أحدث الأخباراليمنمحور المقاومة

هل تستفيد اليمــن من التجـــربة الماليزية؟

مجلة تحليلات العصر الدولية - رشـــيد الحداد / مجلة يمن ثبات

تؤكد التجربة الماليزية الرائدة في التنمية أن الاعتماد على الذات وتوظيف الإمكانيات واستثمار الموارد الوطنية- مهما كان نوعها وحجمها- هو السبيل الوحيد للخلاص من التبعية الاقتصادية، فالكثير من الدول الآسيوية لديها نماذج اقتصادية متعددة، والكثير منها ناجحة؛ بسبب اعتمادها على الذات كالتجربة الماليزية التي تعد إحدى أفضل النماذج التنموية في العالم، فهذا البلد الآسيوي الذي عانى ارتفاع معدلات الفقر حيث وصل إلى أكثر من 50% خلال حقبة سبعينيات القرن الماضي تغلب على كل التحديات، وتحول من دولة فقيرة ومتخلفة شحيحة الموارد إلى دولة صناعية توازي بتجربتها اليابان.

ولكن هذا التحول الكبير في مسار الاقتصاد الماليزي لم يكن ليتحقق دون رؤية ولا قيادة تغيير ولا إرادة وطنية، بل انطلق من رؤية اقتصادية قادها رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، والذي استطاع أن يقود ثورة على الركود والتخلف والتبعية في ماليزيا ليقضي على كل عوامل التخلف بالاهتمام بالتعليم ودعم البحث العلمي، وقضى على التبعية الاقتصادية بنقل ماليزيا من دولة زراعية تعتمد على تصدير المواد الأولية كالقصدير والمطاط وزيت النخيل إلى مصاف الدول الصناعية؛ ليصنع منها دولة صناعية قوية تنافس اليابان وسنغافورة والصين، وبفضل السياسات الاقتصادية التي اعتمدها مهاتير محمد منذ وصوله للسلطة عام 1981 ـ 2003م، تحققت نهضة صناعية رائدة أسهم قطاع الصناعات والخدمات فيها بنسبة 90% من إجمالي الإنتاج المحلي، وخلال الفترة ذاتها انخفضت مؤشرات الفقر في أوساط الشعب الماليزي من 52%عام 1970م إلى 5% ، وتراجعت معدلات البطالة من 10% عام 1980م إلى 3% عام 2002م ، وفي المقابل ارتفع متوسط دخل الفرد الماليزي من 1200 دولار عام 1970م إلى 9000 دولار عام 2000م.

لم تعتمد التجربة الماليزية على القروض الخارجية، ولم تلجأ إلى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي طيلة فترة النهضة الماليزية، وبعكس الكثير من الدول الآسيوية التي لجأت للبحث عن حلول لأزماتها الاقتصادية في أروقة المؤسسات المالية الدولية « الصندوق والبنك الدوليين « ، وأبرز تلك الأزمات التي ضربت اقتصاديات عدد من الدول الآسيوية تمثلت في العام 1997م.

أعلنت ماليزيا اعتمادها على ذاتها لحل الأزمات الاقتصادية التي مرت بها، وتحديداً أزمة النمور الآسيوية أواخر تسعينيات القرن الماضي ، واللافت في الأمر أن توجه ماليزيا نحو مكافحة القروض الربوية بمختلف أشكالها يعد أحد عوامل نجاح هذه التجربة التي اعتمدت المبدأ الإسلامي السليم في ممارسة مختلف الأنشطة الاقتصادية، وتوجيه كل الموارد نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي والتنمية الذاتية المستدامة، وإلى جانب اهتمام ماليزيا بالعنصر البشري كثروة فاعلة ومحور التنمية تمسكت بالقيم الأخلاقية والعدالة والقيم الاجتماعية ، فمهاتير محمد بعث بعشرات الآلاف من الشباب الماليزي للدراسة في أعرق الجامعات الدولية لاكتساب المهارات والمعارف الضرورية لعملية البناء الصحيح للدولة الماليزية الناهضة، وانطلاقاً من رؤيته النهضوية للاستفادة من تجارب الغرب في الجانب الاقتصادي أصبحت مقولته المشهورة « إذا استطاعت آسيا أن تتمكن من نقل المهارات الصناعية للغرب، وتحتفظ بقيمها الثقافية، فإنها ستكون في موقع يسمح لها ببناء حضارة أعظم من أي حضارة عبر التاريخ «شعار المشروع النهضوي الماليزي، ومن أهم القيم التي اشتغل عليها مهاتير محمد لتحقيق خططه التنموية والاقتصادية قيم الولاء للوطن والإخلاص في العمل والاعتدال والوسطية؛ ولذلك استبعدت ماليزيا أي قروض محلية أو خارجية ربوية، واعتمدت في سياستها التنموية آليات فاعلة لاستقطاب الاستثمار الأجنبي لتعويض أي أموال أو قروض يمكن أن تحصل عليها من أي بنوك ربوية، واعتمدت على آلية الصكوك الإسلامية للحصول على السيولة المالية لإنشاء مشاريع استراتيجية، وقدمت إعفاءات وحوافز ضريبية وجمركية مغرية إلى جانب تقديم تسهيلات كبيرة للاستثمارات المحلية والخارجية؛ لتشجيعها على الاستثمار في ماليزيا والإسهام في تحقيق نهضة حقيقية وفاعلة يشترك الجميع في صناعتها، وعلى الرغم من وجود بنوك تجارية تقليدية في ماليزيا إلا أن الدولة قد دعمت التوجه الإسلامي في العمل المصرفي، فأنشأت سوق الأوراق المالية الإسلامية، ووفرت خدمات الصكوك الإسلامية للمؤسسات، إلى جانب تأسيس صناديق الاستثمار الإسلامية، وتمكنت بذلك من التخلص من أي فوائد ربوية للقروض المحلية أو الخارجية لأي استثمارات في آليات أذون الخزانة، كما توجهت الدولة لتقديم الدعم الكامل للمشاريع الصغيرة والأصغر، وهذا النوع من المشاريع كان له جدوى كبيرة في امتصاص الفقر والبطالة، وكان تمويل هذه المشاريع يتم عبر خدمات البنوك كقروض بيضاء لا فوائد عليها .

ومنحت الشركات والمعامل الإنتاجية التي اعتمدت في إنشائها على الصكوك الإسلامية إعفاءات من ضرائب الدخل والجمارك على مدخلات الإنتاج؛ بهدف دعم هذا التوجه غير الربوي والاستثماري المهم، يضاف إلى ذلك أن النموذج الإسلامي الماليزي التنموي اعتمد عدداً من الخطط البعيدة المدى، وبدأت الخطة الأولى من العام 1970ــ 1990م، والخطة الثانية بدأت من العام 1990ـ حتى 2020 م، وتلك الخطط والرؤى الاستراتيجية خضعت للمراجعة والتقييم، ونقلت ماليزيا إلى مصاف الدول المتقدمة ، وتم رسم تلك الخطط بناء على أولويات ماليزيا فمثلاً: « أطلق على الخطة الأولى التي نفذت خلال الفترة 70 ـ 90م من القرن الماضي، رؤية السياسة الاقتصادية الجديدة، وكان من أوليات هذه الرؤية الحد من الفقر والبطالة وتحسين المستوي المعيشي للمجتمع الماليزي ، وكان من أوليات خطة 2020م إنشاء مؤسسات وظيفتها تكوين شركات أعمال ، ومنح المجتمع حق المشاركة في ملكية المشروعات والاستفادة من أرباحها ، وهنا استطاعت ماليزيا أن تحشد الموارد العامة للمجتمع، وتعيد الكثير من الأموال المجمدة والمدخرة إلى النشاط الاقتصادي ، وكونها تعاني من تعدد إثني وعرقي؛ كونها تحتضن ثلاث عرقيات الأولى تمثل الملايو 60% من تعداد سكان ماليزيا البالغ أكثر من 52 مليون نسمة، والبقية عرقيات من أصول هندية وأخرى صينية ، فقد عمدت ماليزيا إلى تحقيق التوازن والعدالة الاجتماعية سواء فيما يتعلق بالوظائف العامة وتوزيعها، أو إسهام تلك العرقيات الثلاث في النشاط الاقتصادي والإنتاجي، حيث اعتمدت نظام الخصخصة لرفع معدل مشاركة تلك العرقيات في النشاط الاقتصادي والإنتاج المحلي من خلال تمليك المجتمع العديد من المصانع والمشاريع الخدمية.

لقد تمكنت ماليزيا من تقديم نموذج تنموي فريد، وأصبحت التجربة الماليزية إحدى أبرز النماذج التي يمكن الاستفادة منها للتغلب على معضلة التنمية في الدول المتخلفة، فماليزيا استثمرت مواردها الذاتية، ورفضت فكرة العولمة وفقا للمنظور الأمريكي؛ لأنها ستؤدى إلى فتح أسواق الدول النامية أمام الشركات الأمريكية العملاقة التي لا تقوى مؤسسات الدول النامية على منافستها، فيستمر الاحتكار، بل رفضت ماليزيا تطبيق السياسات التي أوصى بها صندوق النقد الدولي في أثناء الأزمة المالية في ماليزيا 1997م، وأصدر مهاتير محمد مجموعة قرارات تفرض قيودا على التحويلات النقدية من الخارج، وخالفت ماليزيا سياسة تعويم العملة، واعتمدت سياسات وطنية ، وخلال فترة نهضتها أولت الإنسان أهمية قصوى في التعليم والتدريب ، وسخرت أكثر من 50% من ميزانية الدولة للتعليم ومؤسسات البحث العلمي، واعتمدت على نطام إداري يقوم على آليات تعيين وفق الكفاءات والقدرات والمهارات ، وليس على الولاء الحزبي أو الانتماء الحزبي والمحسوبيات، وصنعت من شعب الملايو – الذي وصفه مهاتير محمد في حقبة السبعينيات بالشعب الكسول – خلايا نحل تعمل في مختلف المجالات والأنشطة بهمة ونشاط منقطع النظير.

ومن خلال استراتيجية مهاتير محمد النهضوية استطاع النموذج الماليزي أن يعزز المواطنة المتساوية، وأن يحقق العدالة بين جميع العرقيات، وأن يعزز الروابط بين الدولة والمجتمع، وأن يحافظ على القيم الاجتماعية والثقافات الماليزية، فكانت هذه التجربة فريدة من نوعها، لها هويتها الماليزية المتميزة، وطابعها القومي الفريد، ولم يستورد مهاتير محمد لبلاده ترسانة عسكرية لحمايتها من الصين والهند المجاورتين لها؛ فقد حصَّن بلاده بالعلم والمعرفة والقدرة على الإنتاج المنافس والفاعل.

وفي مجال الاستثمار السياحي وجَّه مهاتير محمد الحكومة الماليزية إلى تحويل المناطق الجميلة والتي لم تستثمر إلى منتجعات ترفيهية وحدائق وشاليهات ومتنفسات، وتمكن من تحويل تلك المواقع إلى مناطق سياحية أسهمت في رفع معدل الدخل القومي من السياحة الماليزية من 900 مليون دولار عام 1970م إلى 33 مليار دولار سنويا مطلع العام 2010م ، ووفقا لرؤية مهاتير محمد رائد النهضة الماليزية للمعرفة التي يقول عنها:(من امتلك المعرفة امتلك القوة) استثمر في مجال العلم والمعرفة، فطورت ماليزيا آليات التعليم، وأسست مئات المعاهد المهنية ومراكز البحوث والدراسات، ووجهت البحث العلمي نحو خدمة التنمية؛ ليسهم ذلك بـ 84.6 مليار دولار من إجمالي الناتج القومي مقابل 188 مليار دولار تشكل إسهام القطاع الصناعي والزراعي .

الدروس المستفادة من التجربة الماليزية كثيرة ، ولكن[بالنسبة لوضعنا اليمني يمكن أن نستفيد من هذه التجربة بما يتوافق مع خصوصيات اليمن، فالاعتماد على الذات والتوجه نحو الاكتفاء الذاتي يعد الطريق السليم والمواجهة الحقيقة للتبعية الاقتصادية لدول الاستكبار العالمي، والتخطيط الجيد في مختلف المجالات بناء على أولويات كل مرحلة أحد أسس نجاح أي خطط وطنية]، والاستفادة من التجارب الأجنبية وفق الاحتياجات الوطنية لايعني نقل التجربة بشكل كلي، بل يتم الاستفادة من بعض جوانب تلك التجارب القابلة للتنفيذ في اليمن بما يتوافق مع طبيعتها، ويحتفظ لها بخصوصيتها الفريدة وبصمتها التاريخية والحضارية المتميزة، بمعنى أنه يمكن دراسة تجارب الدول الناجحة، والتعرف على الطرق التي سلكوها؛ لتحقيق النجاح، والاختيار من بينها، إلى جانب التعرف على الأخطاء التي وقعوا فيها والمشاكل التي واجهتهم في طريقهم حتى يتم تجنبها ، مع الأخذ بالاعتبار أن ما يمكن تطبيقه من نماذج في دولة من الدول قد لا يمكن نقله بسهولة إلى دولة أخرى، فماليزيا مثلا أسهم الاستقرار السياسي في أثناء فترة رئاسة مهاتير محمد للحكومة الماليزية خلال أكثر من 22 عاماً في إتاحة هامش واسع لتحقيق نجاح هذا النموذج، ولعل أبرز الدرس المستفادة من التجربة الماليزية هي وجود قيادة قادرة على صنع التغيير، ووجود إرادة وطنية خالصة، فالإرادة السياسية والتخطيط الجيد يسهمان بشكل كبير وفاعل في قيادة التحولات الاقتصادية والاجتماعية .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى