أحدث الأخبارلبنانمحور المقاومة

لماذا يكذب السياسيون .. ولماذا يصدقهم الناس ؟

مجلة تحليلات العصر الدولية - توفيق شومان

العديد من السياسيين اللبنانيين ( والعرب ) ، امتهنوا السياسة كذبا وخداعا ، وإلى حدود بات معها الفعل السياسي مرادفا للكذب ، ومع ان علم السياسة في نشأته اليونانية يبحث في كيفية تنظيم شؤون الجماعة عبر توأمة الأخلاق والسياسة ، فالممارسة السياسية في أحوالها اللبنانية والعربية استقرت على كونها نظيرا للدجل وانعكاسا للقوة والغلبة ..
في الموسوعة اللغوية الضخمة ” لسان العرب ” ، والتي يحفظ العرب عنوانها ظهرا عن قلب ، يعطي إبن منظور تعريفا للسياسة فيقول ” السياسة : القيام على الشيء بما يصلحه “.
ولكن كيف يصلحه ؟
يجيب إبن منظور قائلا ” السياسة فعل السائس ، يقال : هو يسوس الدواب ، إذا قام عليها وراضها ، والوالي يسوس رعيته ، ويقول ابو زيد : سوس فلان لفلان أمرا فركبه ، وقال غيره : سوس له أمرا أي روضه وذلل “.
الحصيلة في تعريف إبن منظور للسياسة تنطوي على مصادر الأفعال الثلاثة هذه : الركوب ـ الترويض ـ التذليل ، وفي ذلك قال الشاعر الحطيئة ( ت ـ675م ) :
لقد سوست أمر بنيك حتى / تركتهم أدق من الطحين .
السياسة في اللغات الفرنسية Politique والإنكليزية Policy والإسبانية والإيطالية Politica وغيرها من فروع اللغة اللاتينية تستمد تعريفها من الجذر اليوناني ـ الإغريقي Polis والتي تعني المدينة ، وبهذا المعنى يغدو تعريف السياسة تنظيم شؤون المدينة.
لنلاحظ الفارق الكبير بين تعريفي السياسة ، أي بين الركوب على الرعية وبين تنظيم أحوال المدينة .
وعلى أساس هذا التعريف بدلالته العربية واللبنانية ، تتحول السياسة أداة للتغلب على الداخل بهدف الإمساك بالسلطة بإعتبارها غنيمة لا يمكن التنازل عنها أو المساومة عليها ، ولأجل ذلك ، يصار إلى استخدام كل الوسائل للإحتفاظ بها ، سواء عن طريق القوة ، أو الإغراء بالمال ، أو انتهاج سياسة الكذب بغية غسل الأدمغة وإنتاج “حقائق” مزيفة .
في كتاب ” تاريخ الكذب ” يصنف الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (1930 ـ 2004) المكذوب عليهم بأنهم ” آخرين ” بالنسبة للرجل السياسي ” فالكذب يعني دائما خداع الآخرين عن قصد ووعي ودراية كاملة “، وهذا يعني بحسب دريدا بأن ” الآخرين ” بمثابة العدو “.
وإذ يتطرق جاك دريدا إلى نماذج عدة ومناهج مختلفة من الكذب والخداع ، فالملاحظ أن مجملها يدور في فلك السياسات الخارجية ، وهذا أمر كانت الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت (1906 ـ 1975) قد تناولته في كتابها ” الحقيقة والسياسة ” حيث تقول ” الكذب التقليدي لم يكن يعني سوى الخواص ، والخداع كان موجها ضد العدو فقط “.
يبدو الأمر طبيعيا ومنطقيا ، أن يمارس أهل السياسة الخداع والكذب على اعدائهم الخارجيين ، ولكن أن ينتهجوا مذهب الكذب تجاه جمهورهم وبني أوطانهم ، فذلك يعيد سؤال السياسة إلى ” لسان العرب ” وإبن منظور ، وما يعنيه من ركوب الدابة وترويضها ، وفي الواقع العملي لا يعني الترويض سوى إصرار وسعي رجل السياسة للإحتفاظ بالترؤس والتسلط ، ألا يعني الترويض تسلطا ؟.
كيف يمارس السياسيون الكذب؟
يحدد جون ميرشمير في كتابه ” لماذا يكذب القادة ؟ ” سبع أكاذيب ” استراتيجية ” يلجأ إليها رجال السياسة في مجال حرفتهم ومهنتهم ، صحيح أن تلك الأكاذيب تستمد ذرائعها من مفترضات وادعاءات التهديد الخارجي ، غيرأنها تستهدف الجمهور الداخلي ، ومن نماذج الأكاذيب :
ـ زراعة الخوف : الغاية من هذه الأكذوبة ” إثارة حالة خوف غير موجودة في مخيلة الشعب عبر تضخيم التهديد الخارجي بعدما يتراءى للقادة أن الشعب قد تراخى ” .
وعلى أساس هذه المنطق يرى السياسيون ” أن الطريقة الوحيدة لتحريك الشعب هو خداعه ، وأكثر المواطنين لا يملكون الذكاء المطلوب للتعرف على الخطر ، والعامة عرضة للجهل والغباء والجبن “.
هذه الأكذوبة على الشعب لها معنى واحد ، أن رجال السياسة يرمون الناس بالجهل والغباء.
ـ التغطية على الحقائق : يلجأ السياسيون إلى الكذب بهدف ” إخفاء سياسات فاشلة أو سياسات مثيرة للجدل ” ، ويظنون أنهم يحمون الدولة ـ او الجماعة ـ جراء اكذوبتهم تلك ، فتكون النتيجة حماية الرجال الفاشلين وغير الأكفياء والتغطية على السياسات الغبية .
ـ التغطية الشنيعة : وهي سياسة الكذب الناتجة عن ” تخبطات القادة أو سياساتهم الفاشلة لمصالح شخصية ، ويكون هدفهم في هذه الحالة حماية أنفسهم أو حماية أصدقائهم من عقاب مستحق “.
ـ حراسة الهوية : غالبا ما يرفع السياسيون من قيمة هوية الدولة أوالجماعة ، فيُسقطون على ماضي الجماعة مآثر وأمجادا ، ويروجون لمقولة ” نحن دائما على حق وهم دائما على خطأ ” ، كما أنهم ينفون وينكرون أن تكون مجموعتهم قد قامت بارتكابات واقترافات ، ألا يمكن استحضار النموذج اللبناني في هذا المثال؟.
ـ حماية المصالح : يطلق القادة أكاذيبهم بإتجاه الخارج ” بهدف تنمية مصالحهم السياسية والإقتصادية أو لمصلحة طبقة اجتماعية أو مجموعة بعينها ، ويستهدف هذا النوع من الأكاذيب صرف نظر الشعب عن مشاكل أو قضايا مثيرة للجدل في الساحة المحلية “.
إذا كانت هذه الأكاذيب ، قد باتت تقليدية ومعروفة لدى شرائح واسعة من الناس ، فكيف يمكن تفسير استمرار نجاحها ونجاعتها ؟
الإجابة على ذلك تتطلب العودة إلى تصنيف الناس إلى فئتين : فئة لديها الدراية والخبرة وفئة الجمهور ، الأولى ضيقة والثانية واسعة ، وحيال الفئة الأولى كتب جون ميرشمير في كتاب ” لماذا يكذب القادة ” فقال :
” اسلوب الخداع قد لا ينجح مع المتعلمين المتمردين ، لأنهم بطبيعة الحال يدركون ما يجري حولهم ، ومن الصعب ان تنطلي عليهم الكذبة ، فيكون الحل بإثارة الذعر لتحريك الجمهور الأوسع واستعدائه تجاههم ، وأخيرا سوف يجد هؤلاء المتمردون أنفسهم في عزلة عن الآخرين وفي وضع مشبوه ، مما قد يؤثر في مستقبلهم المهني الذي قد يصبح مهددا ، فيضطرون إلى التخفيف من انتقاداتهم ، أو يهادنون أو يلتزمون الصمت أو ربما يغيرون أقوالهم “.
شي من هذا القبيل ، كان تحدث عنه المفكر الإيطالي نيقولا ميكافيللي (1469 ـ 1532) في كتابه ” الأمير ” فقال ” عامة الناس يحكمون على الأشياء من مظهرها الخارجي ، وهذا العالم لا يتكون إلا من هؤلاء العامة ، أما غير الساذجين فهم قلة تنعزل حين تجد الكثرة مجتمعة حول الأمير”.
والسؤال حيال ذلك : لماذا تصدق العامة ـ وهي الأكثرية ـ أكاذيب السياسيين كما يقول ميكافيللي؟
عالم النفس الأميركي الشهير بول إيكمان ، يرى أن عامة الناس تميل إلى التصديق ، لأسباب شتى، عاطفية ونفسية وسياسية ، وليس من السهل أن تحيد عن شخص ما إذا اكتشفت كذبه ، فذلك يولد آلاما نفسية بليغة ، وينطبق هذا الأمر على سلوك الأفراد وسلوك الجماعات ، وانطلاقا من هذا الأمر يتطلب الإنفكاك عن الشخص الكاذب فترة زمنية ليست قصيرة .
بصورة عامة ، يتشكل مستوى مخاطر الكذب السياسي من عاملين اثننين :
ـ الأول : إدراك رجال السياسة اتجاهات عواطف الناس نحوهم ووقوفهم على صورة التفسير الخارجي للظواهر والأحداث ومن دون التدقيق بها .
ـ الثاني : حاجة الجمهور أو فئات واسعة منه إلى استشعارالتفوق والحماية النفسية الجماعية بعدما تكون زراعة الخوف قد وصلت إلى ذروتها ، وفي هذه الحال، حتى لو اكتشف الجمهور الكذب السياسي سيرفض الحُكم عليه بكونه كذبا ، لإعتبارات وقناعات أهمها خوفه من خسارة عناصر الحماية النفسية التي يكون قد راكمها على مدى سلسلة زمنية طويلة ، وهذا الخوف يجعله بين خيارين : الإستمرار في تصديق الكذب السياسي أو الوقوع في العراء ، ومن الطبيعي ألا يختار العراء ، او على الأقل لا يتعجله قبل إعادة ترميم النفس المنكسرة.
يقول المفكر الفرنسي غوستاف لوبون (1841 ـ1931) في كتابه الشهير ” سيكولوجيا الجماهير” إن حدود اللاشعور تحرك الجمهور” فيتلقى بطيبة خاطر كل الإقتراحات والأوامر ولديه سرعة تصديق منقطعة النظير” ، وأما لماذا ذلك ؟ فلأن ” الظواهراللاواعية تلعب دورا حاسما في اشتغال الذهن وآلية العقل ، والحياة الواعية للروح البشرية لا تشكل إلا جزء ضعيفا بالقياس مع الحياة اللاواعية ، ولفهم ذلك لا بد من التذكير بكيفية الإنتشار السريع للحكايات الغريبة والشاذة “.
وبناء على ذلك يطرح السؤال الكبير نفسه : ما شرعية ومشروعية الكذب السياسي وهل يمكن ممارسة السياسة بعيدا عن الكذب والخداع ؟
ثمة إجاباتان معاصرتان :
ـ واحدة للمفكر الأميركي من أصل ألماني ، ليو شتراوس (1899 ـ1973) تلميذ الفيلسوف مارتن هايدغر المقرب من الزعيم النازي أدولف هتلر وفيها يفلسف ما يسميه أهمية ” الأكاذيب النبيلة ” لخدمة المصالح الوطنية لأجل إبقاء الجمهور مصطفا وراء “السياسات الحكيمة “.
ـ الثانية للمفكرالعربي عبد الرحمن الكواكبي(1855 ـ1903) حيث يقول في كتابه ” طبائع الإستبداد ومصارع الإستعباد ” إن ” الإستبداد يستولي على العقول الضعيفة عن طريق تشويه الحقائق والبديهيات ” أي أن المستبدين يكذبون ، وبما أن الكذب غير مبرر أخلاقيا ، فكيف يصبح سياسة مقبولة ؟.
الإشكالية في الكذب إنه حين يخرج من أفواه السياسيين لا يمكن رده ، بل يفعل فعله وأفاعيله ، وفي ذلك قال الشاعر العربي القديم النعمان بن المنذر:
قد قيل ما قيل إن صدقا وإن كذبا / فما اعتذارك من قول إذا قيلا.
ختامها مسك فلسفي :
عندما مات الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت (1804 ) كتب أهل مدينته هذه العبارة على قبره : ” شيئان يملآن الوجدان : نجوم تلمع في السماء وقانون الأخلاق في صدري”.
ماذا سيكتب اللبنانيون على قبور غالبية أهل السياسة ؟.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى