“إسر ائيل” تبحث عن الردع المفقود وغزة في عين العاصفة

حسن محمد.
العصر-بعد الصدمة التي تلقّتها “إسرا ئيل” من ردود الفعل الفلسطينية والإقليمية، على الممارسات الإسرائيلية التهويدية في مدينة القدس والاقتحامات التلمودية للمسجد الأقصى، واعتداءاتها المتكرّرة على المعتكفين، تخطت القضية لدى “إسرا ئيل” قضية القدس والأقصى، رغم أهميتها، وجوهريّتها داخل المخطّط الصهيو ني باختلاف أطيافه السياسية، إلا أنّ فعل المقاومة، الذي حدث من كل الساحات غزة والضفة، والداخل المحتل عام 1948، وجنوب لبنان وسوريا، مست بصورة المرتكز الأساسي للعقيدة العسكرية الإسرائيلية ألا وهي قوة الردع.
وبالتالي باتت استعادة قوة الردع الإسرائيلي وترميمه، أخطر وأهم من أي قضية أخرى، تمسّ الأمن القومي والوجودي لـ “إسرا ئيل”، بل وخارج أي حسابات سياسة حزبية وانقسامات داخلية مجتمعية إسرائيلية، ستبذل المؤسسة العسكر ية والجيش كل طاقة ممكنة لعدم السماح باستمرار تأكّل قوة الردع وسقوط الجدار الحديدي عنوان العقيدة العسكر ية الإسرائيلية، وتمريره عليها من قبل محور المقا ومة، كقاعدة اشتباك مفروضة عليها، من قبل أي جهة أو ساحة من دون أن تكون هناك محاولات إسرائيلية لمنع ذلك.
إذاً “إسر ائيل” أمام هدف إعادة صورة الردع وترميمه، كهدف وجودي، هدف يعلو على السياسة، هدف تدعمه المؤسسة العسكر ية، من دون الاكتراث، بمن هو رئيس الحكومة وما هي طبيعة حكومته.
لذلك فإنّ العقل الإسرائيلي العسكر ي المهني والعقلاني، سيفكّر حتماً بخوض معركة هدفها الأساسي، استعادة قوة الردع، من خلال توجيه ضربة قوية ذات بعد إعلامي قوي ترسل “إسر ائيل” من خلالها رسالة ردع للجميع، أنها ما زالت قوية وقادرة على معاقبة من يتجرّأ عليها.
لكن أمام كل ذلك تبرز عدة إشكالات مركزية أمام المؤسسة العسكر ية الإسرائيلية لتجهيز وتنفيذ ونجاح تلك المعر كة، أهمها:
أولاً، أهمية تلك المعر كة وحساسية نتائجها على الأمن القومي الإسرائيلي، تجعل من أي فشل لتلك المعر كة تداعيات انكسارية على القوة العسكر ية الإسرائيلية، كسقوط أول حجارة الدومينو في جدار الأمن القومي الإسرائيلي، وبالتالي تحتاج إلى حسابات دقيقة جداً، ووقت كافٍ للتخطيط، الأمر الذي يتطلّب من “إسر ائيل” تبريد الأوضاع، وعدم الانجرار وراء البعض الأيديولوجي والمتسرّع سياسياً في “إسر ائيل”.
بدءاً من اليمين الديني والعلماني القومي الفا شي، على ضوء فائض القوة التي شعرت بها “إسر ائيل” في الآونة الأخيرة وخاصة بعد هزات ما سمّي “الربيع العربي”، وانفتاح العرب والمنطقة على التطبيع بما سمّي اتفاقات أبراهام. وقبل ذلك كله، الحالة الفلسطينية المتشرذمة والتي كان من أهم نتائجها تجميد المقاو مة في ساحة الضفة الغربية على مدار ما يقارب 15 عاماً.
هؤلاء المتسرّعون اقتنعوا أنهم قادرون على حسم قضية تهويد القدس والمسجد الأقصى بالضربة القاضية بعكس توجّه بنيامين نتنياهو ابن المدرسة القديمة، والذي تحت ضغوطات الواقع السياسي لديه قبل بمجاراتهم. ولكن عندما شعر الجيش والأمن بالمعضلة الأمنية على “إسرا ئيل” من وراء أي معر كة عنوانها القدس، بات الضغط يتشكّل على نتنياهو من طرف الجيش والأمن وأيضاً من طرف الأميركيين، لأنّ القدس قضية من الممكن أن تشعل المنطقة وأن تكون عنواناً لوحدة ساحات محور المقاو مة، وهو آخر شيء تريده “إسرا ئيل”.
لذلك فإنّ “إسر ائيل” العاقلة المهنية تخوض صراعاً مع “إسرا ئيل” الدينية الهوجاء معركة على التأثير على صنع القرار الأمني والعسكر ي فيها، عنوانه تبريد الأوضاع، ومنح الجيش الفترة الكافية للاستعداد واختيار التوقيت الأنسب للمعر كة. لذلك شاهدنا نتنياهو يتراجع باتجاه موقف الجيش والأمن ويلتزم بتوصياتهم، التي هي ضد توصيات شركائه في الحكومة، وذهب لردود محدودة ومحسوبة سواء على الجبهة اللبنانية أو جبهة غزة، بل واتخذ قراراً بمنع اقتحام المستو طنين لباحات المسجد الأقصى في العشر الأواخر من شهر رمضان.
ثانياً، الجرأة الكبيرة لدى محور المقا ومة على ساحاته كافة، الذي بات أقوى من أي وقت آخر، وأكثر تنسيقاً وتعاوناً، والأهم أكثر ثقة بالذات بعد أن استطاع صد الهجمات الصهيو أميركية عليه، سواء في سوريا، لبنان واليمن، وفشل الضغوطات الأميركية القصوى على إيران، وتراجع اتفاقات التطبيع الهادفة لتشكيل حلف صهيو عربي في المنطقة ضد محور المقاو مة، أمام المصالحات العربية والإقليمية الداخلية، وقناعات الكثيرين بعدم قدرة الأميركي على حماية أنظمتهم، خاصة بعد انسحاب الأميركي المذل من أفغانستان.
وكلّ ذلك في ظل تغيّرات عميقة في الخارطة الدولية، وبروز الصين كقوة كبرى منافسة للهيمنة الأميركية في العالم، وما نتج عن الأزمة الروسية والأوكرانية من تداعيات سلبية كبرى على التموضع الأميركي في الخارطة الدولية. في ظل هذه التغيّرات استطاع محور المقا ومة بقيادة إيران توطيد علاقاته مع كل من الصين وروسيا، وبالتالي تمّ إيجاد عمق دولي قوي للمحور داخل الخارطة العالمية، بالتأكيد سيكون له تأثير إيجابي لصالحه في أي مواجهة مقبلة مع “إسر ائيل”.
وفي السياق ذاته، نجح محور المقاو مة في إبطال أكبر عملية تزييف وتشويه لقوى المقاو مة في المنطقة أمام شعوب المنطقة، عملت عليها أميركا و”إسرا ئيل” وحلفاؤهما خلال العقد الماضي، من خلال اتهامهم أنهم جزء من محور شيعي ذي أهداف مذهبية له أطماح توسعيّة بعيداً كل البعد عن القضية الفلسطينية.
لكنّ الدعم اللامتناهي من محور المقا ومة لقوى المقا ومة الفلسطينية على مدار الوقت وفي كل الظروف، والذي أثّر إيجابياً على تطوّر المقاو مة الفلسطينية، وتعزيز قدراتها، وخاصة مع فتح جبهة الضفة الغربية كساحة مواجهة فاعلة، ناهيك عن انطلاق الصوا ريخ من جنوب لبنان، وتفاعل الجماهير مع محور المقا ومة كمحور للقدس.
لذا باتت هناك خشية إسرائيلية من فتح معر كة إقليمية عنوانها القدس، لأن ذلك سيساهم في تصدّر محور المقا ومة الساحة العربية والإسلامية مجدّداً، وهذا أمر خطير على المستوى الاستراتيجي بالنسبة، لأميركا والإسرائيليين. كون عودة الأمة إلى خيار المقاو مة وابتعادها عن خيارات أميركا المتعددة في المنطقة يعتبر خطراً وجودياً على مصالح أميركا في المنطقة وعلى قوة الردع الإسرائيلية وجدارها الحديدي الوهمي.
من الواضح أن ذهاب “إسر ائيل” إلى معر كة إقليمية مع محور المقا ومة، من أجل استعادة قوة الردع، احتمال ضعيف ويحمل مخاطر حقيقية قد لا تستطيع “إسرائ يل” وجبهتها الداخلية تحمّله، وبالتأكيد فإنّ الأميركي لن يقبل بحر ب إقليمية تؤثر على استقرار المنطقة وتفتح له جبهة جديدة إضافة إلى الجبهة الأوكرانية الروسية المشتعلة.
وبالتالي من الأكثر احتمالية في الحسابات الإسرائيلية السياسية والعسكر ية، أن تكون الجبهة الأكثر سهولة لها مقارنة بالجبهات الأخرى هي جبهة غزة، التي من اللحظة الأولى لإطلاق صوا ريخ لبنان وضعها الجيش والمستوى الأمني في “إسرائ يل” في زاوية المسؤولية من خلال اتهامها أنّ فصائل فلسطينية وفي مقدّمتها حر كة حما س، هي من قامت بإطلاق تلك الصوا ريخ.
ولكن ليس كل ما يخطّط له الإسرائيلي قدر نافذ لا محالة لتغييره، فصمود الفلسطيني ومن خلفه محور المقا ومة، وكل القوى الحية في الأمة قادر على إفشال المخططات الإسرائيلية، خاصة إذا اعتقد الإسرائيلي جازماً أنّ غزة أو أي جبهة أخرى لن تكون لوحدها في حال نشوب مواجهة عسكر ية مع تلك الجبهة، وأنّ مفهوم وحدة الساحات بات استراتيجية يتم تطبيق خطواتها في الميدان.