علي صالح إستثمر نتائج الحرب للانقلاب على أهم مكونات ذلك التحالف ممثلة بالتجمع اليمني للإصلاح.
لقد إنقلب علي صالح أولا على الحزب الإشتراكي وأخرجه بواسطة الحرب من الشراكة في دولة الوحدة وحوله إلى حزب محظور من الناحية العملية. ثم استثمر نتائج الحرب للانقلاب على شركائه القدامى في إطار الجمهورية العربية اليمنية؛ ومارس إنقلابه هذا بشكل تدريجي كعملية قامت على التصفية الجسدية لبعض رموز التحالف القديم على ذمة حوادث مؤسفة، وعلى تشويه صورة البعض الآخر داخليا وخارجيا وتحميله وحده كل أوزار نظامه السياسي ليتقمص هو دور الحاكم الذي كان فيما مضى مغلوبا على أمره. وقد أدرك حزب التجمع اليمني للإصلاح أبعاد هذا الإنقلاب مبكرا وانسحب من الشراكة في السلطة على نحو هادئ وأصبح أكبر حزب معارض في إطار تحالف اللقاء المشترك. ومن باب الإنصاف كان إنسحاب هذا الحزب من السلطة حينها مساحة ضوء في ليل حالك الظلام.
لقد انقلب علي صالح إذن على أطراف التحالف القديم – أي على شركائه في الجمهورية العربية اليمنية-لا من أجل مشروع وطني كبير، وإنما من أجل مشروع عائلي صغير. ومن نافلة القول إن الفرقة الأولى مدرع والى حد ما الأمن العام والأمن السياسي هي المتاريس العسكرية والأمنية للصيغة التحالفية القديمة لنظام علي صالح؛ بينما ذهب هذا الرجل بعد حرب 1994 يؤسس لنفسه ولعائلته متاريس عسكرية وأمنية بديلة ممثلة بالحرس الجمهوري والحرس الخاص والقوات الخاصة والأمن المركزي والأمن القومي. ما يعني أن علي صالح أقام هياكل دولته العائلية داخل ما كان مفترضا أنه الدولة الوطنية التي يرأسها منذ عام 1978، منقلبا بذلك على هذه الدولة وعلى تحالفاتها. لقد أسس دولة عائلية خاصة داخل دولة الشراكة القديمة وعلى حسابها. ونفذ إنقلابه تحت يافطة الجمهورية اليمنية التي كان قد انقلب عليها بحرب صيف عام 1994.
وعندما شرع علي صالح في إقامة هياكل دولته العائلية كان من الناحية العملية يؤسس-ويعلم أنه يؤسس-لشروط أزمة عميقة في البلاد. فأطراف التحالف القديم لن تقبل أبدا بدولة عائلية وستقاوم هذا المشروع. وتحسبا لأي مقاومة أو ممانعة أخذ صالح ينفق موارد البلاد لرفع جاهزيته السياسية والعسكرية. وشيئا فشيئا تضاعفت ثقته بالقدرة على هزيمة خصوم دولة العائلة في مربع السياسة أو في مربعات الحرب إذا احتاجت السياسة إلى مساندة البنادق والمدافع. وكان بحاجة فقط إلى انتخابات برلمانية يجريها بشروطه لتجديد شرعية أغلبيته المريحة التي ستقلع عداد الرئاسة ليفعل هو بعد ذلك ما يريد.
كانت أحزاب المعارضة في إطار اللقاء المشترك مدركة لمضامين هذا المخطط. ومن أجل المشاركة في الإنتخابات اشترطت أولا إصلاح النظام السياسي وإصلاح المنظومة الإنتخابية عبر حوار وطني يشمل كل الأطراف الفاعلة-بما في ذلك الحراك الجنوبي ومعارضة الخارج والحوثيين-ويناقش كل القضايا وعلى رأسها القضية الجنوبية وقضية صعدة. وبعد أن فشل صالح في اختزال أطراف الحوار بالأحزاب الممثلة في مجلس النواب وقع مع أحزاب المشترك على اتفاق فبراير 2009 الذي مدد للبرلمان (الحالي) سنتين إضافيتين تتاح خلالهما الفرصة لإجراء الحوار الوطني الشامل والتوافق على الإصلاحات المطلوبة.
أمضى علي صالح هاتين السنتين في المناورات القاتلة للوقت. وفي النهاية رمى بإتفاق فبراير عرض الحائط وذهب يحضر للإنتخابات البرلمانية بشروطه ليفرض على أحزاب المشترك سياسة الأمر الواقع بحجة أن الإنتخابات إستحقاق دستوري للشعب اليمني ويجب أن تجري في موعدها وأنه لن يضيع الوقت في حوار الطرشان كما قال. وأشاع في كل مكان أن أحزاب المشترك ضعيفة وتخشى الاحتكام إلى الشعب أمام صناديق الإقترع.
قررت أحزاب المشترك أن تقاطع الإنتخابات وذهبت إلى جماهيرها في كل مكان تشرح الأسباب وتكشف عن مخطط التمديد والتأبيد والتوريث الذي يريد علي صالح أن يمرره على الشعب اليمني بواسطة إنتخابات انفرادية ينافس فيها حزبُه حزبَه، وأوضحت أن علي صالح لا يريد إنتخابات نزيهة وشفافة ومتكافئة تحل مشاكل البلاد، وكل ما يريده هو انتخابات تمنحه شرعية شكلية لتمرير مشروع التوريث.
أعلن علي صالح أن مقاطعة الانتخابات إنتحار سياسي محتوم لأحزاب المشترك وتحديدا للتجمع اليمني للإصلاح باعتباره الحزب الأقوى في الإئتلاف المعارض؛ وكان هذا تهديدا مبطنا بأن الإخوان المسلمين سيلقون المصير نفسه الذي لقيه الإشتراكيون والناصريون من قبل. وفي هذا التهديد كان علي صالح يعول على المسافة الطويلة التي قطعها قطار دولته العائلية عسكريا وأمنيا معتقدا أن الإخوان المسلمين هم العقبة الأخيرة التي يجب الإجهاز عليها كي يتمكن القطار من مواصلة السير فوق قضبان آمنة. أما ما تبقى من الهياكل العسكرية للصيغة التحالفية القديمة كالفرقة الأولى مدرع فليس أمامها إلا أن ترفع الراية البيضاء أو أن تسحق تحت طائلة الانشقاق والتمرد على الشرعية.
هكذا خطط علي صالح. غير أن متغير الثورة الشبابية الشعبية السلمية فاجأه من حيث لا يحتسب وأربك كل حساباته الأمنية والعسكرية فألفى نفسه أمام شباب عُزَّلٍ قرروا أن يطردوا صانع الأزمات سلميا وأن يسقطوا نظامه من غير عنف؛ وهذه لعبة جديدة لم يتوقعها علي صالح، وبقواعد جديدة لم تكن واردة في حساباته المتكيفة على اللعب في مربعات الحرب.
لقد وضعت الثورة الشبابية الشعبية علي صالح أمام خيارين كلاهما أمر من العلقم: إما أن يقبل بالسقوط السياسي ويرحل، وإما أن يجر البلاد إلى مربع العنف ويسقط وطنيا وإنسانيا وأخلاقيا. وخلال أشهر الثورة استخدم علي صالح كل ما تبقى لديه من أوراق وأولها ورقة العنف، وورقة العقاب الجماعي للشعب اليمني من خلال افتعال أزمة الوقود والكهرباء. لكنه لم يستطع أن يتجنب السقوط السياسي الذي بدأ بتجريده من كل صلاحياته ونقلها إلى نائبه وفقا للمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية.
والنجاح الذي إستطاع علي صالح أن يحققه تمثل في اختزال الثورة الشبابية الشعبية إلى أزمة سياسية بين تحالف أحزاب اللقاء المشترك والمؤتمر الشعبي العام وحلفائه. وهذا واضح من خلال التسوية التي اقترحتها المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية التي دخلت قيد التطبيق في 23 نوفمبر من العام 2012 بتوقيع علي صالح عليها بعد أن ألفى نفسه محاصرا بإرادة إقليمية ودولية تلح على توقيعه باعتباره أصل المشكلة وسبب رئيس في عدم الإستقرار.
نصت المبادرة الخليجية على نقل السلطة من الرئيس إلى نائبه لكن عمليا ظل معظم السلطة وأهم مفاصلها بيد علي صالح الذي أعطته المبادرة الخليجية نصف الحكومة بينما ظل هو محتفظا بنفوذه في الجيش والأمن وفي الجهاز البيروقراطي للدولة (الخدمة المدنية) فضلا عن المجالس المحلية والأغلبية البرلمانية الكاسحة؛ وقد استخدم علي صالح كل هذا النفوذ للانقلاب على التوافق الوطني الذي رتبته المبادرة الخليجية. وحتى الآن لا نعرف الكثير عن تفاصيل هذا الانقلاب الذي تحقق باجتياح أنصار الله للعاصمة صنعاء؛ لكن من غير المشكوك فيه أنه تم أيضا بعلم ومباركة السعودية والإمارات اللتين توجستا خيفة من نفوذ الإخوان المسلمين في اليمن وحصلتا على تطمينات من علي صالح بأن كل شيء تحت السيطرة وأنه هو العرَّاب الممسك بكل خيوط اللعبة. غير أن مسار الأحداث أثبت أن أنصار الله ليسوا جماعة ساذجة يمكن استخدامها ثم التخلص منها؛ وقد رأينا كيف أجهزت على علي صالح حين أردا الانقلاب عليها معتقدا أنه “في كل مَرَّة سوف تسلم الجرَّة”. وبالإجهاز على هذ الرجل الكارثي تخلصت اليمن من أخطر ورم سرطاني ظل ينهش جسدها لأكثر من ثلاثة عقود. صحيح أن كلفة الإجهاز على هذا الورم كانت كبيرة جدا لكن كان بمقدور اليمنيين أن يقللوا من هذه الكلفة لو أنهم أدركوا مخاطر الارتهان للخارج المتربص الذي ألقى علينا آلاف الأطنان من القنابل والمقذوفات التي أتت على بنيتنا التحتية وأزهقت عشرات الآلاف من الأرواح، فضلا عن انتهاك السيادة والاحتلال الذي طال الجزر والموانئ ومساحات معتبرة في اليابسة.
والآن مازال في القوس منزع إذا علم أنصار الله أنهم إذا استطاعوا السيطرة بالقوة حتى على كل اليمن فإن ذلك سيكون كارثة وطنية ووبالا عليهم قبل غيرهم وليس حلا، وإذا علمت الأطراف الأخرى أن هزيمة أنصار الله عسكريا إذا تحققت فلن تتحقق في سنة أو اثنتين وإنما بعد خراب مالطا، وستكون هي الأخرى كارثة وطنية وليس حلاً. وما من حل إلا ذلك الذي يجب أن يأتي من بوابة السلام ويتأسس على قاعدة التوافق والوئام اليمني اليمني بعيدا عن الارتهان للخارج.
من العرض السابق علينا أن نقر بأن عهد علي صالح كان عهدا كارثيا على اليمن وأن من أطلق الرصاص على الرئيس الحمدي هو نفسه من أطلقها على نتائج مؤتمر الحوار الوطني وعلى التسوية السياسية، أما أنصار الله فلم يكونوا إلا الحجر الذي ألقي في المياه الراكدة وكشف عن المستور والمخبأ حيث الأحزاب السياسية هشة وخارج الجاهزية والمجتمع المدني ضعيف وغير منظم، بينما تمتع أنصار الله بالحيوية والجاهزية والقدرة على التقاط اللحظة واستثمارها لصالحهم بالتحول من جماعة محاصرة في حيدان ومران إلى جماعة تسيطر على مناطق الكثافة السكانية في اليمن وتواجه العدوان السعودي باقتدار ملفت.
إن السياسة هي فن الممكن وليس فن المستحيل، والمجتمع الدولي الذي آزر عاصفة الحزم بترسانة من القرارات التي اعتبرت أنصار الله جماعة انقلابية متمردة على الشرعية ويجب محاصرتها وسحقها هاهو يعترف بهم عمليا ويتعامل معهم كحقيقة من حقائق القوة والسياسة في اليمن، بينما لا تزال الأطراف التي تعتبر نفسها شرعية تكرر شعاراتها التي تجاوزها الزمن وتريد أن تحارب إلى ما لا نهاية وحتى آخر يمني وكأنها لا ترى ما الذي يجري على الأرض وإلى أين سينتهي. وإني لا أجد ما أستدل به على بؤس هذه الشرعية سوى خالد الرويشان الذي يسرف في كتابة مقالات تحرض أبناء تعز ضد الحوثي بينما يعجز عن كتابة مقال واحد لأبناء خولان الذين يقاتلون معه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى