أحدث الأخبارشؤون آسيوية

ما هي فرص الزخم الفرنسيّ الجديد في شرق المتوسّط؟

مجلة تحليلات العصر الدولية

الكاتب: نور الدين اسكندر

مجموعة من الأسباب تدفع باريس إلى تفعيل نشاطها الدبلوماسيّ لحلّ الأزمة اللبنانية، ونشاطها تجاه الأزمتين الليبية واليونانية – التركية، فكيف تدير فرنسا سياستها في شرق المتوسط؟ وأين تتقاطع وتختلف مع استراتيجية الضغوط القصوى التي تديرها الولايات المتحدة حالياً

تنشط السّياسة الخارجيّة الفرنسيّة بصورة حثيثة في منطقة شرق المتوسّط، حيث لباريس تاريخ طويل من الانتداب لدول الحوض الشرقي التي تقاسمتها مع الإمبراطوريّة البريطانية في مطلع القرن الماضي، بعد انهيار السلطنة العثمانية وتقسيم تركتها بين القوى الكبرى في حينها.

اليوم، اختلف الزمن كثيراً، لكنَّ المفارقة تعيد الصّراع في شرق المتوسط إلى القوتين نفسهما فرنسا وتركيا، ومعهما قوى أخرى كثيرة تلتهب حماستها على وقع الاكتشافات الغازية والنفطية الجديدة في المنطقة، إضافة إلى الفوضى الجاذبة للتدخلات والمطامع الخارجية التي تشهدها دول عديدة في المنطقة.

ومع تراخي القبضة الأميركيّة في المنطقة، وتحوّل التركيز الاستراتيجيّ الأميركيّ من الشرق الأوسط نحو الشرق الأقصى، تزايدت مساحات الفراغ الاستراتيجي التي تحتاج إلى تغطيتها. وقد سارعت قوى عديدة إلى محاولة استغلال هذه المساحات لتحقيق مصالحها الطاقوية والاقتصادية، أو السياسية والاستراتيجية، أو لتدارك خطر وشيك، أو إبعاد تهديد داهم.

ويمكن تقسيم ساحات النّشاط الفرنسيّ المفعّل والمستجد في المنطقة إلى 3 ساحات: ليبيا، والأزمة بين تركيا واليونان، ولبنان. ولكل واحدةٍ من هذه المساحات الثلاث تفاصيلها واللاعبون فيها وتفاعلاتها المعقدة، ولكن المتداخلة أيضاً.

 

فرنسا في ليبيا واليونان
ارتفع منسوب التوتر بشكلٍ كبير بين تركيا واليونان في أوائل شهر آب/أغسطس الفائت، على خلفية أنشطة تنقيب عن النفط والغاز شرعت فيها تركيا، واعترضت عليها كلّ من اليونان وقبرص، واعتبرت أنها تنتهك سيادتها، حيث أرسلت تركيا سفينة “عروج ريس” للأبحاث وسفناً حربية إلى المياه المتنازع عليها يوم 10 آب/أغسطس، في إطار مهمة تنقيب تم تمديدها.

وردَّت اليونان بإجراء تدريبات عسكرية بحريّة، إلى جانب عدة دول في الاتحاد الأوروبي، إضافةً إلى الإمارات، نُظّمت على مقربة من مناورات أخرى أجرتها تركيا بين قبرص وكريت. وكانت فرنسا إحدى الدول التي شاركت في التدريبات، لكنها كانت أيضاً الدولة التي تتّهمها تركيا بمحاولة صبّ الزيت في نار الخلاف التركي اليوناني، طمعاً بعودة نفوذها إلى المنطقة في هذه الأوقات التّاريخيّة التي تشهدها.

سعت فرنسا إلى تحفيز الاتحاد الأوروبيّ لفرض عقوبات على تركيا في إطار النزاع المتصاعد. وقد دعا الاتحاد بدوره تركيا مراراً إلى التوقف عن أنشطة التنقيب، وهدّدها بفرض عقوبات عليها إذا رفضت حلّ النزاع عبر الحوار.

سارعت فرنسا خلال هذه الأزمة التي تتزايد حماوتها اليوم إلى زيادة ثقة قبرص واليونان بموقعيهما في النزاع القائم ضد تركيا، وأرسلت باريس منذ أسابيع قليلة مقاتلات فرنسية هبطت في قاعدة أندرياس باباندريو في قبرص اليونانية، قبل أن تحلّق اثنتان منها من نوع “رافال” فوق المنطقة الاقتصادية الخالصة التي يطالب بها اليونانيون، وذلك قبل أن تعودا إلى القاعدة في قبرص اليونانية، في إطار اتفاق التعاون الدفاعي بين قبرص اليونانية وفرنسا، والذي دخل حيز التنفيذ في بداية آب/أغسطس.

رفضت فرنسا الخطوة التركية في شرقي المتوسط، وهو رفضٌ أكّده رئيسها إيمانويل ماكرون لرئيس الوزراء اليوناني كرياكوس ميتسوتاكيس، لكن تسريع وتيرة تنفيذ الاتفاقيات العسكرية بين باريس وأثينا يختزن معاني إضافية اليوم، فباريس تواجه تمدد أنقرة في غير مكان في المنطقة الممتدة حول ساحل أوروبا الجنوبي.

وقد نشرت صحيفة “حرييت” في منتصف آب/أغسطس الماضي أخباراً عن نية أثينا المسارعة إلى بناء قاعدة بحرية أعدت خصيصاً لفرنسا، على أن يسمح للقوات الفرنسية باستخدام القاعدة الجوية في مدينة بافوس بشكل أكبر، وذلك في إطار توجه مشترك جديد بزيادة التعاون العسكري بين الدولتين.

وتوجّه أنقرة كلاً من الفرنسيين ومصر والإمارات واليونان وقبرص إلى مسارين مترابطين، بل إنّهما متداخلان، بحيث يخدم أحدهما الآخر؛ الأول هو مسار التنقيب عن النفط والغاز في شرقي المتوسط، وحفظ فرص مشروعات مد خطوط الطاقة نحو أوروبا، والآخر هو الحرب الليبية الدائرة بين قوى داخلية منقسمة ومتناحرة، تستند كل منها إلى قوى خارجية متناحرة حول الاستفادة من الثروات النفطية التي تختزنها البلاد.

وفي هذا السّياق، رأت تركيا في اتفاقيّة الصلاحيات البحرية التي وقّعتها مصر مع اليونان محاولةً لحشرها أمام أمر واقع يخرجها من لعبة رسم مستقبل الطاقة في المنطقة، ويجمع أوراق اللعبة بين الأوروبيين ومصر، الأمر الَّذي ستكون له تداعيات في الاتجاه نفسه في ما يخصّ مسار الحرب الليبية.

وقد أتت خطوة العودة إلى التنقيب كاستجابةٍ تركيّة لهذا التهديد الماثل أمام أنقرة، لاستعادة مشروعها في المنطقة، بأهدافه الاقتصادية والسياسية والعقائدية، وبأحلامه العثمانية والشخصية للرئيس رجب طيب إردوغان.

 

المبادرة الفرنسيّة في لبنان
وفي لبنان الّذي يشهد منذ ما يقارب السنة تسارعاً في مسار انحداري كارثي وصل إلى ذروته في الرابع من آب/أغسطس، بالانفجار المروع الذي شهده مرفأ بيروت، تسرّبت معلومات لأجهزة أمنية، ومنها ما وصل إلى فرنسا، عن وجود نشاط تركي متزايد في مدينة طرابلس الشمالية.

المعلومات هذه، إضافة إلى معطيات عديدة ومهمة أخرى، دفعت فرنسا إلى المسارعة للتدخل في الأزمة اللبنانية، من باب مبادرة جديدة لتركيب حكومة جامعة تحظى بثقة الأغلبية البرلمانية من جهة، وتستطيع تنفيذ الإصلاحات المطلوبة من جهةٍ ثانية.

لقد كان لفرنسا دور كبير في تأسيس دولة لبنان الكبير في مطلع أيلول/سبتمبر 1920. واليوم، تصادف العودة الفرنسية إلى لبنان مع الذكرى المئوية للدولة، وتعتبر باريس أنها هي التي أعطت لبنان وجوده المستقل عن محيطه العربي وعن السلطنة العثمانية، وتعتمد في ذلك على دور تاريخي لعبته الإرساليات التعليمية والدينية التي دعمتها فرنسا لعقود طويلة في لبنان، كما على دعمها للبطريركية المارونية في سعيها إلى كيانٍ مستقل يحفظ للبلاد تاريخها المتمايز.

واليوم، تحاول باريس من خلال الزخم الذي أطلقته ملء الفراغ الذي أحدثه تخفيف الولايات المتحدة لتركيزها الاستراتيجي على المنطقة، مع الإبقاء على ضغطها باتجاه حشد أكبر مجموعة من الدول العربية لتوقيع اتفاقيات سلام مع “إسرائيل”، وذلك من أجل “حفظ التفوق الإسرائيلي” في المنطقة، وهي العبارة التي أكد وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أن بلاده تعمل حالياً على تحقيقها كهدفٍ لها في المنطقة، مع العلم أن ما من دولة قادرة بمفردها على ملء فراغ تركته قوة إمبراطورية، لكن دولاً عديدة تتحرك كل في مساحتها الخاصة، وفي ساحتها التي تجد فيها أفضلية على غيرها، من أجل حجز مكان لها على طاولة التقسيمات الجديدة حين يحين وقت صرف بطاقات النفوذ.

وتزجّ فرنسا في سياق جهدها تجاه لبنان بجزرة المساعدات المالية للبلاد المنهارة اقتصادياً اليوم، في حال تنفيذ الإصلاحات وتسيير حكومة فاعلة قريبة من الهوى الفرنسي، في مقابل عصا العقوبات التي تلوح بها ضد القيادات السياسية التي قد تعرقل المسار الفرنسي من أجل حسابات داخلية، وربما بعضها قد يعرقل المبادرة الفرنسية من أجل حساباتٍ خارجية، الأمر الذي لا تهمله باريس.

لقد زار الرئيس الفرنسيّ بيروت مرتين في غضون شهر واحد، وأعلن مجدداً عن عودته في نهاية العام، ليقف على نتائج جهوده وكيفية تفاعل القادة اللبنانيين معها. واللافت في أداء ماكرون تجاه لبنان اليوم أنّه حازم في الدفع نحو تطبيق الإصلاحات المالية والاقتصادية والسياسية من جهة، بينما يتّخذ موقفاً ليّناً في التعاطي مع حزب الله وفريق المقاومة من جهة ثانية، إن كان ذلك من خلال اللقاءات المباشرة، أو من خلال الطروحات التي تتسرّب عن تفضيله مشاركة هذا الفريق بفاعلية في الحكومة المقبلة.

 

الدّور الفرنسيّ في ظلّ استراتيجية الضغوط القصوى
وعلى العكس من الموقف الفرنسي، يتمسَّك الأميركيون برفض مشاركة حزب الله في الحكومة الجديدة، وبمحاربة حلفائه أيضاً، مع توقّع إعلان عقوبات على شخصيات منهم في الأيام القليلة المقبلة، كما أكّد مساعد وزير الخارجية دايفيد شينكر.

بومبيو نفسه قال إن بلاده تريد حزب الله خارج الحكومة. وهنا تترابط الملفات، فقبل هذا الموقف المباشر، كان مساعد وزير الخارجية دايفيد هيل قد زار بيروت، وقال بعد عودته إلى بلاده، رداً على سؤال حول قبول مشاركة حزب الله في الحكومة، إن بلاده تعاملت في الفترة الماضية مع حكومات شارك فيها الحزب، لكن عودة المسؤولين الأميركيين إلى التشدد برفض الحزب، مرتبطة أيضاً بتمسك الحزب وحلفائه، وخصوصاً رئيس مجلس النواب نبيه بري، بموقف لبنان الرافض لتقديم تنازلاتٍ لمصلحة “إسرائيل” في ملف ترسيم الحدود البرية والبحرية.

وهنا، يحاول الأميركيون استخدام كل الضغوط في سبيل إجبار لبنان على تنازل لا يريده، ويُستخدم الموقف من تشكيل الحكومة الجديدة في السياق نفسه، لكن كل ذلك يقود إلى سؤالٍ واحد: ما هو السقف الأميركي بالنسبة إلى المبادرة الفرنسية؟

لقد صرَّحت السفيرة الأميركية لدى بيروت عند سؤالها عن موقف بلادها من المبادرة الفرنسية، بأن ما يجري هو شأن فرنسي، وليس شأناً أميركياً. هذا الموقف يمكن تفسيره بصورةٍ سلبية، لكنّ دلالاته البعيدة ورؤيته ضمن المحاولة الفرنسية للتناغم مع الجميع ربما لا تختزن القدر ذاته من السلبية، فالفرنسيون يحاولون اليوم سرقة اللحظة لوقف التمدد التركي في المنطقة من جهة، واستعادة بريق سياستهم الخارجية في الشرق الأوسط من جهةٍ ثانية.

وبين هذا وذاك، يحاول ماكرون إدارة سياسة لماحة ترتقب اتفاقاً أميركياً إيرانياً جديداً بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة في أميركا بعد أسابيع قليلة، وتحقيق السبق الاقتصادي والسياسي، من خلال التواصل مع إيران عبر حزب الله في لبنان، كما عبر التواصل المباشر القائم بين طهران وباريس.

في المقابل، لا يستطيع الأميركيون تغيير موازين القوى الداخلية، وهم مضطرون إلى ميسّر آخر يستطيع تسييل نقاط الالتقاء وتحويلها إلى حل سياسي قابل للحياة. وبالتالي، فإنَّ الأميركيين بحاجة إلى طرف آخر، وهو هنا الطرف الفرنسي، ليأخذ من خصومهم ما يمكن أخذه، وليسلّموه ما سيعطونه في المقابل لهم في سياق الحل المأمول.

ومن خلال حياكة حلّ جامع في لبنان، مع إطلاق عجلة إصلاحات ضروريّة، يحاول ماكرون البناء على هذه المشتركات مع السياسة الخارجيّة الإيرانيّة، مستبقاً بذلك وعود الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتحقيق اتفاقٍ جديد مع طهران في حال فوزه في الانتخابات.

لكنَّ هذه المحاولة لا تزال حتى اليوم محفوفةً بالمخاطر، فالقوى اللبنانية المختلفة تعيش أقصى مراحل توترها السياسي وانقسامها في الرؤى الاستراتيجية، والتي وصلت إلى البحث في عمق النظام اللبناني والصيغة، وصولاً إلى الأصوات التي خرجت تتحدث عن عقد اجتماعي جديد، ومطالبات محلية مدعومة خارجياً بالحياد عن المحاور في المنطقة، أبرزها ما أطلقه البطريرك الماروني بشارة الراعي، وكان له صداه الكبير في لبنان.

وتسير المحاولة الفرنسيّة وسط ألغام الاستحقاقات السياسية والمالية والاقتصادية، ووسط التربّص الأميركي بمحور المقاومة، لعلَّها تستطيع اقتناص اللحظة بإطلاق سكّة سياسيّة جديدة قبل وصول الرئيس الأميركي الجديد إلى مكتبه بحلول نهاية العام، لكنَّ شياطين التفاصيل كثيرة، ولبنان بلد اليوميات الّذي لا تصلح فيه التوقّعات البعيدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى