أحدث الأخبارشؤون امريكية

لا عودة عن التطبيع: إسرائيل «منجاتنا»!

مجلة تحليلات العصر الدولية - محمد مهران / الأخبار

 

حضر السودان بقوّة في قلب حالة تعجّل واضحة في سياسات الرئيس الأميركي المنتهية ولايته، دونالد ترامب، في منطقة القرن الأفريقي الكبير، لإنجاز ملفات سياسية وأمنية وعسكرية، بما يرسم علامات استفهام كبرى حول طبيعة المقاربة الأميركية لهذه المنطقة، بدءاً بموقف ملتبس من نظام آبي أحمد الإثيوبي وشراكته الاستراتيجية – العسكرية مع إريتريا في مواجهة أزمة إقليم التيجراي (تشرين الثاني/ نوفمبر 2020)، مروراً بانسحاب عسكري متوقّع من ساحة الصومال بحلول منتصف كانون الثاني/ يناير المقبل، وصولاً إلى مواجهة نموّ النفوذ الصيني (المرشّح للتصاعد بشكل مستدام) وعلاقات بينية مضطربة بين دول الإقليم، الذي عُدّ منطقة نفوذ تقليدي للولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين. لكن ما مَيّز حضور السودان، المتقاطع في دوائر الاهتمام الدولية بحكم تكوينه العربي – الأفريقي سياسياً وجغرافياً، في مشهد ختام إدارة ترامب أعمالها في المنطقة، وقبل ساعات قلائل من إعلان جو بايدن رسمياً رئيساً مقبلاً، شطْب اسمه من قائمة الخارجية الأميركية لـ«الدول الراعية للإرهاب»، والتي أُدرج عليها منذ عام 1993، في خطوة اعتبرها رئيس الوزراء عبدالله حمدوك عودة إلى المجتمع الدولي «بتاريخ السودان وحضارة شعبه وعظمته وثروته»، فضلاً عن إسهامها المتوقّع في إصلاح الاقتصاد وخلق فرص العمل وجذب الاستثمارات. واتّساقاً مع هذه الرؤية المتفائلة، عَدّت الخارجية الأميركية الخطوة «تغيّراً جذرياً»، وشاهداً على دور الحركة الاحتجاجية في السودان في تحقيق شروط «هذا المسار الجديد»، ولا سيما أنها جاءت على خلفية تعهّد حكومة حمدوك غير المنتخَبة بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل.

المسار الاقتصادي
يُتوقّع أن يكون للخطوة الأميركية تأثير مباشر على السماح باندماج النظام المالي السوداني في الشبكات الدولية التي تَستخدم الدولار، وتيسير تحويل المخصّصات إلى السودان ومنه، مع ملاحظة أن غالبية هذه المكاسب ذات طبيعة آنية، ولا سيما في التجارة والأنشطة المالية اليومية، لكن التغيّرات الكبرى لن تتحقّق إلّا مع قدوم استثمارات كبيرة من كبريات مؤسسات الإقراض في العالم. ولا يمكن فصل هذا المسار عن دخول السودان في أيلول/ سبتمبر من العام الجاري في برنامج مراقبة لمدّة عام مع «صندوق النقد الدولي»، يُتوقّع في نهايته (أيلول/ سبتمبر 2021) حصول الخرطوم على قروض واستثمارات كبيرة، وهو ما أشار إليه وزير الخزانة الأميركي، ستيفن منوتشين، بعد وقت وجيز من صدور القرار، بقوله إن واشنطن ستساعد الخرطوم في الحصول على تمويل من المقرضين الدوليين والتفاوض على الإعفاء من ديون خارجية تصل إلى 60 بليون دولار. كما تأمل الخرطوم أن يُيسّر القرار وصولها إلى معدّات وبرمجيات في قطاعات الرعاية الصحية والطاقة والنقل والتعليم والبنية الأساسية.

مع ذلك، يصعب على المدى القصير تحقيق السودان قفزة في مؤشّراته الاقتصادية في عام 2021، في ضوء تحقيقه نموّاً سلبياً للناتج المحلّي الإجمالي بقيمة 4.9%، واستقرار التضخّم فيه عند مستوى 61.5% في عام 2020، وتوقع ارتفاعه إلى 65.7% في عام 2021، بدافع رئيس هو التحوّل النقدي للعجز المالي الذي انخفض من 7.7% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2018، إلى 5.7% في العام الفائت، قبل أن يرتفع في عام 2020 إلى 9.9%، ويُتوقّع أن يواصل ارتفاعه في العام المقبل إلى 10.9%، مع استمرار الآثار السلبية لجائحة «كوفيد – 19» على رغم توقّعات التعافي في عام 2021. وهي تأثيرات مضاعفة في الحالة السودانية، حيث تشمل ارتفاع أسعار الأغذية الأساسية ومعدّلات البطالة وتراجع الصادرات، ما يعزّز احتمال استمرار الركود الاقتصادي في عام 2021.
وبشكل عام، فإن حكومة حمدوك تأمل في الوصول إلى مخصّصات عاجلة من «صندوق النقد الدولي» للتغلّب على تعثّرها الاقتصادي، والدفع بقوّة للحصول على إعفاء من جزء من الديون البالغة قيمتها 64 بليون دولار، وإعادة إدماج السودان في الاقتصاد الدولي.

المسار السياسي
جاءت الخطوة الأميركية وسط جدل سوداني محتدم حول قانون أميركي لمراقبة المرحلة الانتقالية في السودان، شمل بنوداً تتعلّق بمراقبة المؤسّسات الاقتصادية التابعة للجيش السوداني، وما يؤشّر إليه ذلك من إعادة ضبط الموازنات العامة السودانية في الفترة المقبلة، وخفض نصيب البنود العسكرية والأمنية منها. لكن خطوة واشنطن حظيت بتقدير بالغ من عبد الفتاح برهان، رئيس مجلس «السيادة»، الذي عدّها «قراراً تاريخياً» لإدارة ترامب، سيسهم بدوره في «الانتقال الديمقراطي». ويواجه مشروع «الحصانة القانونية للسودان»، الذي أعدّته الخارجية الأميركية، انتقادات من نوّاب ديمقراطيين في مقدّمتهم تشاك شومر وروبرت مينيندز، اللذان قدّما بدورهما مقترحين «لتجاوز مشكلات عصية في الاتفاق الذي توصّلت إليه الخارجية مع السودان، ويضع على نحو مأساوي مجموعتين مختلفتين من الضحايا، إحداهما تواجه الأخرى».
وتسود قناعةٌ، قطاعاتٍ واسعة من الشعب السوداني، بأن الاتفاق تمّ التوصّل إليه بالفعل منذ نهاية تشرين الأول/ أكتوبر، وأن رفع اسم السودان من «القائمة السوداء» واستعادته حصانته السيادية كدولة من الملاحقات القضائية في قضايا الإرهاب ورعايته، ظلّا مشروطين بالصفقة الثلاثية بين الولايات المتحدة وإسرائيل والسودان. ولا يزال الأخير بحاجة إلى تمرير الكونغرس الأميركي لقانون الحصانة، لتجاوز مرحلة تخوّف المستثمرين الأجانب من دخول السوق السودانية. كما لا تزال المفاوضات بين إدارة ترامب وأعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين حول القانون المذكور جارية. ولكن، يلاحظ خبراء أنه حتى في حال فشل إقرار «الحصانة»، فإن السودان لن يتراجع عن تطبيع علاقاته مع إسرائيل التي تحظى بتأثير تقليدي لدى الولايات المتحدة، ويمكنه بالتالي مواصلة حركة التجارة معها من دون التعرّض لعقوبات أميركية.

ملف التطبيع
يحضر ملف تطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل في قلب مرحلة ما بعد رفع اسم الأوّل من القائمة المذكورة. ويعزّز فرضيةَ رهن واشنطن لخطوتها بالتطبيع، التعاونُ الأمني المعروف بين الرئيس المعزول والولايات المتحدة، ولا سيما في ملفّ «مكافحة الإرهاب»، قبل سقوط عمر البشير بسنوات، وحقيقة أن المحادثات الأخيرة لم تبدأ إلّا في وقت متأخر بعد رفع واشنطن عدداً من العقوبات في عام 2017، وانطلاق المحادثات الثنائية رسمياً في العام التالي. لكنّ تلك المحادثات اتّسمت لاحقاً بالبطء والتعقيد البالغَين، حتى تلقّت دفعة كبيرة في صيف العام الجاري، مع سعي إدارة ترامب للضغط على الدول العربية وتحفيزها لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل. وحدث التطوّر الأبرز في هذا الملف في 23 تشرين الأول/ أكتوبر الفائت، عندما وافق السودان على الاعتراف بإسرائيل، وتلا ذلك تعهّد ترامب برفع اسمه من «قائمة الدول الراعية للإرهاب». ولا يمكن تجاهل استباق قرار ترامب بلقاء مهم وشامل (13 كانون الأول/ ديسمبر) بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ومستشار الأمن القومي الأميركي روبرت أوبريان، في القدس للتباحث في شأن «اتفاقات أبراهام»، وكذلك اجتماع الأخير الموسّع بنظيره الإسرائيلي مائير بن شبات، ومنحه إياه «وسام شرف وزارة الدفاع الأميركية للتميّز في الخدمة العامة» (من أرفع الأوسمة الأميركية لغير الأميركيين) لإسهامه الكبير في الاتفاقات. وبينما لاحظت إذاعة الجيش الإسرائيلي أن القرار صدر على الرغم من عدم توقيع الخرطوم وتل أبيب اتفاق عودة العلاقات، وأن المفاوضات بهذا الخصوص لا تزال جارية، يُتوقع أن يحظى ملف التطبيع بدفعة كبيرة في الأسابيع المقبلة، ليُشكّل العامل السياسي الأهمّ في هذه المرحلة في سياسات السودان الخارجية، ويتشابك بقوة مع إعادة تموضع الخرطوم إقليمياً على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى