أحدث الأخبارشؤون آسيوية

كيف يمكن إنهاء “الاحتلال الرقمي” الإسرائيلي؟

مجلة تحليلات العصر الدولية / المدن

“الاحتلال الرقمي” هو التعبير الذي اختارته مجلة “فورين بوليسي” الأميركية العريقة، لتوصيف الممارسات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين في الفضاء الرقمي الذي كان يمثل مساحة آمنة يمكن للفلسطينيين التحدث مع عائلاتهم فيه بعيداً من مشهد الخضوع التقليدي للحواجز الإسرائيلي ونقاط الجيش، بالإضافة لكونه الطريقة الوحيدة لكثيرين من أجل التواصل مع العالم الخارجي.

لكن هذه الوسيلة مهددة بسبب التقاء قوى ثلاث: الأولى هي جهاز الشرطة والمراقبة الموسع للاحتلال، والذي يتم استخدامه لتتبع وترهيب وسجن الفلسطينيين في الأراضي المحتلة بسبب كلامهم في الإنترنت. والثانية عبارة عن شبكة من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية تستخدمها الحكومة الإسرائيلية لاستهداف التعبير المؤيد للفلسطينيين في جميع أنحاء العالم.

أما القوة الثالثة فهي الأكثر إثارة للدهشة، لأنها تتمثل بشركات وسائل التواصل الاجتماعي الأميركية، التي أبدت استعداداً لإسكات الأصوات الفلسطينية إذا كان ذلك يعني تجنب الجدل السياسي المحتمل والضغط من الحكومة الإسرائيلية. وتظهر هذه القوى معاً كيف يمكن لحكومة ديموقراطية ظاهرياً أن تقمع حركة شعبية في الإنترنت برضى المديرين التنفيذيين الليبراليين ظاهرياً في وادي السيليكون. وهذا سيمتد ليستخدم ضد الناشطين في أنحاء العالم.

وكان الفلسطينيون من أوائل المتبنين المتحمسين للإنترنت. على الرغم من أن أقل من 2% من الفلسطينيين كانت لديهم إمكانية الوصول إلى الإنترنت العام 2001، ارتفع هذا الرقم إلى 41% بحلول العام 2011، ما يجعلهم من بين أكثر المجتمعات اتصالاً في الشرق الأوسط، على الرغم من قيود الاستيراد الصارمة والحصار الدائم الذي حدد الحياة اليومية، والسيطرة الإسرائيلية شبه الكاملة على العمود الفقري المادي للإنترنت الفلسطيني.

وبالنسبة للشباب الفلسطينيين، قدمت وسائل التواصل الاجتماعي طريقة للتفاعل مع الهوية الثقافية والتاريخ المشترك. كما أنها مكنتهم من تنظيم احتجاجات ضد الاحتلال الإسرائيلي. لكن هذا تسبب بقلق متزايد للحكومة الإسرائيلية. فاستثمر الجيش الإسرائيلي بشكل كبير في قدراته على التأثير في الإنترنت، حيث قام بتجنيد المدونين ومصممي الغرافيكس وإنشاء وجود قوي في “فايسبوك” و”تويتر” و”يوتيوب”. وخلال أوقات النزاع، نظم طلاب الجامعات الإسرائيلية غرف “الهاسبارا” لإنتاج محتوى مؤيد لإسرائيل.

وعلى ما يبدو، لم يكن ذلك كافياً لتغيير الرأي العام العالمي الذي ظل ينتقد إسرائيل بشدة خلال عدواني 2012 و 2014 في غزة. وسقوط 1800 قتيل فلسطيني، كثير منهم من الأطفال. وامتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بالأدلة الدامغة على معاناة الفلسطينيين. وعليه، حولت تل أبيب انتباهها إلى وسائل التواصل الاجتماعي، وأنشأت شبكات من حسابات “فايسبوك” مزيفة لتسهيل المراقبة واعتقلت أكثر من 300 فلسطيني بسبب نشاطهم في الموقع الأزرق بزعم أنه يظهر “تحريضاً على العنف والإرهاب”. وفي العام 2016، أصدرت إسرائيل قانوناً صارماً جديدا لـ”مكافحة الإرهاب” وسّع تعريف التحريض ليشمل أي مظاهرة “تضامن”.

وجرّم القانون الجديد بشكل فعال، أي مدح أو دعم أو حتى عرض الأعلام المرتبطة بالتضامن الفلسطيني أو حركات الاستقلال. كما أنه مكّن الجيش الإسرائيلي من اعتقال الفلسطينيين بسبب المحتوى الذي ينشرونه في الإنترنت – حتى في المنطقتين “أ” و”ب” من الضفة الغربية. وبينما خفت حدة “انتفاضة الطعن”، فلم تهدأ الاعتقالات. ووفقاً للأرقام التي جمعتها منظمة حملة الحقوق الرقمية الفلسطينية “حملة”، تم اعتقال ما يقرب من 2000 فلسطيني بسبب منشورات في وسائل التواصل الاجتماعي منذ العام 2017.

وبحسب السلطات الإسرائيلية، فإن هذه الاعتقالات هي نتيجة للقدرات التنبؤية بمساعدة الذكاء الاصطناعي لاحتجاز المشتبه فيهم الذين قد يرتكبون أعمال عنف في يوم من الأيام. ويصرون على أن التكنولوجيا منعت مئات الهجمات، لكن من المستحيل التحقق من هذه المزاعم.

والحال أن هذه الدورة من المراقبة والاستجواب والسجن لها تأثير مخيف وواضح في التعبير الرقمي. ولا يستطيع الفلسطينيون معرفة متى يمكن أن تصنف الخوارزميات التنبؤية الإسرائيلية الدعوة إلى التضامن الوطني على أنها تحريض. ولا يمكنهم معرفة ما إذا كان “الاعجاب” في “فايسبوك” الموجه إلى أي عدد من الهيئات السياسية الفلسطينية يمكن تفسيره على أنه دعم للإرهاب، أو متى يمكن اعتبار مجموعة جديدة كياناً إرهابياً. لكن ما يعلمه الفلسطينيون فقط هو أنه في حالة حدوث الاعتقالات، فسيتم فصلهم عن عائلاتهم وإرسالهم إلى السجن لشهور أو سنوات.

وتمتد جهود إسرائيل لحظر الخطاب المؤيد للفلسطينيين إلى ما هو أبعد من منطقة الشرق الأوسط. ففي السنوات الأخيرة، مارست الحكومة والمنظمات الإسرائيلية ضغوطاً هائلة على “فايسبوك” لتبني تعريف جديد وواسع لمعاداة السامية. ويربط التعريف الذي نشره التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست “IHRA” العام 2016، الانتقادات الموجهة لإسرائيل بخطاب الكراهية المعادي لليهود. وإذا تم اعتماده من قبل منصات وسائل التواصل الاجتماعي، فإن مثل هذا التعريف الواسع من شأنه أن يقيد بشدة النقد عبر الإنترنت لسياسة الحكومة الإسرائيلية.

وأثار تعريف “IHRA” جدلاً حاداً داخل المجتمع اليهودي. وقام بعض اليهود بمقاومة الحركة لربط الصهيونية بشكل لا ينفصم باليهودية ككل. وفي حزيران/يونيو الماضي، أصدر أكثر من 200 باحث يهودي إعلان القدس حول معاداة السامية بهدف تحسين تعريف “IHRA” من خلال التمييز بين الانتقادات الموجهة لإسرائيل والصهيونية، وبين الهجمات على الشعب اليهودي. وكتبوا أنه من الأهمية بمكان محاربة معاداة السامية مع ضمان “نقاش مفتوح حول القضية الشائكة حول مستقبل” إسرائيل وفلسطين.

وبالنسبة للفلسطينيين، فإن نتيجة هذا النقاش قد تحمل عواقب وخيمة، لأن التبني الواسع لتعريف “IHRA” من شأنه أن يعيق مناقشة التاريخ الفلسطيني، والذي يتجذر في الطرد القسري للفلسطينيين من منازلهم أواخر أربعينيات القرن الماضي، والاحتلال العسكري الإسرائيلي الذي دام 53 عاماً للضفة الغربية وقطاع غزة. كما أن حظر بعض الانتقادات الموجهة لإسرائيل، سيؤدي بالضرورة إلى تقليص المساحة التي يمكن للمرء أن يعرب فيها عن دعمه لتقرير المصير للفلسطينيين.

إلى ذلك، أنشأت إسرائيل مؤسسات جديدة لمراقبة المنصات بشكل مباشر. فمنذ العام 2015، أدارت وزارة العدل الإسرائيلية وحدة إلكترونية أصدرت عشرات الآلاف من طلبات إزالة المحتوى إلى “فايسبوك” و”تويتر” و”يوتيوب”، بزعم التحريض العنيف أو دعم الإرهاب. ومن الناحية الفنية، فإن هذه الطلبات طوعية. وهي ليست ملزمة قانوناً، ورغم ذلك، امتثلت شركات وسائل التواصل الاجتماعي لطلبات وحدة الإنترنت في حوالي 90% من الوقت.

ولأن الفلسطينيين تبنوا النشاط الرقمي واعتمدوا عليه لتعزيز قضيتهم، أصبحت الحكومة الإسرائيلية تنظر إليه على أنه تهديد أمني، وفشلت شركات وسائل التواصل الاجتماعي إلى حد كبير في رسم مسار وسطي بين الطرفين، ما جعل الحكومة الإسرائيلية تمارس حملة ضغط قانونية وخارجة عن القانون منسقة لا يمكن للمديرين التنفيذيين في مجال التكنولوجيا تجاهلها.

ويمكن ملاحظة التحيز المنهجي المناهض للفلسطينيين في ممارسات تعديل المحتوى لشركات التواصل الاجتماعي. وكان هذا التحيز واضحاً في أيار/مايو الماضي عندما تظاهر الفلسطينيون ضد مصادرة الأراضي الإسرائيلية المزمعة في القدس المحتلة. وعلى مدار أكثر من شهر من احتجاجات الشوارع المتصاعدة وأعمال الشرطة الانتقامية، وثق موقع “حملة” ما يقرب من 700 حالة لمحتوى مؤيد للفلسطينيين تم حذفه أو تصغيره أو إخفاؤه بطريقة أخرى، غالباً من دون سابق إنذار أو تفسير مناسب عبر “فايسبوك” و”إنستغرام” و”تويتر” و”يوتيوب” و”تيك توك”.

ومع اشتداد الأزمة في أيار/مايو، أصبحت الفجوة الرقمية أكثر وضوحاً. وأي محتوى باللغة العربية يشاركه فلسطيني كان يُنظر إليه على أنه عمل “إرهابي محتمل”. ووفقاً لرصد منظمة “هيومن رايتس ووتش”، فإن أحد مستخدمي “إنستغرام” الذي شارك سلسلة من عناوين صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية حول الضربات الجوية الإسرائيلية ومصادرة الأراضي، تعرض للرقابة بإزالة منشوره لحث أتباعه على “عدم التنازل مطلقاً” عن حقوقهم بموجب القانون الدولي.

وتمت إزالة محتوى مستخدم آخر في “إنستغرام” لمشاركته صورة للأضرار التي أحدثتها القنابل الإسرائيلية في غزة، وفي الوقت نفسه ظل خطاب الكراهية ضد الفلسطينيين مرئياً بسهولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وتنبهت بعض المجموعات داخل شركات التواصل الاجتماعي الكبرى إلى التآكل المستمر للحقوق الرقمية الفلسطينية. وفي أيلول/سبتمبر الماضي، دعا مجلس الرقابة في “فايسبوك” إلى إجراء تحقيق مستقل في ممارسات تعديل محتوى “فايسبوك” تجاه المحتوى المؤيد للفلسطينيين لتحديد ما إذا كانت قد “طُبقت من دون تحيز”.

لكن تعاطف مجلس إشراف الشركة لا يوفر سوى قدر محدود من الراحة للفلسطينيين الذين تستهدفهم أجهزة الرقابة الإسرائيلية المتطورة. وتتمثل الخطوة الأقوى والأسرع في أن تلتزم شركات وسائل التواصل الاجتماعي بمراعاة قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 67/19، الصادر العام 2012، والذي يعترف بدولة فلسطين المستقلة ويمنحها مكانة كدولة مراقبة غير عضو في الأمم المتحدة.

ومن شأن مثل هذا الإجراء أن يضفي الطابع الرسمي على نوع من السيادة الرقمية الفلسطينية، ويضمن للفلسطينيين حقوقاً محدودة في التعبير عبر الإنترنت والإجراءات القانونية الواجبة بما يتجاوز وساطة مسؤولي الأمن الإسرائيليين. وما لم يتم اتخاذ إجراءات جذرية، فإن التوقعات قاتمة. ولطالما كان من البديهي أن الإنترنت هو حليف الناشطين والمستضعفين، على حد تعبير الناشط جون غيلمور، فهو “يفسر أي رقابة على أنها ضرر ويتجاوزها”.

وبالنسبة لقضية تقرير المصير للفلسطينيين، يبدو أن العكس هو الصحيح الآن. وأنشأت الحكومة الإسرائيلية سلسلة فعالة بشكل ملحوظ من الأنظمة لقمع الخطاب الفلسطيني. وقامت شركات التكنولوجيا، في سعيها لتقليل المخاطر القانونية والسياسية، بالباقي. والنتيجة هي أنه حتى مع اتصال الفلسطينيين بالإنترنت أكثر من أي وقت مضى، فإن مساحاتهم الرقمية لم تكن أبداً أصغر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى