بقلم: حيدر آل حيدر الاجودي – مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية
لم تنكشف غمة جائحة فيروس كورونا بعد، لكن التداعيات كشفت وتكشف أن العالم كله لا قبل له بمزيد من الانغلاق والحجر الصحي، فمن أجل الحفاظ على الحياة فرضت الدول أقسى الإجراءات فيما يخص حظر التجوال والسفر بينها فضلا عن الانتقال بين المناطق في الدولة الواحدة، ومن أجل الحفاظ على الحياة يتجه العالم إلى رفع الرايات البيضاء ليس استسلاما للوباء بل رضوخا لضغط الشلل الاجتماعي والاقتصادي الذي لم تسلم منه أي دولة من دول العالم منذرا بقطع الأرزاق.
ربما المهم هو انتهاء مرحلة الذعر من الوباء والاستعداد لمعايشته بحيطة كبيرة بعد تنامي الوعي بخطورته، قراءات ترى أن كل الرهانات معقودة على الأرضية الجديدة للعودة الحذرة، وقراءات أخرى تجزم بأنه في انتظار التعافي بلقاح أو من دونه لا بديل عن دوران عجلة الاقتصاد العالمي.
فهل توجه العالم اليوم إلى تخفيف الإجراءات والحد من سياسة الإغلاق نتيجة الضغط الاقتصادي أم لتراجع خطر فيروس كورونا؟، فقد بدأ العالم يتفهم الوضع ويتعايش مع فيروس كورونا وبالتالي أغلب الشعوب تريد أن تخرج من حالة السكون والعودة لممارسة الحياة الاعتيادية، فشرعت أغلب دول العالم برفع رايات سلام مع الفيروس، وربما يستطيع الإنسان بوعيه والتزامه بالضوابط الصحية الصحيحة عقد نوع من التفاهم مع هذا الفيروس ريثما يتم القضاء عليه كليا، بحيث لا يضيع الصحة الاقتصادية للفرد وللمجتمع بأكمله، فهناك تحالف بين الحاجة الاقتصادية الملحة لعودة دوران الاقتصاد، وبين الثقة الكبيرة بأن الفيروس قيد التراجع وربما السيطرة عليه مستقبلا.
الوعي سلاح الفرد
إن سبب الإجراءات التي فرضتها الحكومات في كل الدول هو لعدم وعي الشعوب من مخاطر الفيروس في الأسابيع الأولى من انتشاره، فهل أصبحت الشعوب اليوم أكثر وعيا من السابق لتكون الحكومات أكثر جرأة على القبول بالعودة إلى الحياة الطبيعية تدريجيا؟، بعد مرور أكثر من أربعة أشهر تقريبا ولازالت مسألة الوعي عند الشعوب فيما يخص الوقاية ضعيفة نسبيا، وما يزال الجدل يدور بين الأوساط في ما الذي جرى هل هو فيروس طبيعي أم مخلق، هل نشأ في الصين بعلم الحكومة الصينية أم بتواطؤ دولي، هل هو فيروس أم بكتيريا؟، كل هذه الجدالات لعبت فيها الأجندات السياسية والإعلامية دورا تدميريا سواء عن وعي أو عن جهل، وبصرف النظر عن كيف بدأت هذه القصة فنحن أمام أمر واقع من خلاله نلمس النتائج العملية لهذا الواقع ولا سبيل للتعامل مع الواقع سوى الوعي، ومن هنا أخذ الإنسان الفرد زمام المبادرة لأن المسألة تتعلق بصحته النفسية والجسدية والعقلية، وأيضا يتعلق الأمر بالصحة الاقتصادية على المجتمع ككل لأن الأمرين يتعلقان بمسيرة الحياة، فربما سيصبح الوعي أمر واقع بعيدا عن نسج الخيال.
تزامن الإجراءات
كانت عمليات الإغلاق الحدودي والحجر الصحي في الدول متفاوتة في التوقيت وصرامة التطبيق، وربما سيكون إعلان رفع الحجر أيضا متفاوت ومتقارب بين الدول، لأن إمكانيات الدول واستعداداتها كانت متفاوتة منذ البداية بسبب وصول الفيروس والإصابة في الدول متفاوتة، وهذا ما يفسر تقارب حركة الدول بعمليات الإغلاق والحجر ومعالجات الحالات المصابة من أجل الحد أو تقليل المخاطر على البشرية، واليوم بدأ الجميع يدرك خطورة الاستمرار بعمليات الغلق ويجب التعايش مع الفيروس كأمر واقع للتخلص من الكساد الاقتصادي الذي سببه الفيروس الجائح.
