أحدث الأخبارفلسطينمحور المقاومة

ما لم تسمعه عن صفقة وفاء الأحرار!

مجلة تحليلات العصر - محمد مطر / باحث في شؤون المفاوضات

تعتبر تجربة المقاومة الفلسطينية من خلال أسر جنود صهاينة طريقًا أنجح لتحرير أسرانا البواسل من سجون الاحتلال، وكانت عملية أسر الجندي الصهيوني “جلعاد شاليط” عام 2006م عملية نوعية بكل المقاييس، بل كانت علامة فارقة في أداء المقاومة، نتج عنها صفقة تبادل مشرفة في 18/10/2011م سميت بصفقة وفاء الأحرار.

ولم تكن المفاوضات غير المباشرة بين حركة حماس ودولة الاحتلال بالعملية السهلة، فقد حاول الاحتلال من خلال العديد من وسائل الضغط تحرير “شاليط” بأقل ثمن ممكن، غير أن حماس تمسكت بأغلب شروطها، ولم يجد الاحتلال سبيلًا غير الموافقة على غالبية الشروط. وقد كان لقيادة الأسرى في سجون الاحتلال تأثيرا واضحا في مجريات المفاوضات المتعلقة بتلك الصفقة، وكان صمودهم أسطوريًا رغم كل المساومات، ورغم اللعب على الجانب النفسي لديهم من قبل الاحتلال.

لم تتوقف دولة الاحتلال حتى اللحظة الأخيرة من عمر الصفقة عن المناورة والمراوغة، ومحاولة التقليل من قيمتها وتشويهها، ففي يوم الأحد 16/10/2011م تم تجميع الأسرى، وعددهم (550) أسيرًا، داخل كرفانات تقابلها ساحة كبيرة في سجن النقب الصحراوي، وفي اليوم التالي الاثنين 17/10/2011م حضرت إدارة مصلحة السجون وعدد من قادة المخابرات الصهيونية، وقاموا بمساومة الأسرى للتوقيع على ورقة تعهد مقابل الإفراج عنهم، وكانت مرفقة بنسخة ثانية مترجمة إلى اللغة العِبرية، وكان نصها تقريبًا على النحو التالي:

(( أتعهد بعدم القيام بأي أعمال تخريبية، وأن أنبذ الإرهاب، وأن أمتنع عن المشاركة في أي أنشطة لحماس والمنظمات كافة، كما أعترف بكل ما ورد في الاتفاقيات الموقعة بين “إسرائيل” والسلطة الفلسطينية، وبناءً عليه فإنني أعتذر عن كل عمل قمت به للمساس بأمن دولة “إسرائيل”.. )).

فرفضت قيادة أسرى حماس التوقيع على أي تعهد مهما كان شكله، وعدُّوا ذلك فخًا يُنصب لهم، فتم عزل قيادة أسرى حماس في الزنازين، وأخبرتهم إدارة السجون أنها ستحذف أسماءهم من الصفقة إن لم يوقعوا على التعهد.

تمسكت قيادة أسرى حماس بموقفها والتزم أسراها بموقف القيادة، فاضطرت دولة الاحتلال إلى إحضار الوسيط المصري “ياسر الغزاوي” إلى سجن النقب لإقناعهم بذلك، وفي الساعة السابعة مساءً حضرت طائرة مروحية تُقل الوفد المصري، كما حضر أعضاء من الوفد الصهيوني المفاوض، وطلبوا الجلوس مع القياديين يحيى السنوار وروحي مشتهى، فجلسوا في الساحة العامة وعلى مرأى من الأسرى أنفسهم، ودار نقاش بين قيادة الأسرى والوسيط المصري حول تلك الورقة، واستفسروا منه إن كانت الصفقة تنص على التوقيع على أي تعهد، فنفى الوسيط المصري ذلك.

هذا النفي دفع الأسرى للتمسك بموقفهم أكثر، بعد أن تأكدوا حينها أن هذا التعهد ليس جزءًا متفقٌ عليه كشرط بين جانبي التفاوض، وأعلنوا أنهم يفضلون البقاء في السجن على أن يوقّعوا على أي تعهد، فاضطر الاحتلال للرضوخ والتراجع، وألغى التوقيع على ذلك التعهد كشرط للإفراج عن الأسرى.

استمرت تلك المفاوضات حتى الساعة الثانية عشرة من منتصف ليلة الثلاثاء، إلى أن اتفقوا على صيغة معينة كحلٍ وسط، وقد كان نصها على النحو التالي:

(( أتعهد بالالتزام بكل ما جاء في بنود التفاهمات بين طرفي التفاوض )).

وقد حرص يحيى السنوار على التأكد من صحتها وصياغتها اللغوية، والتأكد من ترجمتها إلى اللغة العِبرية، من خلال عدد من الأسرى المتخصصين في اللغة العِبرية.

وفي الساعة الواحدة فجرًا من يوم الثلاثاء 18/10/2011م بدأ الأسرى ركوب الباصات، وأثناء تحرك الباصات، تم توزيع رسالة موجهة لهم من رئيس الكيان في حينها “شمعون بيريس”، قال لهم فيها بما معناه:

(( لقد أُجبرنا على التوقيع للإفراج عنكم من أجل إطلاق سراح الجندي “جلعاد شاليط”، وليس شفقةً بكم، لأنكم ارتكبتم أعمالًا إرهابية ضد دولة “إسرائيل” ))…
وختمها قائلًا: (( أنا عفوت، لكنني لن أسامح”! )).

فما كان من الأسرى المحررين إلا أن قاموا بتمزيقها وإلقائها من الباصات.

تواجد في كل باص شخصٌ واحدٌ من الوسطاء الألمان، وكذلك شخصٌ آخر من الصليب الأحمر الدولي، وكانت آخر مرحلة في عملية التسليم هي التقاء الباصات التي تُقل الأسرى، برفقة مدرعة مصرية، مع الجيب الذي يُقل الجندي الأسير “جلعاد شاليط” في نقطة معينة عند الحدود المصرية، بعدها دخلت الباصات معبر رفح من الجهة المصرية.

بذلك، وبعد (1935) يومًا على أسر “شاليط”، وبعد جولات عديدة من المباحثات والمفاوضات غير المباشرة بين حركة حماس ودولة الاحتلال، استمرت لأكثر من (5) سنوات وفي ما يقرب من (170) جلسة، بواقع (4-5) ساعات للجلسة الواحدة، تم إنجاز صفقة وفاء الأحرار، بتحرير (1050) أسيرًا وأسيرة من سجون الاحتلال الصهيوني.

إن المشهد الأخير للصفقة قد اختزل سنواتٍ من المفاوضات والوساطات، والقنوات السرية والعلنية، ووسائل وأساليب الضغط والترهيب، استعانت خلالها دولة الاحتلال بكل قدراتها العسكرية والاستخباراتية، ووظفت كل خبراتها التفاوضية وتجاربها السابقة في صفقات التبادل مع جهات عربية وفلسطينية، وجندت علاقاتها الدولية والدبلوماسية، بينما اعتمدت حركة حماس على خبرتها المحدودة، والتجارب السابقة للتنظيمات الفلسطينية واللبنانية، واستخدمت سلاح النفس الطويل، الذي كان السلاح الأقوى في هذه المواجهة، مع الإصرار على تحقيق هدف رسمته قيادة الحركة منذ الأيام الأولى لأسر “شاليط”.

لقد نجحت صفقة وفاء الأحرار في كسر العديد من الخطوط الحمر والمحرمات الصهيونية في قضية الأسرى، في سابقة تفاوضية فريدة بين الأسير والسجان، لكن هذه المرة بشروط الأسير وبقواعد تفاوضية جديدة، في ظل واقع أمني وعسكري وسياسي معقد لا تنطبق عليه النظريات السياسية وموازين القوة في واقعنا المعاصر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى