أحدث الأخبارلبنان

مقاربة جديدة لمسار ومسير الإمام موسى الصدر في ذكراه

لندن – د. أحمد الزين – 31-08-2022:
العصر-في أجواء الذكرى الرابعة والاربعين لجريمة إختطاف الإمام موسى الصدر ورفيقيه الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدرالدين، من قبل النطام الليبي والطاغية المقبور معمر القدافي عام 1978، نستحضر في ذاكرتنا تلك الحقبة الزمنية من تاريخ أمتنا، ونستذكر هذا القائد العظيم الذي ورث علم وأخلاق أجداده النبي محمد (ص) وأهل بيته (ع)، وجاهد وثار كجّده الإمام الحسين (ع) على الظلم والجور والحرمان والطغيان، وجسّد صورة من الإمام علي (ع) بإيمانه وعدله وزهده، وكان أسوة للثاثرين وقدوة للمقاومين والمجاهدين، لقد ذاع صيته وشهرته علوا وعزّا كريما في سيرته ومواقفه وحياته، وغلوا ووخزا إليما في تغييبه وغيبته، وعتوا ولغزا محيرا في إستشهاده ورحيله.
ومن خلال تصفح سيرة الامام الصدر وفكره ومشروعه، يتبيّن لنا جليا حضوره المتميز وطنيا وعربيا وعالميا، حيث برز كرجل استثنائي تفوق على رجال عصره، لما يمتلكه من سمات رفيعة وصفات بديعة، وذو عقل مبدع وصاحب رؤية إستشرافية، باحثا في فنون الدراسة وميادين العلم والمعرفة وأصول الدين ورقائق ثقافة الاقوام وحقائق تاريخ الامم، حيث أستخلص العِبر والدروس العملية، واستفاد من تجارب الامم البراغماتية، واستوعب الحاضر بواقعية، واستشرف المستقبل بذهنية تخطيطية، بلورت الأفكار ونوّرت الادمغة وأغنت العقول وطوّرت المعقول وألهمت الفحول..
ومن أبرز صفات الإمام الصدر التي احتوتها شخصيته وبينت قيمته وصعوده في عالم الدين والسياسة أنه كان عالما ربانيا، ومجتهدا فقهيا، وسياسيا رساليا، وفيلسوفا عبقريا، ومفكرا داعيا، ومصلحا مجددا، استحق بجدارة ان يكون إمام الوطن والمقاومة، وإمام الفقراء والمحرومين، ورجل الاصلاح والنهضة، ورجل الوحدة والحوار، ورجل العرب والعروبة.
كان الإمام الصدر ناصرا للمظلومين، يعبر عن الآم المحرومين والمعذبين، همه الخدمة لا النعمة، وهو العامل بهمة عالية على إنقاذهم من غياهب الجهل والامية والفقر والاستضعاف والحرمان.. مما جعله مرشدا وطنيا، وملهما إنسانيا، ومثلا اخلاقيا، وقدوة وأنموذجا فريدا، استحوذ على عقول محبيه ومريديه من الطبقة المحرومة وشغل قلوبهم حبا وشغفا وتعلقا به، حيث لبّت نداءه الجماهير الغفيرة من البقاع الى الجنوب مرورا ببيروت، وألتحقوا بحركته وجهاده لانهم وجدوا فيه الامل والمخلص والمنقذ لمعاناتهم الطويلة بسبب حرمان الدولة لحقوقهم، وغياب العدالة الاجتماعية، وتهميشهم من الطبقة السياسية الحاكمة والغارقة في ملفات الفساد والمفاسد والنهب والهدر..


كان من أوائل من وعى خطر الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين، وحذّر من اطماعه التوسعية، على وحدة لبنان وأرضه وسيادته وثرواته.. وكان الرائد في طرح الحلول العملياتية في تخليص اللبنانيين وإنهاء معاناتهم من الاحتلال الصهيوني وإعتداءاته من خلال تفعيل ثقافة المقاومة والبندقية، وتبني خيار المواجهة وتعزيز التصدي على أيدي أجيال وأفواج المقاومة اللبنانية.. لانه كان صاحب فكر عقائدي ثوري استراتيجي، ومقاوما مقداما من الدرجة الاولى، وناشطا سياسيا بارزا في دعم القضية الفلسطينية الحقّة ضد “إسرائيل” العدو الأساسي للأمّة والوطن، وهو الذي كان يدعو دائما الى مقاومته ومواجهته ودحره لدرء أخطار التقسيم والتوطين والتطبيع، حيث اطلق شعاره الشهير: “إنّ إسرائيل شرّ مطلق”، و”التعامل معها حرام”، كما كان داعما قويا للثورة الإيرانية ضد نظام الشاه الظالم آنذاك. وقد نشر الامام الصدر، قبل يوم من تغييبه، مقالته الداعمة للثورة الإيرانية في صحيفة لوموند الفرنسية تحت عنوان “نداء الأنبياء”.
لقد تعامل الامام الصدر مع الدين على انه رسالة سماوية ايمانية جاءت لخدمة الانسان، وتعامل مع السياسة بعقلية اخلاقية لا بوظيفة إرتزاقية، بعيدا عن تجار السياسة المستأثرين والمحتكرين، فاطلق شعار رفع الحرمان قائلاً: (نحن لا نعمل سياسة لأجل السياسة، نحن لنا هدف، هدفنا إزالة الحرمان). فاستخدم السياسة وسيلة لردم الفجوة بين المواطن والدولة، وكان يعتقد بان الله تعالى يُعبد من خلال خدمة الانسان، وان الوَطَن كيان نهائي لجميع ابنائه، وأيقن ان كل إنسان يمثل قيمة فريدة ويحمل طاقة جديدة، تستطيع هذه الطاقات مجتمعة من بناء الدَّولة القوية العادلة.. وأن تلك المشاريع السياسة والتنمية والانماء والخدمات يجب ان تسخّر لراحة المواطن وعيشه الرغيد بعيدا عن حسابات الزعامة والطَّائِفَة والمذهب والمنطقة.. لذلك لم يتعامل مع السياسة كغاية لكسب المواقع المتقدمة والمناصب والانتفاعات الشخصية والعائلية، فانه رغم كلّ الممتلكات والمؤسسات التي أسّسها، وكل الاموال التي جمعها، عاش فقيرًا ورحل فقيرا، ولم يورّث مالاً ولا سلطة لعائلته تأسيا بسيرة أجداده الانبياء والائمة الاطهار (ع)، ولم يسجِّل أي جمعية أو مؤسّسة او شركة أو أرض باسمهم بعكس واقع الحال المستجد حيث استحوذ القادة الوارثون وعائلاتهم على المواقع من مناصب سياسية واموال طائلة وأراضي شاسعة وشركات عديدة وقصور شامخة.. وهكذا تبدد حلمه وتشعب نهجه وانعوج خطه وضاعت وديعة الائتمانة والأمانة..
وعليه، فقد تنبّه لمقامه الرفيع وقوة تأثيره الساسة المنتفعون لانه كان سيدا بلا جاه وملكا بلا تاج، مما شكل نقلة نوعية عصرية في رويته وتحركه الذي كان عابرا للطوائف والمذاهب، ومحاضرا في المسجد والكنيسة والجامعات، حيث استحدث الخطاب السياسي الوطني الواعي، وأضاء على أيقونة لبنان كرسالة للتنوع والتعايش السلمي والتسامح بعيدا عن الطائفية والطغيان الطائفي، وكضرورة حضارية للتلاقي والحوار بين الاديان والتقريب بين المذاهب، وهو صاحب القول الشهير: “الطوائف نعمة والطائفية نقمة”.


وقد أدرك الإمام الصدر مبكرا بان لبنان لا يمكن ان يستقيم ديمومة كيانه إلا بجناحيه المسلم والمسيحي، ولا يمكن ان يتكامل أجزاؤه إلا بشقيه المقيم والمعترب.. لذلك عرفوه أعداؤنا في الداخل وخارج الحدود، فتآمروا عليه وحاولوا إغتياله مرات عديدة، وعندما فشلوا خططوا غدرا ومكرا وخديغة ومؤامرة.. فاخفوه في ليبيا على أيدي الطاغية القذافي، الذي لاقى مصيره الأسود المحتوم، وبقي لغز الإمام غير معلوم وسرّه مكتوم، وطال عندنا الحزن والعزاء والغموم..
وقد أستحضرني في هذا المقام ما صرّح به أمس المنبر الحواري لمثقفي بعلبك-الهرمل في لبنان: “ظنوا انهم بتغييبك قادرون على محو ذكرك لكنهم تفاجئوا انك بحر لا ينضب وشمس لا تكف عن ارسال شعاعها الى مختلف اصقاع الارض. خافوك فغيوبك ولكن بالحقيقة هم غابوا وانت بقيت فكرا ونهجا ومحبين يا امام الحوار والثقافة يا موسى الصدر”.
ولكن الشيء الوحيد الذي يواسينا، اليوم، هو ان حلمك بتحرير الارض والاسرى قد تحقق، والجنوب والبقاع باتا قبلة الأحرار والثوار، وأبناؤهم بثباتهم ووحدتهم هزَموا الجيش الصهيوني الذي لا يُقهر، ليس مرة واحدة بل مرتين. فقد أينعت بذور المقاومة والإيمان التي زرعتها في نفوس الاجيال ومن تضحيات المقاومين المؤمنين والمجاهدين الشرفاء.. فكان الحصاد عيدا تحريرا وتعميرا، والقطاف نصرا وفوزا وعزة وكرامة وقوة ومجدا..
فسلام عليك أيها الإمام المظلوم يوم ولدت ويوم إستشهدت ويوم تبعث حيا..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى