أحدث الأخبارالإسلامية

نهضة الحسين: دروس وعبر للمؤمنين وأنموذج للأحرار

مجلة تحليلات العصر الدولية

لندن – د. أحمد الزين – السبت 22-08-2020:

هلّ محرم الحرام هذا العام مثقلا بازمات كارثية على البشرية جمعاء، حيث تعيش المجتمعات كافة ظروفا استثنائية صعبة من جراء انتشار وباء كورونا، والذي تمخض عنه ازمات صحية وإنسانية واقتصادية واجتماعية وتعليمية واسروية.. أجبرت الدول الى إتخاذ إجراءات صارمة بضرورة إتباع التباعد الاجتماعي وتعليمات بتطبيق الوقاية الصحية وتجنب الاختلاط والنتقل والسفر (الا للضرورة القصوى) ومنع التجمعات البشرية والاحتفالات.. وبطبيعة الحال، فان تبعات حظر التجوال والاغلاق العام أثّرت على العادات والاعراف والشعائر الحسينية المتبعة في هذا الشهر الحرام وحرمت ملايين المعزين بمصاب أبا عبدالله الحسين (ع) من الزحف نحو أضرحة الإمام الحسين (ع) والائمة الاطهار (ع)، والمشاركة بالمواكب والمسيرات الحسينية كما جرت العادة، وامتنع معظمهم عن مجالس العزاء حضوريا إلتزاما صحيا ودينيا واخلاقيا وقانونيا، واكتفت بإحياء الشعيرة بمتابعة المجالس الحسينية التي تُبث عبر القنوات التلفزيونية وتطبيقات الإنترنت، او إقامة مجالس العزاء العائلية في المنازل، تحت شعار مستجد “كل بيت عاشوراء”.
شهر محرم الحرام من كل عام هو محطة زمنية تستوقفنا لنستذكر لحظات تاريخية حزينة من تاريخنا الإسلامي، حيث تتوهج حرارة حبّ الحسين في قلوب المؤمنين وتتفاعل العاطفة الوجدانية والمخيلة الانسانية في إستحضار مشاهد البطولة والآباء والمواقف التاريخية وملاحم الإستشهاد والتضحيات التي قدمها وأهل بيته (ع) وأصحابه الابرار في واقعة كربلاء الفجيعة التي حدثت نتيجة تراكمات وممارسات باطلة لحكام بني أمية من حبّ السلطة والمال والفساد والطغيان والجهل بأحكام الإسلام وما تبع ذلك من إنحلال إخلاقي وإنحراف الامة عن مسار الإيمان والقيم الاخلاقية والإنسانية الذي رسمه لهم النبي محمد (ص) فكادوا يسقُطُون فِي مهاوي الكُفر والضَّلال. لهذا قام سبطه الإمام الحسين (ع) بنهضته المباركة وتصدى لإعوجاج الفكر وسقوط رجال الامة ليعيدهم الى صوابهم ويهديهم الى طريق الرشاد، ويقوّم مسارهم الى الطريق المستقيم طريق الهداية والإيمان والتقوى والقيم والمثل والاخلاق.. وبالتالي ليحفظ رسالة الإسلام من الدنس والرجس.
في هذا السياق، بقيت نهضة الحسين (ع) خالدة على مدى التاريخ، وشكلت مدرسة ثورية تعلم الاجيال تلو الاجيال دروس الوفاء والآباء، والعطاء والفداء، والجهاد والتضحية والاستشهاد في سبيل الله لإحياء الدين.. وهي تتجدد كل عام وتستبطن فكر ثوري وثقافة واعية وحكم رشيدة واستدلالات واقعية تُستلهم منها عُـبـر ودروس بليغة عن الصراع بين الحق والباطل، والمنازعة بين الخير والشرّ، والتباين بين النور والظلام، والخصوم بين السمو والانحطاط، والمشادة بين الانصاف والفساد، والنزاع بين العدل والظلم..
لقد جسّد الامام الحسين (ع) بإستشهاده ارقى معاني الإيثار والتضحية واسمى آيات البذل والسخاء والفداء وأعظم معاني القيم والمبادىء الانسانية.. كما احيى بنهضته السنّة الالهية العظيمة وعقيدة الثبات والجهاد (هيهات منا الذلة)، وهي مجاهدة الظالمين ومقارعة الطغاة من الحكام الجائرين ومواجهتهم وقتالهم مهما علا شأنهم وقوتهم وجبروتهم وطغيانهم.. تعظيما للخالق في عبادته وتحكيما لشرعه، وتقديسا للدين وزرعا للمعروف وردعا للمنكر، وتحقيقا للعدل وسحقا للظلم وإنهاءً للفساد.. أمتثالاً لأمر الله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}..
لذلك إنتماؤنا وارتباطنا وحبّنا للحسين لا يتجسد في البكاء واللطم والندب ولبس السواد فقط بل بالاقتداء بإيمانه وجهاده وفكره وأخلاقه وسيرته الناصعة.. والسير على خطاه التغييرية ونهجه الإصلاحي في رفض كل أنواع الظلم والفساد والطغيان والاستبداد والاضطهاد.. والعزم والاستعداد للتضحية بكل غالٍ ونفيس، والتحرك والعمل الحقيقي الفاعل في إصلاح انفسنا أولا، ثم إسرتنا ثانيا، ثم مجتمعنا وأمتنا اخيرا .. وتغيير واقع الأمّة المرتهن باصناف النزاعات والخلافات والانقسامات والحروب الى افضل الحال في الوحدة والتمكين والترابط والتكافل والتكاتف.. إمتثالا لامر الله تعالى لقوله: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} ﴿التوبة-52﴾، هو الشهادة في سبيل الله أو النصر في سبيل تحقيق هذه الاهداف السامية، وكما قال الحسين (ع): “فوالله ما خرجتُ الا لطلب الاصلاح في أمّة جدي”… “ألا ترون أن الحق لا يعمل به وأن الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله محقا فإني لا أرى الموت إلا سعادة ولا الحياة مع الظالمين إلا برما”. لذا، هذه الثورة الحسينية تمثل أنموذجا عالميا ومشروعا إنسانيا لا تخص المسلمين من اتباع اهل البيت (ع) فقط بل هي قدوة واسوة ورسالة ودرسا ناطقا يحاكي نفوس أحرار العالم التواقة للحرية والتحرر من الاحتلال والظلم والاستبداد والطغيان والعبودية في كل زمان ومكان.
واقعيا في عصرنا هذا، تتجسّد مفاهيم نهضة الإمام الحسين (ع) في تثبيت حسن النية والارادة الصلبة والعزيمة لدعم حركات التحرر والمقاومة من اجل التعاون والتضامن والاستعداد للمواجهة والتصدي والصمود أمام أعداء الأمة، والوقوف بعزم وقوة ضد غطرسة وعدوان الظالمين أمريكا والكيان الصهيوني والتحالف الدولي الذين يمارسون التهديد والقتل والاغتيالات بدم بارد، ويرتكبون أبشع أنواع الدمار والإجرام في حق الأطفال والنساء والعجزة في فلسطين واليمن وسوريا والعراق ولبنان.. لتمرير مشروع “صفقة القرن” وسياسات التطبيع والخضوع والاستسلام على أيدي حكام الخليج من بني سعود وبني زايد وبني خليفة الطغاة المطبّعين طوعا داعمي الإرهاب ومؤسسي “داعش” الإرهابية.. الذين يعملون على تنفيذ اجندات المشروع الامريكي الصهيوني بإذكاء الحروب وإشعال الحرائق وإحتلال الاوطان وإخضاع شعوبها وتغيير الانظمة المعادية لها حماية لأمن “إسرائيل” وتقديم الدعم لها ماديا ولوجستيا للحفاظ على قوتها ولضمان تفوقها العسكري والنوعي في المنطقة، وتحقيقا لأطماعهم الاستعمارية والاقتصادية بالسيطرة والهيمنة ونهب النفط وثروات الشعوب ومصادرة قرارهم السيادي الحرّ.
فما احوج المحرومون والمظلومون اليوم الى عقيدة الدين المحمدي الاصيل والفكر الكربلائي والجهاد الحسيني كي تثور وثثأر من الظالمين والطغاة والغزاة.. وتطبق تطبيقا صادقا لشعار ومفهوم “كونوا حسينيين مؤمنين” لغاية وقف الحروب والمجازر والفتن، وإقامة العدل والمساواة وحفظ الامن والسلام في المجتمع الانساني، والارتقاء به الى شرف المجد والشموخ والعزّة والكرامة والانتصار.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى