أحدث الأخبارشؤون امريكية

ما مدى صلاحية الديمقراطية الامريكية للتصدير!

مجلة تحليلات العصر الدولية - د. إعصار الصفار

المتابع للشان الداخلي الامريكي خلال الاشهر القليلة الماضية لا بد ان يعرف ما حصل بعد الانتخابات الرئاسية الامريكية التي حصلت نهاية عام ٢٠٢٠ وما تبعها من رفض الرئيس الامريكي السابق ترامپ الاعتراف بخسارته فيها. وقد قام ترامپ بجملة من التصرفات التصعيدية في محاولة لالغاء نتيجة الانتخابات والعودة الى البيت الابيض ثانية. ولما باءت كل تلك الجهود بالفشل، لجأ ترامپ لتحريك الشارع لمهاجمة مبنى الكونغرس ومنْع تصديق نتيجة الانتخابات. وقد حصل هذا فعلا في ٦ كانون الثاني/يناير ٢٠٢١ حيث اقتحم انصار ترامپ مبنى الكونغرس وادى ذلك لمقتل ٥ أشخاص، من بينهم ضابط شرطة فيما اصيب عدد كبير من رجال الشرطة المكلفين بحماية المبنى، انتحر احدهم لاحقا. وقد تعرضت حياة اعضاء الكونغرس للخطر حيث نصب المهاجمون مشنقة رمزية خارج مبنى الكونغرس، وبعد اقتحامهم للمبنى راح المهاجمون يرددون “اشنقوا پينس”، وهو النائب المخلص لترامپ. كما وهددوا رئيسة الكونغرس السيدة “نانسي پيلوسي” ايضا.
ونتيجة لذلك فقد صوت مجلس الشيوخ الامريكي لعزل ترامپ (impeachment) بتهمة التحريض على اعمال الشغب ومحاولة تقويض الديمقراطية. وهي المرة الثانية خلال ٤ سنوات التي يصوت فيها مجلس الشيوخ لعزل ترامپ، وهي المرة الاولى في تاريخ الولايات المتحدة الامريكية ان يتعرض رئيسها لاجراءات عزل مرتين!
الخطوة التالية المترتبة على الدعوة لعزل الرئيس السابق ترامپ هي محاكمته من قبل مجلس الشيوخ باعضائه المائة. والمطلوب ان يصوت ثلثا اعضاء المجلس ليتم عزل الرئيس. وقد ابتدأت المحاكمة يوم ٨-٢-٢٠٢١ وانتهت يوم ١٤-٢-٢٠٢١. وكما هو معروف، فان للديمقراطيين اغلبية طفيفة في مجلس الشيوخ وكانوا بحاجة الى ١٧ عضوا من الحزب الجمهوري ان يصوتوا لصالح عزل ترامپ، ليتم عزله.

وقد تابعنا وقائع المحاكمة على الهواء خلال الايام الماضية، حيث قام الحزب الديمقراطي باستعراض مفصَّل ودقيق للاحداث التي سبقت، ومن ثم ادت لاقتحام بناية الكونغرس. وقد تم تقديم ادلة واضحة تدين ترامب في تاليب، بل ودعوة مناصريه بشكل صريح لمهاجمة الكونغرس ومنع اعضاء الكونغرس من التصديق على نتائج الانتخابات ومهما كان الثمن. وفيما استغرق مديروا الادعاء الديمقراطيون اياماً في تقديم الادلة والصور والتسجيلات الصوتية والفديوية، استغرقت مرافعة محاموا الدفاع عن ترامپ اقل من ٣ ساعات لا غير!

وجرى التصويت يوم الاحد ١٤-٢-٢٠٢١ وكانت النتيجة ٥٧ عضو صوتوا لصالح تجريم ترامپ، ٥٠ منهم كانوا من الحزب الديمقراطي و ٧ من الحزب الجمهوري. هذا فيما صوت ٤٣ عضو جمهوري بعدم تجريمه، بما فيهم رئيس الاقلية الجمهورية في الكونغرس “ميتچ ماكونيل”! واقبح ما في ذلك ان السيد ماكونيل نفسه قال بعيد التصويت: “ليس هناك شك من ان الرئيس الامريكي السابق ترامپ مسؤول بشكل عملي واخلاقي عن تاجيج احداث ذلك اليوم (اي اقتحام بناية الكونغرس).” ثم استطرد مؤكدا: “ليس هناك اي شك في ذلك”! وبالرغم من قناعته هذه، فقد تذرَّع بامور اجرائية للتصويت بعدم تجريم ترامپ.

عدم تجريم ترامپ في المحاكمة الثانية تقتضي وقفة لتامل النتيجة وتحليلها. من الناحية الدستورية، فقد سارت الامور بشكل سليم ولم يحصل اي خرق للدستور. وبالرغم من ان هناك الكثير مما يمكن قوله بخصوص الدستور نفسه وما فيه من ثغرات، والتي سمحت بهذه النتيجة الغير مرضية. لا اقلها ان الاقلية امضت رأيها على الاكثرية! الا ان هذا امر اخر نحن لسنا بصدد الخوض فيه الان.

النقطة الاخطر في الموضوع هو تغليب ٤٣ عضوا جمهوريا للمصلحة الشخصية والحزبية على المصلحة الوطنية. فالغالبية الساحقة ممن صوت لصالح ترامپ يعرفون في قرارة انفسهم بان ترامپ مذنب ومع ذلك صوتوا لتبرئته غير عابئين لجملة من الامور الجسيمة، اهمها، اولا، ان هذه النتيجة ستكون سابقة خطيرة قد تشجع احداث مشابهة في المستقبل. وثانيا، ابقت الفرصة سانحة لترامپ لان يترشح للرئاسة مرة ثانية عام 2024، وواقعا فان هذا ما اشار اليه ترامپ في كلام له بعد تبرئته. ولا يخفى على المتابع ان فترة رئاسية ثانية لترامپ ستكون كارثية واكثر فوضى وانفلاتا من فترة رئاسته الاولى. وبالرغم من هذا، فقد صوت هؤلاء الـ ٤٣ عضو ضد المصلحة الوطنية خدمةً لذواتهم وولائاتهم الحزبية. ومن الملفت للنظر ان موقف هؤلاء الاعضاء الجمهوريين كان محسوما منذ البداية بدلالة قُصر مرافعة محاموا الدفاع واهمالهم للادلة الدامغة التي قدمها الإدعاء. بل وعندما ابدى فريق الادعاء تفكيرهم باستدعاء شهود، نصحهم محاموا الدفاع ان لا يضيعوا وقتهم، فالنواب الجمهوريون لن يغيروا رايهم تحت اي ظرف كان! وعلى النقيض من هؤلاء، لا بد من الاشادة بالموقف الشجاع للاعضاء الجمهورين السبعة الذين صوتوا لصالح تجريم ترامپ.

وهكذا، وبكل وضوح شاهدنا رموز اكبر مثال للديمقراطية في العالم قد انحازوا لمصالحهم الشخصية ومصلحة حزبهم وضربوا مصلحة الوطن والمواطن عرض الجدار. بعد هذا هل هناك من سيبقى مستغربا مما آلت اليه الامور في الدول التي صدَّرت لها امريكا ديمقراطيتها بشكل مباشر او غير مباشر! انما الامر مصداق لمقولة ان فاقد الشيء لا يعطيه. فالذي يفتقد الامانة والنزاهة وحب الوطن على ارضه عندما تسنح له الفرصة، لن يستطيع تصدير الامانة وحب الحق لاي مكان اخر في العالم …

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى