أحدث الأخبارفلسطينمحور المقاومة

ما معنى التطبيع؟ وما نتائجه؟

مجلة تحليلات العصر - د. محمد عبد النور

من المهم جدّا أن نستحضر أقصى الاحتمالات سوءا في الموضوع، وذلك من أجل التحضير المعنوي والفعلي لمواجهة النتائج القريبة والبعيدة التي سيسفر عنها التطبيع، ولمعرفتها لابد من محاولة تحسس تلك النتائج التي هي واضحة في أذهان أوصيائها، فما حصل اليوم من تطبيع هو عبارة عن عقود مبرمة ستطوق الرقاب بإلزامات صنعت بعيدا عن الأعين. فأن تشعر المنظومة الدولية بضرورة فرض التطبيع على العرب، فهذا يعني أنها لم تحقق بعد كل مناها ونواياها فيهم رغم كل ما تحقق لهم، ولا يجب أن نكتفي بما سيحدث من إجبار شعوب المنطقة على الاحتكاك بذوي “الجنسية الاسرائيلية” والتعامل معهم بتشريع القوانين لصالحهم.
فلما كان العربي والمسلم يتحسس مجرد الاحتكاك فضلا عن التعامل أو التعاون مع أصحاب الجنسية الإسرائيلية (باعتبار الإسرائيلي الجنسية -وليس اليهودي- صهيوني بالضرورة، فاليهودي قد يصل إلى البلاد العربية بجنسية أخرى ويتعامل معه كمحايد على الأقل)، فإن الحاكم الوصي على التطبيع سيُجبر المواطن -أو يتوقع منه ذلك- على تقبل الاحتكاك بصاحب الجنسية والتعامل معه، لكن يبدو أن الإشكال أكبر من ذلك، وهو أن أصحاب الأرض في المنطقة أيضا:
1- سيتحسسون حقوقهم الطبيعية التي ما زالوا ينعمون بها، خاصة ما تعلّق بحرية التعبير، سواء في المسألة الفلسطينية أو غيرها، ذلك أنها تشكل جزءا من ضميره الديني، فالقدس أولى القبلتين، كما أن أي حديث عن قضايا المنطقة العربية بروح النهوض والتنمية سيتعارض بشكل مباشر أو غير مباشر مع المعوقات التي يصنعها الاحتلال الإسرائيلي من خلال قيادة خفية للثورة المضادة.
2- وسيتحسسون حرية العبادة، ذلك أن التبرؤ من “عقيدة الشعب المختار” تقع في اللب من شعائر العبادة في الإسلام، وعبادة الله الحقة تفضي إلى إنكار الوجه السياسي لليهودي إنكارا مطلقا، فاليهودية كدين هي كالمسيحية بالنسبة للإسلام، فهم أهل كتاب، وبين المسلم وبينهم {كلمةٌ سواءٌ}، كما أن إقامة الدين الحقة تقضي بإحقاق الحقوق وردها إلى أصحابها باسم العدل على الأرض.
غاية القول، أن السؤال العقلي الذي يتبادر إلى ذهن كل متابع للقضية هو التالي: إسرائيل اليوم تنعم كدولة وكشعب بمزايا البلد المتقدّم تكنولوجيا وعمرانيا، على خلاف كل ما هو حاصل في جوارها المتعدد من دول الطوق وباقي دول الجوار العربي، وتتوفر على جوار يحكمه حُكام حماة يؤدون دور الحامي بكل أمانة، وهي تعيش في ظل منظومة دولية تدافع عن وجودها وترد عنها أدنى تهديد أو مكروه يمكن أن يمسها، فما الذي يدفع الإسرائيلي إلى فرض التطبيع على العرب رغم كل هذه المكاسب؟
يعلم الإسرائيلي جيدا ورغم كل الحصانة والتدليل التي يتمتع به أنه مهدد وجوديا، مهدد لأنه ليس صاحب حق في الأرض، مهدد لأن الأغلبية الساحقة من الشعوب غير راضية بوجوده، مهدد لأن كيانه السياسي في فلسطين يقوم على عقيدة هي على النقيض تماما من “العقيدة الخام” لكل شعوب وحتى حكام المنطقة، مهدد لأن مكاسبه كلها تحققت على أساس خدعة تاريخية انطلت على الجميع بمن فيهم من يتحيزون إلى كيانه اليوم، فاليهودي كان قبل قرون الشخص المنبوذ من طرف الإنسان المسيحي الغربي، وتحول بقدر قادر إلى شخص مبجل يستحق التعاطف والاحترام، ومهدد لأن عقائده الحقيقية تناقض كل التقدم الذي حصلته الشعوب في مجال حقوق الإنسان، كما أنه مناقض لكل ما حققه الفكر الإنساني باتجاه التصالح بين الثقافات.
فما يحصل اليوم من تطبيع يدخل في إطار استكمال مشروع تدجين العالم، لما يظن أنه سيجر إليه الأجيال القادمة من أبناء المنطقة إلى تقبل “الإسرائيلي”، ومن جهة أخرى التطبيع اليوم هو اختبار لكل المنطقة وانتظار ردة الفعل، و المحتل الإسرائيلي اليوم في أوج قوته وسطوته العالمية، فمن دخل حزب التطبيع فهو آمن، ومن حاد عنه فالوعيد المضمر أو الصريح؛ وأخيرا فإن المؤكد هو أن التطبيع الجاري اليوم وبالسرعة القصوى سيسرع من المواجهة، لأنه ضرب من عملية قيصرية لتعنيف وحرق آخر مساحات المهادنة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى