الاتفاق الإيرانيّ السعوديّ – أثره الايجابيّ على العراق والمنطقة
محمّد صادق الهاشميّ
————————-
العصر-بتاريخ 11/ 3 / 2023 م , تمّ توقيع تفاهم ذي أبعادٍ متعددةٍ بين السعوديّة وإيران برعايةٍ صينيةٍ, وكان التفاهمُ صادماً للغربِ بأسره ولأمريكا والكيان الصهيونيّ، وكان تفاهماً مُهمّاً للعراق والمنطقة ومحور المقاومة.
ولأجل ذلك نورد بعض التفصيل حول هذا الموضوع، ضمن نقاطٍ:
الأولى : أمريكا والتفاهم السعوديّ الإيرانيّ :
………………………………..
يبدو أنّ أمريكا تعاني الصدمة الكبيرة من التفاهم الإيرانيّ السعوديّ؛ لأسباب كثيرة تتعلّق بحساباتٍ جوهريةٍ، منها مستقبل بايدن، ومنها ما يتعلّق بدور الصين، ومستقبل العلاقات الأمريكيّة السعوديّة وغير ذلك، فكان تعبير بايدن في مقام الردّ على الاتفاق: « على العرب أنْ يتفقوا مع إسرائيل ». بينما قال المتحدّث باسم المجلس القوميّ الأمريكيّ جون كيربي : « إنّ أمريكا لا تعلم بهذا الاتفاق، وأنّ السعوديّة لم تُبلّغْ أمريكا بذلك ».
أقول: بعد أن تمكّنت إيران من أنْ تدعم وتستنهض خطّ المقاومة الإسلاميّ ضدّ أمريكا، فإنّ المتغيّر الكبير في الجغرافيا السياسية أشْعَرَ السعوديّة ودول الخليج المرتبطة مصالحُها مع أمريكا أنّها محاصرةٌ بعد قوّة المقاومة في لبنان وإيران والعراق وسوريا واليمن , نعم تمكّنتِ المقاومةُ أنْ تفرض وجوداً واضحاً في المنطقة، وهذا الوجود تمثّله عناصر القوّة المتعددة والشعوب الشجاعة , والذي شكّل طوقاً يحاصر السعوديّة .
إنّ شعور السعوديّة ودول الخليج بقوّة المقاومة وتفوقها وسلاحها وتطوّرها وصمودها في عموم المنطقة، جعل السعوديّة تطلب من أمريكا تفكيك الحصار عنها، خصوصا أنها غرقت في حرب ثمان سنوات مع الحوثيين، إلّا أنّ أمريكا لم تقدّم شيئاً إلّا مشروع ( الإبراهيمية ) .
وخلاصة هذا المشروع : أنْ تلتحق الدول الخليجية والعربية بالمشروع الصهيونيّ، مقابل أنْ توفّر لهم أمريكا الأمن، وبهذا استغلّت ضعف دول الخليج لتجبرها بخديعةٍ عاليةٍ للتطبيع، ولشراء مزيدٍ من السلاح الأمريكيّ .
إنّ السعوديّة لم تعد مقتنعةً بمشروع أمريكا، وشعرت بحراجة الموقف، وفقدان الحيل، واشتداد الأزمات، واستمرار الاستنزاف الذي يلقي بآثاره على الداخل السعوديّ، خصوصا مع تطوّر أدوات وسلاح المقاومة، ولأنّ المقاومة في المنطقة تنتقل إلى مديات كبيرة، وأنّ السياسة الأمريكيّة في واقعها لا تتجاوز في حلولها الاستفزاز والابتزاز، لذا أدارت السعوديّة نوعاً مّا وجهها إلى الصين، وأجرت معها اتفاقياتٍ كبيرةً.
ولأجل أنْ يتمّ تحسين العلاقة بين أمريكا والسعوديّة قام الريس الأمريكيّ بايدن بزيارة إلى المنطقة، ومن ضمنها السعوديّة بتاريخ 15 / 7 / 2022 م ، إلّا أنّ الزيارة كانت فاشلةً بوضوح؛ لأنّ السعوديّة بدل أنْ تزيد من انتاج النفط حسب الطلب الأمريكيّ أخذت تتجه إلى تخفيض الانتاج بمليون برميل، وقد رفضت أنْ تكون البديل في الطاقة لأوروبا بعد الصراع الروسيّ الأُوكرانيّ .
تلك المتغيّرات في الساحة السياسية في المنطقة، مع نمو قوّة المقاومة والممانعة التي صنعتها دماء شعوب المنطقة بأجمعها وقدرة الصين استطاعت السعوديّة أنْ ترى الشروخ البينية بين السعوديّة والصين، والحرج الذي تعيشه دول الخليج، جعل الرئيس الصينيّ يقفز قفزاتٍ عريضةٍ نحو المنطقة، فكانت زيارته إلى المنطقة بتاريخ 8/ 12 / 2022م التي أسست إلى شرقٍ جديدٍ، وخليج جديد، وعهد سياسي جديد .
إنّ السعوديّة قد تعمّق لديها الشعورُ أنّ أمريكا والكيان الغاصب لا يمكن أنْ يوفّرا الأمن لها من إيران، بل هم يستغلّون الخلافات لتعميق وجودهم، وبيع المزيد من السلاح، واستنزاف المال السعوديّ.
وتعمّق الشعور لدى السعوديّة أيضا أنّ العالم يتغيّر، وموازين القوى تتبدّل، وأنّ الموقع الجغرافيّ للسعودية محاصر، وأنّ سياسة القطيعة والحروب مع الدول المجاورة، لم تعد مجدية، من هنا ذهبت بنفسها للحوار مع إيران عبر الصين الدولة المهمّة التي تريد أنْ أنْ تجد لها مكاناً في الشرق الأوسط، كما عبّر بذلك الرئيس الأمريكيّ بايدن .
الثانية: مؤشّرات التفاهم بين إيران والسعوديّة :
إنّ التفاهم الأوّلي والجوهريّ الذي حصل بين البلدين يؤشّر جملةً من الأمور الحساسة والجوهرية، وهي :
(1). أنّ الصين سوف ترسّخ دورها في المنطقة .
(2). إنّ السعوديّة أدارت ظهرها نوعاً ّما إلى أمريكا والغرب، وأنّ السعوديّة التي كانت دولةً لا تتخذ قراراً إلّا بموافقة أمريكا نجدها منذ عام 2022 تتخذ قراراتٍ صادمة لأمريكا وبعيداً عنها، وتتصف بأنّها قرارات مستقلّة، وتحاول أنْ تمارس الحوار الجادّ في المنطقة بعيداً عن أوامر أمريكا، وهذا ما كشفته الجولات الخمس بينها وبين إيران عبر العراق .
(3). الأمن هو جوهر الاتفاق :
إنّ توقيع الاتفاق من قبل شمخاني المسؤول الكبير في الأمن القوميّ الإيرانيّ ومسعد بن محمّد – وهو الآخر مسؤول مماثل في الأمن القومي السعوديّ – يرسّخ حقيقة أنّ الأمن هو جوهر الاتفاق، وإنْ كان الاتفاق يتضمن أبعاداً أخرى كالتبادل التجاري والاقتصاديّ والدبلوماسيّ وتبادل السفارات والقنصليات .
(4). تأجيل الملفّات الساخنة:
الملفّات الساخنة في المنطقة تم تأجيلها، وأنّ قسماً منها سيكون على جدول عمل الخبراء من البلدين، ولهذا وجدنا ترحيباً عراقياً وحوثياً وترحيبا واضحا من السيّد حسن نصر الله .
(5). الاتفاق بين البلدين أفشل مشروع الإبراهيميّة:
إنّ الاتفاق بين السعوديّة وإيران قد أفشل تقريبا مشروع الإبراهيمية، وأفشل التطبيع، وأفرغه من محتواه كمشروع أمريكيّ لإنقاذ دول الخليج، بل أنّ دول الخليج لم تعد مقتنعةً بانه الحلّ .
(6). رفع سقف مطالب السعوديّة أمام الغرب وأمريكا:
إنّ السعوديةّ سوف ترفع سقوف مطالبها أمام الغرب وأمريكا – وفق سياسة الاستقلال النوعي – بأنْ تطالب بمشروع نووي سلمي .
(7). ستلتحق دول الخليج بالسعوديّة:
إلّا الامارات، ولكن هي الأخرى سوف تلتحق عاجلاً أم آجلا، بل حتى مصر هي الأخرى سوف تلتحق بقطار التفاهمات المحلّية، وسوف يكون بينها وبين أيران تفاهمات قريباً .
(8). إنّ إيران التي خصبت اليورانيوم بنسبة 84% وهي نسبة تقلّ عن نسبة التخصيب العسكريّ يحمل السعودية على المقارنة وتفكير الجديّ بين ايران المحاصرة من أمريكا، وحجم تطورها، وبين السعوديّة الذيل ونسبة تخلفها، وعمق مشكلاتها، وفشل أمريكا في انقاذها، حتى بلغ بالأمريكان إلى القول: « إنّ السعوديّة بقرة حلوب ».
(9). سوف يتحسّن الاقتصاد المحلّي لدول المنطقة ولإيران، سيما أنّ مشروع (بريكس ) علي الأبواب، وسوف تخفّ الأزمات في المنطقة، وفي إيران؛ لأنّ السعوديّة مموّلة للاضطرابات في إيران، وخير دليل قناة ( إيران انترنشنال ) التي تبث بالفارسي من بريطانيا .
(10). ربما لا تجدُ إيران حال تحسّن اقتصادها في وضعها الداخلي الحاجة إلى توقيع الاتفاقية النووية ولا تحتاج إلى أمريكا إلّا إذا تنازلت أمريكا، خصوصا أنّ الاتفاق السعوديّ الإيرانيّ يتضمّن تفاهمات لاحقة في الاقتصاد، كما أنّ إيران وقّعت مع الصين تفاهماتٍ اقتصادية لمدّة (25) عاما بمبلغ قدره (400) مليار دولار .
(11). موضوع الضربة الاسرائيلية للمفاعلات الإيرانيّة أصبح محاطا بظروف غير مناسبة لإسرائيل بعد التفاهم السعوديّ الإيرانيّ، وإنْ كان هذا الاحتمال يبقى قائماً، لكنه بعيد؛ لأنه مصدر قلق لدول الخليج .
(12). إنّ إيران لم تقدم على خطوة التفاهم مع السعوديّة من منطلق الضعف، بل من منطلق القوّة، إذ عززت قوّتها بمحاور محلّية ودولية متعددة وهي :
(أ). التفاهم الوثيق مع الصين والروس .
(ب). تعميق الترابط مع الطوق المقاوم في المنطقة ودعمه .
(ج). تقوية أدواتها الداخلية في التسليح والتطوّر التقني .
(د). العودة إلى المنطقة لإجراء تفاهمات خليجية من منطلق القوّة، لذا نجد أنّ السعوديّة قبلت كلّ الاشتراطات الإيرانيّة .
(13). كنتيجة طبيعة للاتفاق الذي حصل بين السعوديّة وايران دون علم أمريكا سوف تتجه السعوديّة أكثر إلى الشرق، وستمنح الصين مزيداً من النفط والعقود والتبادل التجاريّ، وهكذا إيران، وبهذا يمكن للصين أنْ تقول: إنّها أنجزت الكثير، وبالمقابل من المستبعد أنْ تزوّد أمريكا السعوديّة مستقبلا بالسلاح في ظلّ التبدلات الراهنة، خصوصا إذا تمكّنت الدبلوماسية الإيرانيّة من أن تتجه بقوّة إلى ترويض السعوديّة، وتفكيك الملفّات المعقدة في اليمن ولبنان .
الثالثة: الآثار الإيجابية للاتفاق بين السعوديّة وإيران على العراق :
لعب العراق دورا مميّزا في الحوارات وتقريب وجهات النظر بين البلدين منذ زمن مبكر، ولكن أغلب الجهد تحملته حكومة السيّد السودانيّ، بإدراك عميق منه أنّ العراق يمكن أنْ يتحرّك بمساحةٍ أكثر للعمل والبناء والتنمية والاستفادة من المحيط الإقليميّ والدوليّ حال تمّ تفكيك الأزمات القائمة والتي تنعكس بشكل مباشر على العراق, سيما أنّ الرئيس شيّاع السودانيّ يرسم استراتيجية طويلة الأمد لمنهجه السياسي الداخليّ والذي يحتاج الي بيئة داخلية وخارجية، وهو يدرك أنّ الصراعات أوقفت المنطقة على الحافات الأخيرة، فلا بدّ من التفاهم، وإلّا المزيد من الصراع .
إنّ العراق يمتلك العقلية العميقة من خلال الجمع العقليّ للإطار، والذي تتمازج فيه الخبرات والتجارب والرؤى وخلاصة المشتركات الاطارية : أنّ العراق يحتاج إلى أنْ يتخذ سياسة الدبلوماسية المتوازنة والذكية، وأنْ يوفّر له بيئة تمنحه مساحة التحرّك، وأنّ بناء الدولة داخليا لا بدّ أنْ يعتمد على رفع مبررات المحاور الداخلية، وتغليب السلطة العليا والقانون والدستور .
هذه العقلية والقناعات التي يشترك فيها أغلب الإطاريين هي قناعات طرحتها النجف الأشرف مبكراً، وسارت عليها الحكومات السابقة منذ عهد السيّد نوري المالكيّ، إلّا أنّ العقل الطائفيّ السعوديّ لم يتمكن أنْ يستمع ويتقبل المتغيّر الكبير في الواقع العراقيّ الذي حصل بعد 2003 ممّا أدّى إلى أنْ تجري حروب طاحنة، وخسارات فادحة كبيرة .
السعوديّة التي كانت تمانع وجدت نفسها اليوم تطاوع ومقتنعة بالحوار بعد الانتصارات الكبيرة التي حققها محور الاطار في العراق، والدبلوماسية العالية التي مارستها إيران والقوّة المتكاملة في المنطقة من فلسطين إلى لبنان وسورية والعراق وايران .
ومن هنا لعب العراق دوراً محورياً في تقريب وجهات النظر بين السعوديّة وإيران, وكادت المفاوضات تموت لو لا سعي السيّد السودانيّ في إحيائها.
وبطبيعة الحال فإنّ هذا الاتفاق الأوّلي – إنْ صحّت تسميته – سوف يلقي بآثاره الايجابية على العراق وفق الأبعاد التالية :
(أ). سوف تتعزز جبهة الداعين إلى الحوار وعدم التصعيد، وإبقاء مجالات للتفاهم مهما كلّف الثمن .
(ب). إنّ الإطار سيجد نفسه منتصراً فهو المؤثر في رسم السياسة الإقليمية، وإحداث التغييرات، ويجد موقعه كبيراً في المحيط الإقليميّ والدوليّ.
(ج). سيجد العراق إمكانية أخرى لتفكيك الكثير من الأزمات الداخلية مع المتشددين من السنّة والكرد.
(د). سيجد الاخ السودانيّ نفسه محقّاً في أنْ يطرح نفسه كأحد اللاعبين المهمّين في العراق والمنطقة، لكنه لا يحقق هذا الطرح ما لم يسند النجاح إلى قاعدةٍ عريضةٍ من القوى السياسية، ويكون مساره منهج الكل وليس الفرد.
(هـ). إنّ المقاومة والدماء التي بذلتها في لبنان والعراق واليمن وسورية هي التي أوصلت السعوديّة إلى قناعةٍ أنّ المنطقة تحكمها توازنات جديدة، ولا بدّ أنْ تستجيب لها عاجلاً أو آجلاً، وأنّ مفتاحها بيد العراق وايران، كما أنّ السعوديّة هي مفتاح الخليج نحو التفاهم السلميّ بين البلدان الاسلامية بديلا عن التطبيع .
(ز). العراق بعد تفكك الأزمات – ولو بحدٍّ معيّن – وبعد عودة الدبلوماسية والشروع بسياسة إرخاء القبضة السعوديّة والأمريكيّة والاسرائيلية في المنطقة سيجد الحرية في قراراته من دون عتب من الشرق أو الغرب .
(ح). بعض الخبراء يرون أنّ العراق انتقل من سياسة المحاور إلى سياسة المعابر؛ إذ أنه شكّل أحد أهمّ معبر، وطريق للتفاهمات الجذرية المهمّة، وكلّما تطوّرت الدبلوماسية الإيرانيّة السعوديّة كلّما وجد العراق الظروف أكثر ملائمة للنهوض وبناء الدولة .
(ط). إنّ الأطراف التي كانت تتغذّى وتغذّي الخلافات الإقليمية والطائفية والمكوّناتية من آل البرزانيّ، وبعض الأجنحة المتطرّفة من السنة والبعثيين تجد لا سبيل إلّا التفاهم الداخليّ، وتقليل الضغط على الحكومة الاتحادية .
الخلاصة :
إنّ الاتفاق بين السعوديّة وإيران أنتجته ظروف متعددة، وحروب طاحنة، وخلافات عميقة، أملت على المنطقة تغيير القناعات، وتبديل السياسات، والسير نحو التفاهمات .
التفاهم الإيرانيّ السعوديّ هو الخطوة الأولي، ومن هنا نجد أننا بحاجة إلى أنْ نتريث كثيراً بإطلاق الاحكام عن المستقبل؛ فإنّ إسرائيل لا يمكنها السكوت، وهكذا أمريكا لأنّه سكوتها يقود إلى انهيارها، كما أنّ الخطوط الداخلية في العراق وحتى في إيران والسعوديّة المستفيدة من الحروب قد لا تجد في هذا الاتفاق مكانها؛ لأنها نمت في ظلّ الخلافات .
يبقى كلام قيد الدراسة :
فهل التفاهم السعوديّ الإيرانيّ ناتج عن أُفول نجم الغرب والسعوديّة وصعود نجم الصين والشرق ؟ . وهل إيران والسعوديّة لديهم القدرة على تفكيك الأزمات في المنطقة، وإلغاء آثار الحروب ونتاجاتها المتكلّسة والمتعمّقة؟ وهل تتقبل الأطراف الأخرى المؤيدة لإيران السير بنفس الاتجاه مقابل أنْ تتقبل السعوديّة الواقع، وتمارس سياسة برغماتية؟ هذا ما يكشف المستقبل البعيد.