اتفاقيات التطبيع العربية والمسؤولية الفلسطينية
مجلة تحليلات العصر الدولية - عبدالله أمين
في خضم التهافت العربي المسعور على فتح علاقات مع العدو الصهيوني ، كثر الحديث عن الأسباب والمسببات والأهداف والغايات من تلك الاتفاقات والبروتوكولات، وسال حبرٌ كثير في تفسير وتحليل منطلقات المطبعين ، كل يحلل من زاويته التي يقف فيها والمنطلقات التي ينطلق منها ، مبرراً أو مفسراً ، متهماً أو مبرئاً ؛ فدول ممالك الرمال في الجزيرة العربية طبعت مع الكيان خوفاً من إيران ، والسودان بحثاً عن أمان زائف من سيف عقوبات دعمها للارهاب ــ إقرأ دعمها للمقاومة الفلسطينية ــ ، أما المغرب فقد أُغريت باعتراف الإدارة الأمريكية لها بسيادتها على الصحراء الغربية ، أما أولاد سلمان فيغرون بتثبيت عرشهم على الجزيرة العربية في صفقة تشبه تلك التي عقدها الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت مع عبد العزيز بن سعود على ظهر الطراد كونسي في 14 فبراير عام 1945 واضعاً الأول الثاني وسلالتَهُ تحت الحماية الأمريكية . فلكل منهم ثمن ، ولكل واحد منهم بزعمه مصلحة يبحث عنها ؛ لا يجد ثمناً لها سوى التطبيع مع هذا الكيان الغاصب .
طبعاً هنا لا يجب أن يغيب عن بالنا ولو للحظة واحدة أن بعض هذه الدول كانت تجمعها مع هذا الكيان علاقات ود وحب سرية نتج عنها تعاون وتعاضد وتخادم في كثير من المجالات ، قبل أن يشهر هذا الزواج ويسجل لدى قاضي الــ ( شرع ) ترامب بحضور المأذون كوشنير .
لقد قيل الكثير والقليل عن هذه الاتفاقيات ، وفسرت وبررت وجرمت إلى الدرجة التي وصف البعض فيها من طبع بـالـــ (خائن ) المفارق للجماعة الطاعن لها في الظهر البائع للقضية الفلسطينية بأبخس الأثمان .
لكن ما لم يقل ولم يسلط عليه الضوء ــ فيما أحسب بالشكل المطلوب ـــ هو المسؤولية الفلسطينية عن هذه الهرولة وتلك الطعنات ، وكأننا لسنا مسؤولين عما حصل وسيحصل مستقبلاً ، الأمر الذي يتطلب منا مقاربة من زاوية أخرى ؛ قد ترضي البعض وقد تغضب آخرين ، ولكننا سنقاربها من زاوية أخرى ، مع ما فيها من ألغام وعبوات قد تنفجر في وجوهنا ، هذه المقاربة قائمة على فرضية أن السد الأخير والمانع الرئيسي أمام أي تطبيع بين مُحتَلٍ ومُحتلةٌ أرضه ؛ هو رضى الثاني عن فعل الأول والتسليم له وتنازله عن حقه أو بعض حقه له ، مما يدفع الأطراف الأخرى ؛ القريب منها والبعيد ، المحب منها والمبغض للقول : لسنا ملكيين أكثر من الملك ، ولسنا بأدرى منهم بشعاب بلدهم ، وعليه … يسعنا ما وسعهم ويرضينا ما يرضيهم !!
وإنطلاقاً من تلك الفرضية نقول : ألسنا كفلسطينيين أول من طبع وتصالح مع المحتل ؟ ألم يقل كثير من قادة بعض الدول خاصة فيما يعرف بدول عدم الإنحياز ، بل وبعض الدول العربية والإسلامية أن الراحل عرفات كان يناقشهم ويجادلهم سعياً لاقناعهم بفتح خطوط تواصل مع الكيان ــ طبعاً هم ليسوا بحاجة لمن يقنعهم ــ من أجل بناء شبكة مصالح لهم معه ــ مع العدو ــ تستثمر مستقبلاً للضغط عليه للاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني ؟ ألم تبقى الهند تلك القارة المترامية الأطراف دون علاقات دبلوماسية مع الكيان إلى أن جاءت مصيبة أوسلو وأخواتها فمهدت الطريق أمام الهند وغيرها من الدول لفتح أبوابها أمام المحتل ؟ ألم نتعامل نحن الفلسطينيون ــ لا استثني أي إطار من الأطر الفلسطينية الشعبية منها والرسمية ــ مع المطبعيين بمنهجين ومعيارين هذا ( بسمن ) وذاك ( بزيت ) ؟ ألم ينظّر بعض منظرينا أن زيارة تلك الجنسية للقدس والمسجد الأقصى تأتي في سياق دعم صمود المقدسيين في القدس ودفاعاً عن حقوهم ، وفي نفس الوقت وصفت زيارة آخرين بأنها تطبيع وطعن في الظهر وتخلي عن القضية وأهلها واعترافاً بالمحتل وتسليماً له باحتلاله ؟ وكلا الزائرين مرا من نفس المطار وحصلا على نفس تأشيرة المرور ، بل قد يكون ضابط الأمن الذي ختم جواز دخول هذا هو من ختم جواز الثاني !!!
ألسنا كعاملين للقضية الفلسطينية ؛ ومن مختلف الحركات والتنظيمات عندما نفاوض ؛ بل ونقاتل من أجل إجراء الانتخابات الرئاسية أو الــ ( التشريعية ) التي انبثقت عن أوسلو وكانت وليدة هذه النبتة الخبيثة ؛ إنما نعترف بالمحتل ونطبع مع منتج من منتجاته بطريقة أو بأخرى ؟ أو لا يسمى هذا تطبيع ؟ أم أنه تطبيع بزيت الزيتون الذي يخالطة من شدة الأصالة عرق من المرارة ؟ إن لم يكن هذا تطبيع فما هو التطبيع إذن ؟
ألم يحن الوقت لنقول أن التطبيع مع المحتل ليس له أي مبرر ولا مفسر ، وهو بجميع أشكاله مدان ومرفوض فلسطينياً وغير مقبول من أي كائن كان ، ولن نحمله على أنه دعم للصمود ولا تثبيتاً لأبناء الأرض بأرضهم ، فهم منذ احتل هذا الكيان تلك الديار ؛ ما فارقوا ديارهم ولا غابوا يوماً عن حقولهم وبساتين زيتونهم ، فثبتوا يوم لم تكن زيارات وصمدوا يوم لم تكن سفارات أو قنصليات ، وأن هذه الزيارات وتلك المراودات إنما تستغل من قبل هذا المحتل ليقول للعالم أجمع : هؤلاء الفلسطينيون طبعوا قبل أن تطبعوا وتصالحوا قبل أن تتصالحوا ورضوا وهم أبناء الأرض ، فما بالكم حاملين للسلم بالعرض ؟
أما آن لنا أن نقول للمحبين الحريصين على فلسطين وأهلها ؛أنها ذهبت بحد السيف وبخيانة الخونة ، ولن ترجع إلّا بحد السيف واستئصال الخونة ، وباب الدعم هنا واضح معروف ؛ فهو فيما يزيد من حد نصل السيف ويقوي قبضته ، ومن لا يقدر ولا يستطيع بنفسه المشاركة في زيادة ذاك الحد ؛ فبماله ودعائه ، أما أن يُذَرَ الرماد في عيوننا ويستخدمنا كجسر يعبر منه نحو مصلحة يراها له ولبلده ، فالله هو الغني وسيغنينا من فضله ويقوينا بقوته .
أما فيا يخص الحركات والمنظمات الفلسطينية فإنه يقع على عاتقها مسؤوليات أكثر مما يقع على عاتق غيرها من حلفاء وأصدقاء ـ عرباً وعجماً ــ يقع على عاتقها أن تسمي الأمور بمسمياتها وتكف عن تجميل المواقف وتزويقها ، وأن تنتبه لأصل المهمة التي تقول أن شعبها أولاها ثقته بناءً عليها ، ألا وهي مقاومة المحتل وكل ما نتج عنه وينتج من اتفاقيات لا تسمن ولا تغني من جوع ولن تعيد حقاً لأهله ، وأن تكف عن صرف مقدراتها المادية والبشرية وجهودها الجسدية والذهنية في مطاردة سراب اسمه تحصيل الحقوق عبر المطالبات الدولية والاتفاقات السياسية إنطلاقاً من مبدأ ؛ خذ وطالب !!! فالأخذ المعروض قليل ، والمطالبة المرجوة أكبر من أن تنجز في دهاليز السياسية وأروقة المؤتمرات .
إننا يا كرام مالم نكن أول المبادرين الرافضين ــ فعلاً وقولاً ــ لهذه الاتفاقات وتلك المسارات ، من أي جهة كانت ــ صديقة أو حليفة ـــ وتحت أي ذريعة سوقت من خلالها ؛ سنكون من المشاركين في حفلة الجنون هذه ، وسَتُرد حجتنا بحجتهم ــ المطبعون ــ عندما يردون علينا بقولهم : أوليست أوسلو وبروتوكول الخليل وما قبلهما وما بعدهما هي أساس أي عملية سياسية في فلسطين المحتلة تشاركون فيها الآن ومستقبلاً ؟ فإن كانت كذلك ؛ وهي كذلك ، فنحن وإياكم في ( الهوا سوى ) فعلى ما التلاوم والتشاتم ؟!!
أعلم أن البعض سيقول : أن هذا المنطق بعيدٌ كل البعد عن المنطق السياسي والطرح الموضوعي والفهم للظروف والبيئة وموازين القوى و … وما هكذا تورد الإبل يا عبد الله !!!
فأرد قائلاً : منذ أحتلت فلسطين في 1948 والإبل تورد بهذا المنطق السالف الذكر ! فهل رويت وهل شبعت وهل عادت
إلى مراعيها حرة طليقة ترعى كما تشاء وقت تشاء ، في صيف أو شتاء ؟ أما آن لرعاة هذه الإبل أن يقولوا كفى فقد شبعناً تسويفاً وتجويفاً ، أما آن لنا أن نصنع الظروف ونرسم المشهد ونبنى مفردات الموقف ونخرج من مربع الأزمات التي وضعنها فيها العدو قبل الصديق ، وأن نطرح منطقنا القائل : ليس أمام المحتلة أرضه من سبيل إلا قتال من احتل أرضه وغصب حقه والمعادلة بسيطة ــ على صعوبة بنائها ـــ ؛ من دخل بيتنا من النافذة محتلاً ؛ سنخرجه تحت وطء ضرباتنا من الباب منذلاً …والسلام