د. محمد سيّد أحمد-البناء
على الرغم من أنّ الشعوب العربية لازالت تتوحّد حول موقف واضح وصريح من العدو الصهيونيّ، يؤكد أنه العدو الأول المغتصب لفلسطين العربية والمعتدى على أراضيها منذ ما يزيد على قرن من الزمان، وأنه منذ إعلان العدو دولته المزعومة في عام 1948 ونحن ندخل معه في صراعات وحروب نتج عنها مزيد من التوسعات في الأراضي العربية المحتلة في دول الجوار الفلسطيني (مصر – سورية – الأردن – لبنان) وعلى الرغم من محاولات العدو الصهيونيّ من إنهاء هذا الصراع عبر ما يطلق عليه اتفاقيات السلام المزعومة إلا أنّ الشعب العربي لم ولن يعترف بهذه الاتفاقيات، بل يعتبر كل علاقة أو تقارب مع العدو الصهيوني خطأً تاريخي لا يغتفر، فليس من حق أي حاكم عربي أن يساوم على حقوقنا المشروعة في فلسطين المحتلة.
والشعب العربي من المحيط الى الخليج يتمركز بشكل رئيس وراء موقف الحكام العرب الذين وقفوا حجرة عثرة أمام أحلام العدو الصهيوني وفي مقدمتهم الزعيم الخالد جمال عبد الناصر الذي رأى أن الصراع بيننا وبين العدو الصهيوني صراع وجود وليس صراع حدود، فمعركتنا مع هذا العدو تتمثل في اقتلاعه بشكل نهائي من الأرض العربية المتمركز فوقها والمحتلّ والمغتصب لها فليس للعدو الصهيوني أي حقوق تاريخية فوق الأرض العربية، لذلك لا عجب عندما يقرر جمال عبد الناصر وبعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967 في قمة مؤتمر الخرطوم أنه «لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض»، ثم يعود ليؤكد أنّ «ما أخذ بالقوة لا يستردّ إلا بالقوة».
وجاء من بعده الموقف الصلب للقائد الخالد حافظ الأسد الذي رفض أي سلام مع العدو الصهيوني وأسس لمحور المقاومة في مواجهة هذا العدو، ورحل من دون توقيع أي اتفاقيات مذلة مع العدو الصهيوني وترك وصيته الشهيرة «أفضّل أن أورث شعبي قضية يناضلون من أجلها.. خير من أن أورثهم سلاماً مذلاً يخجلون منه»، وجاء من بعدهما الرئيس بشار الأسد الذي لا يزال يؤكد حتى اللحظة على حقنا في استرداد كامل التراب العربي المحتل والمغتصب من العدو الصهيوني، وهو الموقف الوحيد على المستوى الرسمي العربي المتمسك بحق المقاومة لهذا العدو الصهيوني، في ظلّ مرحلة يهرول فيها الحكام العرب تجاه هذا العدو ويقيمون معه علاقات (سريّة – وعلنيّة) من دون مراعاة لمشاعر شعوبهم الرافضة لأي شكل من أشكال التطبيع مع هذا العدو الصهيوني.
وكانت الطعنة الأولى للشعب العربي هي معاهدة السلام المصرية – الصهيونية المزعومة في عام 1979 التي وقعها الرئيس السادات بعد زيارته للقدس وخطابه الشهير بالكنيست في عام 1977، وبعد اتفاقية كامب ديفيد الموقعة في عام 1978، حيث دخل التطبيع بين مصر والعدو الصهيوني حيّز النفاذ في يناير 1980، وتم تبادل السفراء، وألغيت قوانين المقاطعة لإقامة علاقات ودية بين الطرفين، وبالتالي كان ذلك هو أول خرق تطبيعي عربي رسمي مع العدو الصهيوني في تحدّ صريح ومعلن للموقف الشعبي. وبعد ذلك جاءت الطعنة الثانية للشعب العربي بتوقيع ياسر عرفات اتفاقية أو معاهدة أوسلو في عام 1993 والمعروفة باسم إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي وهو اتفاق سلام مزعوم شكل طعنة حقيقية للشعب العربي لأنه اعتراف فلسطيني ببقاء العدو الصهيوني للأبد على الأرض الفلسطينية المحتلة، ولم يكن غريباً بعد توقيع أوسلو أن تأتي الطعنة الثالثة من العاهل الأردني الملك حسين بتوقيعه معاهدة سلام مزعومة مع العدو الصهيوني عُرفت بوادي عربة في عام 1994.
وإذا كان هذا هو موقف دول المواجهة مع العدو الصهيوني والذي يمكن فهمه بناءً على المواجهات والحروب الصريحة، فالعجيب حقاً هو موقف دول الخليج البعيدة عن المواجهة والتي شكلت تاريخياً محور الرجعية العربية الخائنة والعميلة والتي مارست كل أشكال التطبيع مع العدو الصهيوني من تحت الطاولة، لكنها تهرول الآن لإعلان خيانتها وعمالتها أمام العالم أجمع وإذا كان السلطان قابوس قد قرّر قبل رحيله إعلان موقف بلاده التطبيعي مع العدو الصهيوني بدعوة رئيس الوزراء الصهيوني لزيارة بلاده، فاليوم تعلن دولة خليجية جديدة وهي الإمارات العربية المتحدة دخولها حظيرة التطبيع مع العدو الصهيوني «والحبل على الجرار»، كما يقول المثل الشعبي لأهالينا ببلاد الشام.
وما يثير الدهشة هو الموقف الشعبي الذي كان في الماضي يتحرّك بقوة، وتخرج الجماهير في كل العواصم العربية مندّدة بموقف الحكام التطبيعيّ، أصبحت الآن ورغم رفضها إلا أنها لا يتحرك لها ساكن، وهو ما جعل البعض يؤكد على مقولة نابليون بونابرت «أنّ الجيوش تزحف على بطونها»، لكن بتعديل بسيط وهو «أن الشعوب تزحف على بطونها» فلم تعد الشعوب العربية تهتم إلا بإشباع بطونها الجائعة، ولم تعد تهتم بما يفعله حكامها، حيث يرى هؤلاء الحكام خاصة حكام الخليج أن التقارب والتطبيع مع العدو الصهيوني هو الضمانة الحقيقية للبقاء فوق كراسي الحكم في بلدانهم، اعتقاداً منهم بأن هذه هي رغبة السيد الأميركي، لذلك يهرولون وراءه من دون أي اعتبار لشعوبهم، لكن هذا الموقف لن يظل طويلاً، فالقضية الفلسطينية ورغم هذا الصمت الشعبي العربي لا زالت تشكل القضية المركزية في ضمير الأحرار، وسيظل الشعب العربي المقهور رافضاً للتطبيع مهما انبطح الحكام، وسوف تتحرر فلسطين بفضل المقاومة البطلة والشجاعة، اللهم بلغت اللهم فاشهد.