مناعة القطيع
بعض الشعوب ذهبت بالاعتقاد السائد بأن فرض تدابير أكثر صرامة لن ينقذ البشرية من الجائحة بعد اليوم، مما شجعهم نحو كسر الحظر وعدم الاهتمام بالتعليمات الصحية، وهذا الأمر كان واضحا في أغلب الدول الأوروبية، فقد عانت هذه الدول كثيرا من كورونا فلم تتوقف عجلة الاقتصاد الأوروبي منذ أكثر من 100 عام بهذا القدر الذي تشهده اليوم، مما تسبب بتقليل الإجراءات المفروضة وتزايد أعداد المصابين فيها لعلهم يستطيعون الوصول إلى التعايش السلمي عبر فرضية (مناعة القطيع)، فليس هناك مثال أعلى يحتذى به ولا يوجد تجربة مثالية يقتدى بها، فكل الدول ذهبت لمعالجة كورونا بالحذر الصحي والتراجع خطوة إلى الوراء.
العبر المستفادة
لم تمر جائحة كورونا دون أن تكشف الكثير من الأمور التي ستترك أثرها لأعوام كثيرة قادمة، سواء على النظام العالمي أو على تركيبتنا نحن كبشر؛ فخلال الأشهر القليلة الماضية، ومع تفشي هذا الوباء عالميا، أتضح لنا أن النظام العالمي في حاجة ماسة إلى إصلاحات جريئة وجذرية، لعلاج ما اعتراه من ترهل، ولعل أهم الدروس التي استفاد منها العالم من جراء تفشي الجائحة وربما ستكسبنا مناعة في المستقبل والبدأ بمرحلة جديدة وهي مرحلة التعايش مع الفيروس:
– التجبر والغطرسة: قبل أشهر كان العالم الأوروبي والغربي يستطيع فعل أي شيء ولا يقف أحد بوجهه سواء على المستوى العسكري أو الاقتصادي ولكن المفاجأة التي جاءت ووقف الكل أمامها متحيرا هي ظهور فيروس غير معروف وغير مرئي ضرب العالم وجمد نصف سكان الأرض وأضطرهم للبقاء في منازلهم، فهذا الأمر ربما سينهي الفكر المتغطرس والمتجبر عند بعض الدول التي تحاول السيطرة على العالم.
– إنسانية ضائعة: وجهت الولايات المتحدة أصابع اللوم إلى الصين بانتشار الوباء عالميا وأعلنت تجميد تمويلها لمنظمة الصحة العالمية، وإيطاليا اتهمت دول الاتحاد الأوروبي بالتخلي عنها في أزمتها وتركها وحيدة في مواجهة الوباء الفتاك، وذاك طبيب فرنسي يطالب بتجربة لقاحات فيروس كورونا الجديدة على الأفارقة، وتلك نائبة كويتية تطالب برمي العمالة الوافدة في الصحراء، وآخرون في أوروبا وأمريكا يطالبون بإعطاء الأولوية في العلاج للأطفال والشباب وترك كبار السن يواجهون مصيرهم، كل هذا وغيره الكثير والكثير من الأحداث المرتبطة بانتشار جائحة فيروس كورونا المستجد والتي كشفت عن وجود نظام عالمي هش، وإنسانية ضائعة، وعنصرية متأصلة داخل مجتمعات كنا نظنها حتى وقت قريب مثالا في التحضر.
– العلم الحبيس: البحث العلمي هو فرس الرهان بين جميع الدول العالمية، وأنه لو خصص له نصف ما خصص لميزانيات شراء الأسلحة وتصنيعها عالميا من تريليونات الدولارات، لما آلت الأمور لهذا الوضع المعقد عالميا، وهو ما يبرهن عليه تراجع العقلية العالمية التجارية للخلف تاركة المقدمة لجنود مجهولين ـ من باحثين وأطباء وعلماء.
ختاما
مع شدة أزمة فيروس كورونا وتداعياتها الصحية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فقد أصبح من الضروري الآن أن تضع وزارات الصحة في كل الدول سيناريوهات وخططا لما بعد مرحلة كورونا، للاستفادة من التجربة والدروس، فقد أثبتت أهمية تفعيل العمل بروح الفريق الواحد من جانب جميع التخصصات بجميع المواقع، أما من حيث آلية اتخاذ القرارات المتعلقة بالصحة فقد انتقلت إلى أعلى المستويات وهو ما يضع منظمة الصحة العالمية أمام تحد سياسي كبير، وعلينا أن لا نهمل التدابير الصحية فهي أسباب مشروعة يتخذها الإنسان تفادياً للشرِّ، وهي كسائر تدابير الناس المتنوعة التي ألهموها لجلب المصالح ودرء المفاسد، ولا تنافي التوكل على الله، فلنتوكل على الله ولنفوِّض إليه أمرنا مع الأخذ بالأسباب؛ فإن إهمال الأسباب ليس توكلاً، بل هو تواكلٌ مذموم.
* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2020 Ⓒ