تبعد قريتي عن العاصمة المؤقته عدن ساعتين وممكن تكون اقل لو كان الطريق الممتد جيدا ، عندما اتجه جنوبا وتطأ قدمي مدينة عدن اشعر بغربة وكأني انسان قادم من موزمبيق ، رغم انني عندما اطل من شرفة منزلنا في القرية اشاهد عدن ، ارى البريقة والبحر وارى الاضواء تتلألأ، لكن اليوم عندما تطأ قدمي عدن لا اجد عدن التي سمعنا وقرأنا عنها وشاهدناها يوم كانت (عدن عدن ياليت عدن مسير يوم شسير به ليلة ما شرقد النوم ) كما قال احمد الجابري وغنى احمد قاسم ، عدن لم تعد (عدن عدن فيها الهوى ملوّن ) كما قال الفضول وغنى ايوب ، عدن التي كانت ذات يوم مدينة المدن الحاوية المحتوية لكل اليمن ، وهي مدينة البحر والجمال والفن لم تعد كما كانت ، هي اليوم طاردة لكل قادم لمجرد اللكنة والسُحمة ، عدن مريضة تتوجع تتألم من نهش ذئاب اللحظة الطارئة، عندما يحضر الجبل ويغيب البحر عليك ان تتقين ان عدن ليست عدن .
حتى تعز الحالمة التي كنا نتباهى بها لم تعد كذلك، وصل الحال بها انها لم تعد جاذبه حتى لابنائها وانا احدهم، تعز لا تشبه تعز ، حتى الاسماء فيها صارت بشعة بشاعة افعال اصحابها مثل المقلوع والاعرج والاعور والهوري والحردون وغدر وغزوان، هي اسماء لعاهات لذلك لا غرابة ان تعيش تعز اليوم اعاقة وخراب مادي واخلاقي لاحد له ولا مدى ، اصدقكم القول بإني لا اشعر بالأمان وانا اتجه جنوبا تجاه عدن او تعز، في لحظات الفرز الحقيقية تتساقط المدن وتبدو الصورة الان فاضحة كاشفة وبلا تنميق .
تبعد صنعاء عن قريتي اكثر من 350 كم مسافة واكثر من 15 ساعة سفر وكانت سابقا لاتتجاوز سبع ساعات وهذا الفارق الزمني هو احد نتائج حرب المذاهب والطوائف والخرافة، ومع ذلك وانا اتجه شمالا واول مانتجاوز نقيل يسلح اشعر بأمان ، تقول لي زوجتي لقد وصلنا صنعاء ما اجمل هواء صنعاء ، صنعاء هي المدينة الوحيدة من كل مدن اليمن لاتنظر الى شكلك او لكنتك او كنيتك وهذه هي اخلاق مدن التاريخ ، رغم بشاعة الحرب ظلت صنعاء هي صنعاء لم تتحول ، لم تتبدل مع كل طارئ جديد، ظلت هي صنعاء المشبعة المغمّسة الغارقة بعبقرية التاريخ فهي الحاوية المحتوية لكل يمني فاتحة ابوابها لكل قادم دون سؤال من اين انت قادم، عنوانها ادخلوها بسلام أمنين .
كنت دائما اقول لابني وابنتي عندما اصل لمرحلة التقاعد سوف اغادر صنعاء عائدا للقرية ، يقولا لي كما قال بنو اسرائيل لموسى عليه السلام اذهب انت وربك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون ، تلك هي صنعاء من اتى اليها احبها غرق فيها لايغادرها الا للمقبرة ، امي واخي يرحمهما الله دفنا هنا في صنعاء ، حتى تراب صنعاء يحوي عظامنا وهي رميم ، لا مدينة يمنية تشبه صنعاء، هذه هي عبقرية مدن التاريخ تجدها كثيفة التنوع والحضارة عميقة التاريخ عالية التسامح.
لا احد يستطيع اختصار او اختزال صنعاء مهما تعددت الرايات والشعارات والرؤى والالوان ، صنعاء عنيدة عصية على الاختزال هي قوية من قوة التاريخ ، صنعاء بايجاز شديد هي معادلة التاريخ والتي نتيجتها انها تقبل القسمة على الجميع بدون باقي .
اقول صادقا صنعاء هي المدينة اليمنية الوحيدة التي تشعرني اني يمني.
