أحدث الأخبارالعراقمحور المقاومة

من أين صَدَر الصدْرييون ؟ الاسس والجذور

مجلة تحليلات العصر الدولية - د. علي موسى رضا

     ما ان وضعت حرب السنوات الثمان بين الجمهورية الاسلامية في ايران و النظام البعثي في العراق اوزارها ، وتوقفت العمليات الحربية ، وخمدت السنة حرائقها ، دون انطفاء جذوة جمراتها ، بعد ان امتدت اثارها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وفكريا لمساحات وسيعة ، وتفاعلت نتائجها محليا واقليميا ، حتى تصاعد دخان حرائق في جبهة اخرى و اشتد اوار حرب ثانية من نوع اخر ، حرب داخل البيت وضد الذات ، كان جمرها يكتنفه الرماد تحت سطح الادراك و وراء الحجب والستار ، خافية غير مسفرة عن حقيقتها ، رغم تزامنها مع بدايات الحرب الكبرى او لعلها سبقتها بمدة ليست بقصيرة ، لتغمر كل فضاءات فعاليات  “المعارضة ” العراقية من الحركات الاسلامية الشيعية العراقية المقيمة في ايران ، او تلك التي كانت تحت مظلة الجمهورية الاسلامية في ايران ولاءً او تضامنا .
     كانت نهاية الحرب السنوات الثمان بحق هي لحظة الاعلان العملي عن بداية نفق محنة مظلم ، وافلاس محبط ، وتيه جديد لمعارضة كانت تعاند الظروف للخروج من تيهها “الوجودي ” و تصارع معضلة عدم اصالة التأسيس وازمة عدم حصانة الولادة  . فلم تكن تلك “المعارضة ” الاسلامية الشيعية بصحيحة الكيان و سليمة الوجود من مشاكل على مستوى النظرية السياسية او موجبات النشوء . و في الوقت ذاته كانت تعاني بقسوة من ازمات منهكة من عدم وحدة الموقف والانسجام في الآراء ومن التقاطع الحاد فيما بينها اتجاه القضايا التي اعلنت عن تبينها و في مضمون شعاراتها وأسس ومناهج عملها . ان الذي اشعل بل اجج اشتعال تلك الازمة في صفوف المعارضة هو توقف العمليات العسكرية بين البلدين بهذه الطريقة غير المحسومة و غير المحسوبة الصادمة للمعارضين ، حيث ان المعارك الحربية بقدر ما تفضح احوال تؤجل استحقاقات ، تلك النهاية التي كانت تمثل العودة الى نقطة البدء بعد وصولها منتصف الطريق لتغيير النظام حسب ظنها اي ؛ المعارضة الاسلامية الشيعية العراقية .
    فقد سببت مثل تلك النهاية لحرب طاحنة ، اصطفت المعارضة بكل ثقلها ووجودها ومستقبلها مع احد الطرفين المتحاربين مراهنة على تحقق امانيها بسقوط مبهر وانهيار مهول لنظام البعث في العراق ، سببت ذهولا وارباكا زلزل كيانات القوى المعارضة الاسلامية الشيعية لهذا الوقف المفجع . لقد غيرت خاتمة هذه الحرب كل المعادلات السياسية والحركية والتنظيمية وحتى الأيديولوجية لدى المعارضين الحالمين بدخول بغداد محررين وفاتحين ، مثلما غيرت من استراتيجيات تحالفات اقليمية و دولية تنسجم مع التوجه نحو “عالم جديد” وصفحة اخرى من تاريخ المنطقة . و مما لاشك  فيه ان نهاية الحرب ، وبسيناريو “لا غالب ولا مغلوب” ، اوجبت على الجمهورية الاسلامية في ايران واركان قيادتها السياسية اعادة قراءة الواقع السياسي المحلي والاقليمي والدولي المتشكل بعد نهاية الحرب بدقة وحرفية وموضوعية اكثر مما حصل اضطرارا في السنوات الاولى بعد انتصار الثورة ، والزمت الإيرانيين اعادة تقييم الموقف من النظام البعثي و اطراف إسناده الاقليمية والدولية والتعاطي بقدر من الواقعية لتقدير حجم القوى الفاعلة المؤثرة في ميزان الصراع ؛ ومنها بل من اكثرها اهمية وجود ومستقبل المعارضة الاسلامية الشيعية العراقية في ايران . وظهر ذلك جليا في موقف الجمهورية الاسلامية في ايران من غزو البعث الصدامي لدولة الكويت ، واجتياح قوات التحالف للعراق بعد اخراج قواته منهزمة من الكويت و كذا اتجاه احداث الانتفاضة الشعبية فيما بعد في اذار(شعبان ) ١٩٩١ في العراق .
نهاية حرب و نتاج طبيعي وتغييرات مستحقة
     تعرض المشهد العراقي سياسيا و امنيا و اجتماعيا وثقافيا على مستوى الشعب العراقي ، وبقدر ما ، على مستوى الجهاز الحاكم ، في المدة التي تلت نهاية الحرب ١٩٨٨ الى تغييرات ومنعطفات عظيمة في مساراته واركانه و مقوماته ، لم تكن هينة ولم تخطر على بال احد . فلقد تبدلت احوال الفرد العراقي وتغيرت كثيرا عناصر شخصيته الى حد انها قلبت من طريقة  تفكيره و اسلوب حكمه على الامور ومنهج تعاطيه مع القضايا المصيرية  ومستوى اهتمامه بالأحداث ، و اولا وقبل شيء مزاجه النفسي .  كان الشعور بالإحباط وغلبة الياس والاستسلام للتشاؤم والشعور باللا جدوى السمة البارزة للفرد العراقي ، وانفصام العرى الاجتماعية مدعاة للاغتراب ، وتحلل الرابطة الوطنية سببا لتميع الهوية الوطنية والضياع ، و الشعور بالقلق والخوف النفسيين نتيجة لآثار الحرب والمبالغة في تنمر النظام و اشتداد شراسته، بعد حصول الاطمئنان  في نفسه على بقائه واستمراره في السلطة، عنوان عام لشكوى كل فرد من ابناء الشعب العراقي حينئذ .
معارضة ؛ و لكن تعارض من ؟
   وكانت القوى المؤثرة الفعالة في الواقع السياسي العراقي ، وخصوصا في المناطق شيعية السكان ، وما يتبعه ويرتبط به من حال اجتماعي واقتصادي في مرحلة ما بعد الحرب ، بيّنة الحضور واضحة الملامح معروفة الحجم مصنفة تبعا لدرجة تأثير افعالها ، الا المعارضة الاسلامية الشيعية العراقية ، فكانت اخفى من تلاحظ واهون من ان تترك اثر واضعف من ان تظهر في ميزان القوى والمعادلة الاقليمية بل حتى المحلية . وانصافا ان ذلك لم يكن عن عوامل ذاتية فحسب بل تضافر عوامل خارجية قاهرة ضد تلك الحركات سلط عليها ضغطا اثقل من تحمله بكياناتها غير المتينة .
   على ضوء ذلك بدأت تحصل فجوة و تظهر هوة بين الوجود الاجتماعي الاسلامي الشيعي المتنوع بمستوياته، المختلف في مشاربه ، المتباين في وعيه  ، و بين والحركات الإسلامية الشيعية الى حد خيبة الامل و فقدان الثقة . المواطن العراقي ابن العائلة العراقية التي فقدت احد افرادها او اكثر قتيلا في الحرب او اسيرا او جريحا او معدوما او سجينا او مهاجرا مضطرا او هاربا مترقبا ، وجد نفسه تحت مطرقة لقمة العيش المتعسرة وسندان الرعب والفزع من اجهزة بطش فريدة من نوعها . انكفا هذا الفرد المهدد بوجوده البيولوجي على نفسه ، مقيدا همه بحاجات عيشه ليومه ، يعد كل يوم يمر عليه زيادة في عمره ، ولم يعد يبال بموضوع الخطابات والشعارات والوعد والوعيد ، وتشرب في لاوعيه ان النظام البعثي الاجرامي قد ترسخ وجوده وتعززت قبضته واشتد بطشه و جبروته ولا امل في احداث تغييره و زواله ؛ انها حالة الاحباط التي تلي معاينة الجراح والاضرار في جسد المواطن المسحوق . بل بدأت تتبلور مشاعر الإدانة للحركات المعارضة بشكل عام وتحميلها قدرا من مسؤولية الماساة التي تعرض لها هذا الشعب الا جماعات كانت تدافع وتفسر و تبرر لها وان كانت اقل حجما امام الاتجاه العام ، و لأمرها هذا اسباب غير خفية و دوافع شخصية .
 
المؤسسة الدينية
    و في خضم احداث هذا السفر المضطرب كانت المؤسسة الدينية (الحوزة العلمية و مرجعياتها العليا)  تعيش اسوء مرحلة في تاريخها ، فهي رغم كونها مرشدا وقيما و مفزعا وملجا وكهفا وملاذا لهذا الوجود الإجتماعي الشيعي ، لم تجد لنفسها الامن والامان ، و طمأنينة الموقف ، و حصانة ابداء الرايء ، و سمو القول الفصل ، فلاذت مضطرة  بعزلة عززت من ظهور مواقف سلبية ازاءها مبرَرة بتعاليها و عدم مبالاتها و انحسار اهتمامها على شؤون لم تلق اهتماما في نفوس مثقلة بالجراح من الحرب ومن اثارها وتبعاتها على مستقبل العلاقة بين المواطن والنظام .
المواطن يبحث ….
  هذا كله اشعر المواطن بهامشيته بين القوى المختلفة و تأكدت في ذاته هواجس ، لها جذور تاريخية ، ودوافع قومية وتصنيف عنصري اجتماعي وطبقي اقتصادي ، و اختصاص  حصري لتميز وهمي واعتبار قسري اختصرها في ضميره ان ( هناك أرقام صعبة وكيانات مميزة  ، لها اعتبارات مقدمة موهوبة غير مكتسبة ،  يقابلها ارقام بخسة وكيانات مهمشة لا تملك القدرة الايجابية على التأثير في الاحداث ، الا كونها مادة الحدث ووسيلته وهي لا تتعدى ان تكون وجودات كمية لا عنوان لها ، و- المواطن – من تلك الوجودات عديمة الحضور) .
المشهد يتجدد ويتحدد
  يتضح من خلال التأمل الدقيق والاستقراء الموضوعي لمجمل المشهد السياسي -الاقتصادي – الاجتماعي ان هناك خمسة مسارات واضحة ؛ المسار الجديد المرن عقيديا، المتغير براغماتيا ، للجمهورية الاسلامية إزاء الواقع العراقي نظاما ومعارضة وشعبا . مسار النظام السلطوي الدكتاتوري المتصاعد في طغيانه المنتشي ببقائه ، الجذل بالتأييد الاقليمي والدولي الصريح والمشبوه له . مسار المعارضة الاسلامية الشيعية العراقية المضطربة القلقة العنيدة . مسار المؤسسة الدينية -المرجعية الدينية العليا وامتداداتها من المرجعيات الاخرى والحوزة العلمية في النجف الاشرف- المتحصنة بحصون الغيب والتغيب والتعرش في عالم المجهول والذكر الخفي ، والمقموع فيها الاختلاف والمبطن فيها الخلاف . واخيرا المسار الذي يمثل الاتجاه العام ل(عوام) الشعب العراقي – مع الاقرار بوجود استثناءات عن هذا الإتجاه العام . وخلف هذا المشهد تتحشد القوى الاقليمية والدولية مؤثرة في كل من المسارات الانفة الذكر سلبا او ايجابا ، تاييدا او ضغطا ، دعما او سحقا ، نصرة او خذلانا .
تجذر التغييرات وتعجيل نضجها و توجيه دفتها
     وتقع حرب الخليج الثانية عام ١٩٩١، او محنة العراقيين الاخرى ، ولسنا هنا بصدد استقراء اسبابها الخفية او تعقب دوافعها الحقيقية ، وبيان تشابك المهارات الخارقة لمؤسسات المخابراتية العالمية ، التي تستطيع ان تنتج حروبا تمحنها صفة “المقدسة “او تعرضها “كأقدار سماوية” او تعنونها “استحقاقات تاريخية ” حسب الطلب والحاجة . ولكن ما يهم في هذا المضمار هو اثارها الكارثية ونتائجها المأساوية ، التي بدأت اول صفحتها بانتفاضة ١٥اذار( شعبان ) وتوالت صفحات الانهيار وتعجلت اقدام التراجع في وادي الانحطاط والتردي على مسار العقود التي تبعتها . و مما يثير العجب ان الباحثين والدراسين الذين تناولوا دراسة انتفاضة اذار ١٩٩١ لم يرتقوا الى مستوى كنهها ولم يوفقوا للتعرف على مضامينها (الاجتماعية – النفسية) رغم الكم الهائل من الدراسات والكتابات التي تعرضت لها ، ومن مختلف الجهات وعلى تباين المناهج والاختصاص . وحقيقة الانتفاضة ؛ انها كانت في بدايتها تمرد عسكري شبابي عفوي حانق على مرارة القدر الذي وجدوا انفسهم فيه ، تحول واتسع الى شعبي- شيعي  ، وهذا امر سهل ادراكه لمن عاصرها من داخل العراق ، لكنه بدى مشوشا لمن بعد عن ميدانها زمانا ومكانا .(( مما لا يخفى ان حالة التمرد كانت عامة في اوساط الشيعة والسنة والكرد ولكن اختلفت وسائل التعبير حسب الظرف والبيئة والعلاقة مع النظام )).   وان الانتفاضة كانت تمرد ، فلانها عبرت عن عصيان و رفض الانصياع  لمغامرات مجنونة لحاكم معتوه بعد ان بلغ السيل الزبى ، فهو الموت الزوام متقدما او متراجعا ، فليكن هذه المرة الموت بطريقة اخرى . وكان هذا التمرد عسكري شبابي ليس لأنه يحمل طبيعة التنظيم العسكري وانما هو عسكري شبابي لان من قام بالتمرد كانوا جلهم من الشباب العسكريين الهاربين من الجيش المختبين في مدن الجنوب والوسط او المنهزمين المنكسرين نفسيا في جبهات القتال امام ماكينة الموت المرعبة لقوات التحالف الدولي البغيض ، ممن عانوا الويلات في الحرب العراقية الإيرانية سابقا ، شارك فيها وقاد معارك الاصطدام في ايامها الاولى في بعض المناطق على مشارف المدن او داخلها ، قادة عسكريون تركوا وحداتهم والتحقوا بتلك التشكيلات المتمردة .
من عفوية الفعل الى محاولة الترتيب
    ورغم ان تطورات سياسية وعسكرية ميدانية وشعبية حصلت بعد هذه الايام الاولى ، اختلطت فيها الاوراق وشاركت اطراف وتورطت جهات اخرى على مستوى الفعل الميداني او بيان الموقف منها ، من جهات دينية او كيانات اجتماعية ابرزها عشائر القاطنة خارج المدن والاقضية . ومهما يقال عن الانتفاضة نقدا فانها تبقى انتفاضة عفوية لكبش تمرد على   سفاح اشر. والحق ان الانتفاضة لم يكن لها اطار تنظيمي او منهج حركي او إستراتيجية تخطيط ، بل هي رد فعل لجماهير جمعتها النقمة على جهاز حاكم  سفك دمائها وانتهك حرمها و حطم امالها وضيع مستقبلها . وتفرقها امور عدة. و يستدل على ذلك انه لم يكن هناك اي حزب او جماعة او جهة سياسية معروفة كان لها دور مميز معلن على مستوى التعبئة او ادارة العمليات بل كانت اغلبها بيد عناصر اجتماعية ابعد ما تكون عن الارتباط السياسي ، واكثر من ذلك ان تشكيلات جديدة ظهرت تحمل عنوان الانتفاضة واسمها فيما بعد ، مما يدل انها كانت وليدة لا اب لها .
  واذا كان هناك وصفا تستحقه انتفاضة اذار ١٩٩١ فهي نقطة شروع لصيرورة مجتمع جديد منقطع عن مجتمع ما قبل ١٩٩١ – رغم ان افراد ما قبل ١٩٩١هم افراد ما بعد ١٩٩١انفسهم – ولكن تغير بشكل حاد مضمون كيانهم الانساني ووعيهم بماضيهم وتطلعهم لمستقبلهم و ادراكهم لانتمائهم وتبعثرت مقومات منظومتهم الاجتماعية .
ظهور الشخصية العراقية – الشيعية بصبغتها الجديد
    بكلام واضح صريح ان التمرد الوجداني – السلوكي ضد كل مفروض وسلطوي ، وعرف اجتماعي وديني قهري ، واتجاه فكري مستبد ، وقيم ثقافية مقيدة  بات هو محور شخصية الفرد العراقي المسلم- الشيعي و مرجع سلوكه واعتباراته . ورغم ان ذلك لم يات من فراغ ، ولا الحدث بفاجعته سبب هذا التشكل المفزع للشخصية العراقية الشيعية فحسب ، وانما كان تراكم كمي وتفاعل نوعي لمجموعة مؤثرات تمتد بالعمق الزمني ، وقد ترسخت في الشخصية الجديدة اكثر وبانت بشكل اوضح وعبرت عن نفسها بالفعل والسلوك بعدما كانت تموج داخل النفس كمشاعر مقموعة . فقد تلبس الفرد العراقي الشيعي بالتمرد وامتطى العصيان وجذرت الاحداث ذلك في شخصيته ، واكدت تلك الشخصية بتمظهرها الجديد حقيقة علمية -اجتماعية ان سيرورة الفرد العراقي  كانت  تنبيء بظهور بمثل هذه الشخصية بلا تردد . اي ان الفرد العراقي ،لاسيما الشيعي في وسط وجنوب العراق ، قد بمراحل اعادة صياغة قهرا منذ بداية الحرب العراقية- الإيرانية  ليصل الى تلك الحالة المتازمة نفسيا المتمردة سلوكيا المضطربة عاطفيا.
حصاد التمرد
    وفي هذا المنعطف التاريخي برزت مرجعية السيد محمد محمد صادق الصدر تعبيرا صارخا عن التمرد بسياق فقهي حوزوي ، واطار مرجعي ، وبعد اجتماعي . مثلت شخصية المرجع  مصداقا حقيقيا للمتمرد بما يحمل من ارث تاريخي عزز فيه نزعة التمرد على الواقع وشجاعة الخروج عن القيود ، استطاع ان يستقطب كل الشباب المتمردين ليلتفوا حوله ، تجمعهم روح التمرد والرفض والنبذ اكثر ما تجذبهم علمية او اعلمية او عدالة المرجع . ولسنا هنا بصدد الاهتمام و دراسة ومناقشة وتقييم شرائط  وخصائص وضوابط  المرجع العلمية او عدالته او منهجه او نظرية عمله ، فهذا ليس بمقامه . و لقد تهيأت لتلك المرجعية اسباب وظروف موضوعية ساعدت في اتساع دائرتها وامتداد مساحة التمرد بين صفوف افراد الكيان الشيعي العراقي خصوصا الشباب بمواصفات معينة ، منهم الكثير من تأثر بتجربة احداث انتفاضة اذار ١٩٩١وعانى من جراحات الحرب العراقية الإيرانية . كان الدافع الذي يحرك روح التمرد لدى هذا التيار الاجتماعي – الديني بقيادته و قواعده على حد سواء هو البحث عن موقع على الخارطة الاعتبار والتعبير و رفض الاقصاء والتهميش و الحرب ضد الخصوصيات المتقدمة في رتبها و منازلها .
الاستجابة والتفاعل
    و اظهرت حالة التمرد قدرا من الشجاعة والخروج عن المألوف في التعرض للمسكوت عنه ، المحصن بالقدسية ، لأسباب تتعلق ببساطة شخصية المتمرد منحته تلك الشجاعة مع وضوحها ومباشرتها . تقترب في كثير من الاحوال بساطة الشخصية العراقية المتمردة من السذاجة اكثر من ان تكون عفوية منبسطة  ؛ اي ان دائرة الوصل بين المؤثر من خارج الشخصية  والمستجيب من داخلها قصيرة و بسيطة ، لا تمر عبر قنوات التفكر و التأمل والتدبر والتنظير والتحقيق والبحث عن ادلة اثبات ، حتى ولو تمكن من ادواتها ، بل اساس السلوك لدى الشخصية المتمردة رد الفعل المحكوم بالوجدان والمستجيب للانفعال الجمعي العام . لذلك تماهت من مرجعها و مكتبه الخاصة في التعبير عن موقفها السلبي اتجاه شخصيات كانت لها مكانة اعتبارية مميزة ، لأسباب تتعلق بمواقفها من خط المرجع الصدر او جذوره في التاريخ القريب . و الشخصية المتمردة تعيش حاضرها الراهن غير متازمة بتبعات الماضي، فقد نبذته خلف ظهرها و ابتدأت مرحلة جديدة من حياتها ؛ و هذا من اهم مقومات الشخصية العراقية حيث لديها الاستعداد دوما للتنقل من حال الى حال دون ان يشكل لديها الماضي عقدة ، بل هي تفتخر انها يوما كانت في مسار تصفه بعدئذ بانه ” خطأ  ”  – في اهون الاوصاف – ووفقت بعدها الى الصواب ، مهما كانت درجة التعارض بين هذين “الصواب والخطأ ” . وهذا يفسر التنوع الثقافي والاجتماعي والوظيفي والتاريخي لهذا الوجود الاجتماعي و تطور قوة اصرة ترابطه وصرامة شبكته  مع مرونة إمكانية الانتساب اليه الذي جب ما قبله مهما كان . فالتحق بهذا السيل اصحاب الماضي المنبوذ اجتماعيا لخُلق او انتماء حزبي او اتجاه فكري او انتساب اجتماعي ، من عسكرين خرجوا من الخدمة او اخرجوا منها و بعثيين ابعدوا او ابتعدوا عن الجهاز الحاكم و قطاعات واسعة من الشباب كانت تغرق في السفاسف من امور العيش .
عوامل استفزاز وتحفيز
    ومما زاد اتساع هذا السيل العارم وشدته هو الموقف السلبي المستهزيء منه والمستخف به والمتهم له ، والتصدي له من قبل مرجعيات و حوزة النجف عموما ، واطراف معينة متنفذة في الجمهورية الاسلامية في ايران ، وفي حوزة قم ، و قوى المعارضة الاسلامية الشيعية العراقية قاطبة . حيث انها فسرت واقع الامر بخلاف حقيقته ، وانشغلت بظاهر الحالة دون جوهرها ، وافتقدت الى الموضوعية والحكمة في دراسة والحكم على والتعاطي مع هذه الظاهرة المستجدة في سياقات العلاقة بين النظام -المرجعية- الجماهير ، التي تكاد تكون فريدة من نوعها .  ولعل موقف النظام البعثي واجهزته الامنية المرن المقصود المترقب بخبث لمسار الاحداث وفر فرصة لمثل هذا الاتساع ، قابله مزيد من التحدي و التمرد على السلطة لدى هذا التيار الاجتماعي- الديني المتبلور سريعا . وقد ارتكبت المعارضة الاسلامية الشيعية العراقية خطأ فادحا لسوء تقديرها لماهية (التشكيل) الجديد وطبيعته وخصائصه فارادت المعارضة ضرب المرجع التي اعتقدت انه سحب بساط التأييد الشعبي من تحت اقدامها فوجدت نفسها امام رفض شعبي قوي لها بسبب موقفها الظالم وترسخ هذا بقوة حين اُغتيل السيد محمد الصدر رحمه الله تعالى .
بيان التأسيس
   امسى الان واضحا ان تطور الأحداث وتلاحقها ادخل الكيان الشيعي العراقي مخاض قهري عسير ليولد نتيجة عنه اتجاه متمردٌ رافضٌ لكل الاطر التقليدية في صيغ العلاقات بينه وبين الحاكم ، عصيُّ على الاحتواء ، صعبُ المراس ، مغامر مشاكس ، مندفع مستميت ، لا يحده رادع ولا يمنعه ضابط ، الا ارتباطه بمركز حركته و اس وجوده ونقطة انتظامه و وصلة  امداده و منطلق سلوكه ، بطاعة و ولاء المُعتقِد المخلص المتفاني .
من يقود ؟
    ان اخطر حلقات هذا الاتجاه المتمرد هو قيادته وقطب الرحى في وجوده المميز المتفرد ، فليس بالهين ان يقاد مثل هذا الاتجاه من اي كان ، الا ان يحمل شروط ومؤهلات و كفاءات ومهارات تؤهله لزعامة تلك الجموع . واهم تلك الشروط والمؤهلات المطلوبة في الزعيم – الرائد هو الاشتراك والتطابق بروح التمرد و نزعة العصيان ،  و رفض الانضباط باي قيد ، والتحرر من كل الزام ، والميل والاستعداد لكل فعل غاضب وان تبعه عنف بصورة ثأر او انتقام  . الا ان هذا كله يُضمن و يُحصن بإطار من العلاقة الغنوصية القدسية بين الزعيم -الرائد وجموع المتمردين الذين تحولوا الى اتباع مطيعين . ويُحكم على الخارج من طوق هذه العلاقة الغنوصية – القدسية بالارتداد والخيانة العظمى الموجبة لأقسى عقوبة . ولا يمكن تقبل تفسير الطاعة بهذا النوع المستوى على ان منشأها هو الجهل ، لأنه تفسير سطحي لا يدرك لب القضية . بل يمكن القول ان اشد (الاتباع) ولاءً وطاعة هو الاكثر نزعة وميل و سلوكا للتمرد .
  تبلور ما بعد التأسيس
   واكدت وقائع ما بعد ٢٠٠٣ كل هذه الحقائق ، و رسخت الاتجاهات الموجبة المعززة لاستمرار ظاهرة التمرد ، وهيات مزيدا من الاسباب لتصاعد حدة تطرفها و شدة عنفها. فبعد دخول القوات الامريكية وحلفائها الى بغداد وسقوط النظام البعثي الصدامي وبعثرة  المتبقي من المنظومة الاجتماعية ، وتَشَرْخ قواعد البنى القيمية والاخلاقية القلقة، وانهيار هيكل الدولة ، وتشرذم مؤسساتها ، و كشف الغطاء عن مرجل التغييرات التي كانت تموج تحت السطح مقموعة بإرهاب السلطة ، فتغيرت كل المواقع على الخريطة الواقع ، واختلفت كل القيم في ميزان الاعتبار والاحترام . ولا مندوحة في هذا الظرف العصيب والمفترق الحضاري الغريب ان تتصدى لإدارة الواقع الجديد وشؤون البلاد المسلوبة المنتهكة ورعاية شعب منكسر، قوى معينة بذاتها و تسييدت المشهد  شخصيات و رموز ورجال دون غيرهم ، واُقصيت وهُمشت جهات ووجودات وشخصيات بدعاوى التوزيع التاريخي -العرفي التليد لمراكز القوى ومحاور النفوذ . واظهرت كل الاطراف ، بلا استثناء ، ما كان باطنا مخبئا في الصدور والذاكرة ، وبقى مستورا بحكم سلطة البعث الغاشم وقمعه،  اظهرته للعلن دون مواربة او حياء او خوف او حذر ، مما ادى الى التصادم الصريح المكشوف بين القوى داخل الخندق الواحد او بين الخنادق المتقابلة. وهو الذي اسقط كل اقنعة التمرد ووفر مبرراته و انضج اسبابه . فظهر التمرد جليا واضحا كتيار شعبي جارف لا يخشى نظاما ولا سلطة ولا قانونا بل ابتدع قانونه الخاص ؛ قانون الثأر والانتقام  والفرض بالقوة والاكراه ، ديباجته الرعب في قلوب العالمين وسبيله محاكم الميدان . وبحكم العلاقة التبادلية في التأثير والتأثر، والانفعال والاستجابة ، بين القائد وأتباعه تقدم هذا التيار خطوات في مجالاته التنظيمية وشبكة علاقاته العامة ، واتسعت دائرة فعاليته وتضخمت غاياته وعظمت اهدافه وانتفخت اوداج اركان زعيمه .
 خلاصة و رسالة
    و خلاصة ما يمكن استفادته من كل ما قيل ، ومما ينبغي ادراكه و وعيه و تداركه ؛ ان اخطر ما يحسنه هذا التيار قدرته الفائقة على احداث الفوضى والهدم ، وامكانياته على تعطيل اي مشروع مضاد له ، وقابليته على تحجيم اي قوة مخالفة لمزاجه ، وعرقلة اي مسار لا يرتضيه ، وفي الوقت ذاته عجزه عن تاسيس اي مشروع حضاري او بناء مؤسسات عصرية تنموية ، فضلا عن غياب مفهوم الدولة عن ذهنه ، وعدم احاطته وتمكنه من عناصرها ومقوماتها ، ولا قناعته بالاختلاف ، ولا تشربه بثقافة احترام القانون واطاعة الدستور . فسيخلف تمرده الدمار في مجالات الحياة ، وقطعا ينتهي به المسار الى الانتحار.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى