أحدث الأخبارلبنانمحور المقاومة

لماذا فشل ماكرون في مبادرة متأرجحة؟

مجلة تحليلات العصر-قاسم عزالدين

يبدو الرئيس الفرنسي متنصّلاً من المسؤولية عن فشل مبادرته، في توزيع التهم، أملاً ببقاء رجل في البور ورجل في الفلاحة، لكنه يُثبت أن فرنسا أعجز من التغريد خارج السرب الأميركي.

ليست هي المرّة الأولى التي يتطلّع فيها الرئيس الفرنسي إلى طموحات لا يقدر عليها إذا نهرته أميركا. وعلى الأرجح، لن تكون الأخيرة، فالطبع البونابارتي يغلب على التطبّع، لكن العين بصيرة واليد قصيرة، كما يُقال في أرياف بلادنا.

منذ بداية عهده بالرئاسة الفرنسية، وزّع ماكرون الأحلام الكبيرة بشأن إعادة بناء أوروبا واستقلالها عن التبعية الأميركية، ثم زاد عليها في أحرج الأوقات مع أميركا حديثاً عابراً عن جيش موحّد، مدغدغاً طموحات شارل ديغول نحو أوروبا القوّة المستقلّة بين المعسكرين من الأطلسي إلى الأورال، لكن ماكرون، ومعه ألمانيا وأوروبا، لم يستطع أن يتقدّم بوصة في اتفاق “أستكس” مع إيران، حين أشارت أميركا بطرف لسانها إلى ضرورة تهذيب “السلوك الأوروبي”.

فقدان الزخم الماكروني في لبنان هو في سياق تراجع أوسع في شرق المتوسّط، حيث حسمت أميركا حدود الصراع الفرنسي مع تركيا تحت سقف المواجهة الساخنة، ما اضطر ماكرون إلى الاتصال بإردوغان بعد التهديد بالثبور وعظائم الأمور.

أميركا التي أتاحت ولادة مبادرة ماكرون في لبنان كانت متأرجحة بين التهدئة والتصعيد. وبدت إدارة ترامب أكثر ميلاً إلى انتظار نضوج جماعاتها بثقل سياسي يوجّه التصويب نحو سلاح المقاومة، بدلاً من الالتفاف على هذا الهدف في أقاويل اللجوء إلى الشرعية الدولية والعربية، فعبّر ديفيد شنكر بعد ديفيد هيل عن هذا المنحى في لقائه مع جماعاته من القوى السياسية والمنظمات غير الحكومية التي طالبها بالتحوّل إلى تيّار سياسي فاعل وشعارات واضحة وصريحة.

إدارة ترامب المتخبّطة على الدوام بين الشيء وعكسه، غيّرت منحى التهدئة إلى التصعيد الذي توّجه تصريح بومبيو ضد حزب الله وخطاب الملك السعودي غير المسبوق بعدائيته السافرة. ولم يستطع ماكرون في لقائه الصحافي أن يتجاهل هذا المتغيّر في إشارته إلى العقوبات الأميركية التي وتّرت الأجواء، كما قال، وفي إشارته إلى التدخلات الخارجية التي لم تكن إيران من بينها، بحسب اعترافه.

لكن ماكرون الذي انحنى بدوره مع المتغيّر الأميركي، لم يشر إلى مسؤوليته الخاصة في هذا الانحناء، بل على العكس من ذلك، فإنه ينأى بنفسه عن المسؤولية في إحالة القضيّة إلى مجهول لدى الحديث عن أن الكل سواسية في أمر الإعاقة، ولدى الحديث عن الحزب والشيعة في أمر السلاح لقتال “إسرائيل” وما اخترعه “من قتل المدنيين في سوريا”.

ربما يكشف ماكرون كشفاً يضاهي نظرية أرخميدوس حين يلوم الرئيس سعد الحريري الذي “تجرّع السمّ” في إضافة المعيار الطائفي إلى توزيع الحقائب الوزارية، لكنه يؤكد في الوقت نفسه بأنه “يعمل وفق اتفاق الطائف” الذي يقسّم الوزارات والدولة والثروات العامة والرعايا وكل شيء محاصصة بين زعماء الطوائف.

فمن أين يأتي تناقض ماكرون العاري؟ إنه يأتي من فذلكة تشيعها الاستخبارات الأميركية والغربية، ويتبنّاها الّذين يتربّصون بسلاح المقاومة، ومفادها أن الظرف الحالي لإنجاز “حكومة المهمة” يقتضي تولّي “نادي رؤساء الحكومات” المشبعَة بالفساد والأكثر مسؤولية عن انهيار الاقتصاد والدولة، بالتوافق مع جعجع وجنبلاط، تأليف “حكومة اختصاصيين” من ربعهم وأعوانهم، وأن يثبّتوا في الظرف العصيب حق رئيس الحكومة باختيار وزراء الطوائف جميعها من الذين ينخرطون في سياساتهم القديمة – الجديدة، فيحاولون تسجيل انتصار سياسي استناداً إلى ماكرون وأميركا والسعودية لتأويل اتفاقية الطائف.

كان ماكرون قد أشار في مبادرته إلى علّة اتفاقية الطائف التي تقسّم الوزراء والدولة محاصصة، وأعرب عن طموحه لتغييرها على طاولة مستديرة في باريس، لكنّه بقدرة قادر ينحني إلى الرغبة الأميركية ــ السعودية في تسليم جماعات أميركا من الطبقة السياسية الفاسدة مفاتيح الحلم بنصر طائفي وسياسي إلى الجماعات الأكثر فساداً وطائفية، بذريعة اختيار “مختصّين تكنوقراط” تحت إمرتها السياسية، وتحت ولائها لأميركا والسعودية في الاتجاه نحو الأسرلة الجديدة.

ادّعاء ماكرون الحرص على مساعدة اللبنانيين في مبادرته، يقتضي عمله عكس ما ذهب إليه بالتمام والكمال، فإذا لم يكن قادراً على تأليف “حكومة وحدة وطنية” كما توخّى في البداية، أو لم يستطع الضغط لتأليف “حكومة توافق”، فمسؤوليته هي على الأقل تحييد “حكومة المهمة” عن حصان طروادة وعن سياسات “نادي رؤساء الحكومات” والجماعات الأميركية الأخرى، وهو أمر يتطلّب من أجل ضمان نجاح المبادرة في الحدّ الأدنى عين حزب الله في الحكومة، إلى أن يتم الاتفاق على وثيقة أخرى.

الغريب أنَّ ماكرون يتّهم حزب الله بقتل المدنيين في سوريا، في وقت تشنّ “داعش” سلاحاً أبيض في شوارع باريس. ولو لم يقضِ حزب الله على رأس الأفعى التي غذّتها الاستخبارات الفرنسية والغربية والخليجية في سوريا والمنطقة، لما تقلّصت همجية داعش في المنطقة والعالم، فحزب الله الذي يدافع عن الإنسانية لا يطلب من ماكرون وغيره جزاءً ولا شكوراً، لكن قلّة الإنصاف بَشعة، وليس من المستغرَب أن يرى ماكرون حزب الله الذي يقاتل “إسرائيل” حزباً ضد الدولة، فقد مضى زمن طويل على تجربة فرنسا التي بنت الجمهورية الخامسة بعد هزيمة النازية، وليس ماكرون من هذا الإرث السياسي، وليس من إرث رجال الدولة الذين يتحمّلون مسؤولية الاعتراف بالتقصير والفشل، لكن وفي كل الأحوال، تقول العرب: الخيبَة تهتك الهيبَة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى