أحدث الأخبار

مسار الجيوش الحائرة من البطولة الى البطال

مجلة تحليلات العصر الدولية

الجيوش رمز السيادة في الدول ، ومصدر هيبتها ، والتاريخ يكتبه المنتصرون ، تلك خلاصة مايمكن إستنتاجه مما تركه المؤرخون .
الجيوش كما يقدّمها تاريخ الأمم ، إنما أنشئت للقيام بمهمتين : الدفاع عن (الدولة ) ضد غزاة محتملين ، أو القيام بالغزو لتوسيع النفوذ والسيطرة على أرض جديدة ، ذلك لأن الدولة في تلك الحقب الزمنية ، كانت مفهوماً غامضاً لا تجسيد له سوى قدرته على السيطرة ، وبالتالي فالحدود السياسية لأيما دولة ، إنما تفرضها قوتها العسكرية وحيث تصل أقدام جنودها ، فيما يُختلف على تسميت ماحصل ، فتوحات أو غزوات أو نشر للدين – الخ .
في الحروب وحدها ، كان يتجلى معنى البطولة في الملوك والقادة ،فيما تطلق الشجاعة على المحاربين مادون مرتبة القائد ، فمن قهر البلدان وفتح المدن ، هو الأكثر استجلاباً لصفحات التاريخ ، يليه من دافع عن بلاده بجدارة ومنع سقوطها بيد الغزاة .

لم يكن معنى الحدود السياسي وارداً أو معترفاً به ، الا في حالات نادرة كأن يحصل فيها ضمن اتفاقيات ثنائية بين دول متجاورة في الغالب ، لتبقى بنود الاتفاق فاعلة بمقدار استمرار موازين القوى بين الطرفين، وبالتالي عدم اختلالها لصالح طرف بعينه ، ما يغريه بنقض الاتفاق ومحاولة التوسع على حساب الآخر .
تغير الحال بعد الحرب العالمية الأولى ، إذ أدركت دول العالم الكبرى ، ضرورة ان توكل الى هيئة دولية مهمة الحكم في النزاعات بين الدول ، خاصة بعد ان عرف العالم قيام العديد من الكيانات المتحررة حديثاً من السيطرة العثمانية ، وقد
تحولت الى كيانات ذات حدود جغرافية وسياسية توالى الاعتراف بها ،وهكذا انبثقت هيئة دولية عرفت بإسم ( عصبة الأمم المتحدة).
كانت الجيوش الحديثة في نشأتها ، امتداداً لما خلفّه الأباطرة والملوك ، من الصين واليابان والهند شرقاً، حتى روسيا وأروبا شمالاً ، مروراً بإيران وتركيا وسطاً .
اتخذت الجيوش في تلك البلدان عقائد عسكرية شتى ، وعلى رغم اختلاف الوظائف المحددة لكل منها ، الا انها التقت جميعها في مهمة واحدة : حماية الدولة ، ذلك ما ألقي على عاتق الجيوش حينذاك .
لكن الاستثناء في ماهية الدولة وتعريفها ، ظل قائماً ، فبين السلطة (الحاكمة ) التي ابتلعت الدولة ،كما في الأنظمة الشمولية ، وبين السلطة ( الخادمة) التي أفزرتها دولة الرفاه ، كان هناك بون شاسع في تفصيلات مهمة الجيوش في كلا الجانبين .
في تلك الأزمنة ( الحائرة ) سياسياً والقلقة عسكرياً ،توزعت المهمات المناطة بالجيوش ، بين حماية الدولة ككيان ومساحة جغرافية وشعب ، وبين حماية النظام الحاكم ، لتتمحور تدريجياً ومع تراجع التهديد الخارجي ، الى أداة قمعية بيد الأنظمة الحاكمة ، إذ لم يعد للجيوش من وظيفة أخرى سواها.
الا ان الأمر لم يتوقف عند هذا الحدّ ، فمادام الملك
( أو الرئيس ) هو القائد الأعلى للجيش في النظم الاستبدادية عموماً ، ومن أولى صفاته وأهمها أن يبرع في قيادة جيوشه نحو النصر – خاصة في المعارك الحاسمة – أو ان يجير النصر لصالحه وإن بقي في قصره وبين حاشيته ، في وقت يكون فيه القادة البارعون ، هم من يقود الجيوش المنتصرة أو يتحملون تبعات هزيمتها.
تلك الحيثية ، قد تكون واحدة من الأسباب التي نشأت على إثرها عقلية التآمر أو الانقلاب ، إذ تقدم مدونات التاريخ الكثير من الشواهد على أن الجزء الأكبر من حالات الإطاحة بالملوك والحكّام ، إنما تمت في الأغلب على أيدي قادة عسكريين أو بالتعاون معهم .
وعلى ذلك ، عومل القادة العسكريون معاملة مزدوجة ، فمن جانب كانوا يحظون بامتيازات عالية ومميزة من أجل كسبهم وإرضائهم ، فيما يبقى الحذر منهم قائماً في كلّ حين ، خاصة إذا ارتفعت أسهمهم مع ازدياد شهرتهم وقدرتهم على تحقيق الانتصارات .
توالت الأزمنة كما توالت الانقلابات العسكرية – الفاشلة أو الناجحة – حتى أواخر القرن العشرين ، لتدخل الشعوب من ثم في عصر جديد أطلق عليه
( الانتفاضات الشعبية )
ظاهرة تشكيل الجيوش ،رافقت نشوء الدولة منذ البدء ، إذ لادولة دون جيش يمثل الوجه الأبرز لمعالم السيادة ، باعتباره القادر وحده على الدفاع عنها، لذا كانت وظيفة الجيوش هي الأكثر أهمية وحيوية في سلمّ الدولة ، مترافقة أو موازية في الغالب لوظيفة الملك أو الحاكم نفسه .
لكن ، ومع ظهور نمط آخر من الحكم يتمّ فيه تبادل السلطة سلمياً عبر صناديق الاقتراع ، ومع شيوع هذا النوع من الحكم (الديمقراطي ) بدأت الجيوش تفقد أهميتها تدريجياً ، تماماً كما الملوك الذين تحولوا في الكثير من الدول الديمقراطية ، الى رمز تراثي يملك ولايحكم (*) .
لقد بات مفهوم السيادة الوطنية ، عرضة لمداخلات واجتهادات ساهمت بدورها في غموض المهمة التي يمكن ان تقوم بها الجيوش في الكثير من الدول ، بعد ان تزايد اعتمادها على حماية الدول العظمى ( خاصة أمريكا وحلفاؤها ) التي أصبحت بمثابة حارس دولي يمتلك من القوّة مايؤهله التدخل في مناطق كثيرة من العالم قد تتعرض شعوبها لأخطار داخلية أو خارجية – كما حدث في الكويت و العراق وكوسفو وسراييفو وغيرها – .
تلك مرحلة أولية لم تتضح أبعادها عند العرب ، إذ مازالت معظم أنظمتها تعمل وفقاً للسياقات القديمة ، وبالتالي مازال ملوكها وحكّامها وجيوشها استطراداً ، يحظون بمواقع متقدمة في بلدانهم ، رغم ان الجيوش في تلك الدول فقدت دورها واقعاً منذ عقود طويلة ، وهاهي تتخلى عن حماية الأنظمة في نماذج ثلاثة ( تونس / مصر / ليبيا ) مرشحة للتعميم حال اصطدامها بجموع الشعب .
لقد بدأت الدولة بملوك وجيوش ، وفيما يتراجع دور الملوك الى مجرد فلكلور تراثي ، تسير الجيوش على الطريق ذاتها ، وليس من دون دلالة ان
( دولة) الفاتيكان الدينية ، قد وضعت حرّاساً يرتدون زيّاً من القرون الوسطى ويحملون رماحاً مذّهبة ، كناية عن رمزيتهم اللاحربية واستعراضهم الجمالي ، فيما تجنبت سويسرا بناء مؤسسة عسكرية ، متخذة موقف الحياد في كافة الحروب التي شهدتها أوروبا ، وبالتالي ف(جيشها ) بقي مجرد مظهر أحتفالي وليس أداة للحرب ، وربما هي أول دولة في العصر الحديث ، أدركت أن مصير الجيوش سيصبح تاريخاً : يقرأ ، لكنه لايعاد .
قيل : أن إزاحة الملوك تبدأ ،حينما يبدأ السؤال عن فائدة الملوك ،فهل سينطبق ذلك على الجيوش ؟ بعد أن شهدت التجارب ،إن بإمكان الشعوب ،أن تقاتل دفاعاً عن أرضها، بتكلفة أقل وفاعلية أكثر ، بوسائل أخرى ؟؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى