أحدث الأخبارلبنان

لبنان: يا سيّد حسن… سنسلّمكم عيتا بمفتاح النصر

العصر-رغم مرور 16 عاماً على عدوان تموز، لا يزال العدو الإسرائيلي يحاول تفسير ظواهر عجيبة ظهرت أمامه وأعاقت تقدّم دباباته ومشاته نحو عمق البلدات الحدودية. إحدى أبرز العجائب، مواجهات عيتا الشعب، حيث استطاعت ثلة قليلة صدّ العدو من اقتحام البقعة ذات المئة متر في الحارة الفوقا الحدودية. هناك صمدوا طوال 33 يوماً وعادوا حاملين بشارة النصر القادم. فأيّ سرّ حملته عيتا المنسيّة منذ أن اصطادت جنديين صهيونيين في خلة وردة لتبادلهما بعميد الأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية سمير القنطار، حتى صارت نموذجاً في القتال العسكري؟
سرّ العجيبة في أبطال المواجهات أنفسهم. هنا حكاية “أبو الشهيد”، الذي بشر السيّد حسن نصرالله بالنصر الآتي من الحارة الفوقا.

لن ننسحب
في عزّ الحصار المطبق على المقاومين في عيتا الشعب خلال عدوان تموز 2006، تجرّأ محمد السيّد على إطلاق الوعد الصادق: سنسلّمكم عيتا بمفتاح النصر. عبارة قالها لمحدّثه عبر الهاتف اللاسلكي في غرفة العمليات. بالصدفة، كان يجلس بالقرب من الهاتف عندما رنّ. أجاب، فسمع صوتاً لم يتعرّف إليه، يطلب من المقاتلين بأن ينسحبوا من عيتا حرصاً على سلامتهم. لم يكن محمد محمد الملقّب بـ”السيّد”، قائد المجموعة، كما لم يكن مقاتلاً منظّماً في حزب الله أو سواه عند اندلاع العدوان. لكنه استُفزّ من حديث المتصل. أجابه حاسماً: “لن ننسحب مهما كلّف الأمر. إما أن نستشهد أو نسلمكم مفتاح النصر”. أنهى حديثه ونادى على قائد المجموعة أبو محمد سلمان ليتسلّم الهاتف. “تعا شوف مين هيدا الي بدو يانا ننسحب” قال بسخرية وغضب. لم يكن محمد يعلم بأن المتصل هو السيّد حسن. هدّأ أبو محمد سلمان من روعه وشرح له وجهة نظر قائد المقاومة. “نزلت دمعتي لما عرفت بأن المتصل كان السيّد حسن، الذي في عزّ الحرب، يحمل همّ آخر مقاتل في آخر نقطة من الجبهة ويفضّل سلامته على أيّ شيء آخر” قال. لكنّ الوعد الذي تعهّد به للسيّد حسن من دون أن يعرفه، كان موقناً بالقدرة على تنفيذه. “نحن أصحاب الأرض الذين نتحوّل إلى مقاتلين مهما كنا. فكيف ننهزم؟”.

جاءت الرزقة
إثر حصول عملية أسر الجنديين الإسرائيليين في خلّة وردة، المقابلة لمنزله صبيحة 12 تموز، استبشر محمد السيّد (60 عاماً) خيراً. “إجت الرزقة” قال. المقاتل المتدرّج من فصائل المقاومة الفلسطينية ثم المقاومة المؤمنة، انتظر طويلاً موعد الثأر وجهاً لوجه من العدو عمّا ارتكبه بحق عائلته والجنوبيين واللبنانيين. “عمي محمد استشهد عند اغتصاب فلسطين ضمن حركات المقاومة داخل الأراضي المحتلة. ووالدي علي انتمى إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي وسُجن بسبب مواقفه الوطنية والمعادية للمحور الأميركي وحلفائه. أما أنا فقد نشأت في المقاومة الفلسطينية في مقابل الاعتداءات الإسرائيلية على بلدتنا”. خلّة وردة نفسها شكّلت حافزه الأول للثأر منذ كان في الثانية عشرة من عمره. حينها، قصف العدو العجوزين علي رحيل وزوجته زينب رضا بينما كانا يزرعان حقلهما هناك. وعند اجتياح عيتا عام 1978، نزح محمد وغالبية شبان البلدة باتجاه صور وبيروت. هناك طورت دراسته كفنيّ كهرباء السيارات من مهارته في صناعة العبوات لاستخدامها في عمليات المقاومة.
قبل التحرير بسنوات، استقرّ في عيتا الشعب بعد زواجه وإنجابه، ناجحاً في تمويه نشاطه المقاوم، لكنّ أمره كُشف عام 1997. اقتيد إلى معتقل الخيام، ثم اعتُقلت زوجته فاطمة للضغط عليه لكي يعترف. أُفرج عن الأخيرة بعد حملة تضامن دولية قادتها زميلة زنزانتها سهى بشارة بعد تحريرها. أما هو، فقد تحرّر مع عيتا في 23 أيار 2000. لكنّ روحه لم تتحرّر. كان يحلم بكوابيس تستعيد تعذيب الأسر وتشرّد أطفاله يوسف وهشام وعلي باعتقال الوالدين. أما ما دفعه لتناول الحبوب المهدّئة، فهو رؤية العملاء يجولون ويصولون من دون خجل، بين الناس بعد نيلهم أحكاماً مخفّفة.



تشكيل مجموعة مقاومة
ظلّ أبو يوسف يشتري الذخيرة للحرب المقبلة إلى أن وقعت قبالة منزله بعد ست سنوات. “كنا عم نشك دخان لما طلع صوت الرصاص”. سريعاً، اتصل بأصدقائه المقاومين في حزب الله، عارضاً تشكيل مجموعة من المقاتلين والمتطوّعين. بعد ساعات ومع اشتداد القصف على البلدة، غادرت غالبية الأهالي وبقي عدد من شبان البلدة، آزروا مقاومين من خارجها على تسطير أبرز بطولات تموز 2006.
يشير السيّد إلى أن “النقل المباشر الذي بثثْناه عبر أجهزة اللاسلكي لمجريات معركتنا وجهاً لوجه مع العدو، رفع معنويات العسكر على الجبهات”. يستذكر كيف “كشفنا قوة معادية حاولت اختراقنا. سمحنا لها بالاقتراب منا قبل أن نحشرها في كاراج. فبادر أبو محمد سلمان إلى قصفهم بالمباشر. قُتل 13 جندياً. بشّرنا الإخوان على الجهاز بأن الجيش الذي لا يُقهر، ها هو يفرفر تحت أقدامنا”.

استشهاد يوسف
لكنّ القوة المعادية الثانية التي تسلّلت باتجاههم في 2 آب، واجهها ابنه يوسف ومقاوم آخر قرّرا التصدي للجنديين. استشهد يوسف في الاشتباك على بعد أمتار قليلة من موقع والده. ما إن تلقّى الخبر، حتى تزوّد بالذخيرة وهمّ نحو الجنديين وقتلهما على الفور. ثم اتجه نحو جثة ابنه ولفّها بحصيرة طارت من حطام بيت مدمّر وثواها تحت شرفة ليحميها من الحيوانات. بقيت الجثة مع جثث تسعة مقاومين من عيتا في العراء حتى انتهاء العدوان في 14 آب. يقرّ “أبو الشهيد” بأنه لم يكن في كامل وعيه حينذاك. مرّ شريط حياة ابنه أمام عينيه، من رفضه شراء بضاعة إسرائيلية من الدكان إلى رعاية إخوته خلال اعتقال والديه، وصولاً إلى تفضيله القتال في عيتا على السفر لاستكمال الدراسة في فرنسا.

بشّر محمد محمد بالنصر من عيتا وقدّم ابنه يوسف شهيداً
حظي يوسف بقادة عظام صنعوا مجده من والده إلى الشهيد راني بزي، بطل تدمير دبابات الميركافا في وادي الحجير وتلة مسعود، الذي كان أستاذه في مهنية بنت جبيل. الأخير اصطحب معه إلى الجبهات والشهادة 13 من تلاميذه خلال العدوان. وآخر القادة أبو محمد سلمان الذي استشهد لاحقاً في العراق عام 2014.

لا للتطبيع
مجدّداً، يعدّ أبو الشهيد العدّة للحرب المقبلة. “هناك ثأر جديد مع صهاينة الخارج والداخل”. يخشى على الجيل الجديد حتى من أبناء الجنوب المحرّر بأن يعتاد على خطاب التطبيع. “معظمهم لا ذاكرة لديه عمّا عانيناه خلال الاحتلال وعمّا دفعناه ثمناً للتحرير”. ابنه الأصغر علي، الذي اختار دراسة التمريض ليجاهد في السلم والحرب، اعتاد سماع ثقافة الهزيمة من أبناء جيله ممن ولدوا بعد التحرير، ولا سيما بعد الأزمة الاقتصادية الراهنة. “أحد زملاء العمل في مستشفى جنوبي، لم يخجل من القول زهقنا من الحرب. ما المشكلة في السلام مع إسرائيل. بدنا نعيش ونأكل ونشرب”. أجابه: “عندما ترى أمك وأباك معلّقيْن على عَمود في معتقل الخيام ويبقى شقيقك شهيداً في العراء لـ12 يوماً، عندها لن تقوى على التلفّظ بكلمة إسرائيل”.


يفاخر علي بأن خلة وردة التي صارت أيقونة، تهزم العدو يومياً. هو وأصدقاؤه صنعوا عرزالاً عند الحدود مباشرة “جكارة بالهامر”. فيما تمدّد العمران باتجاه الخلة “جكارة” أيضاً. “نبتت فوق نصر عملية الأسر، أسباب كثيرة للحياة”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى